العدد الخامس  - صيف 2008م

   
 

متابعات
 

سليمان العيسى في نبرته الهادئة(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                   ملكة أبيض
 

عُرف سليمان العيسى شاعراً قومياً جماهيرياً. بدأَ إلقاءَ الشعر على أطفال قريته، ثم على رفاقه في المدرسة، فعلى مواطنيه في "نادي العروبة" بأنطاكية، وفي شوارعها. همّهُ الأول لم يكن الشعر، بل النضال في سبيل قضية كبرى:

"لستُ شاعراً...

أرضُ الآباء والأجداد، أمُّ الشعر، وخالقةُ الشعراء،

تريدني شيئاً آخر...

تريدني حُلماً أصلبَ من الحقيقة، وأكبر من الواقع،

وأبعد من حدود "الجُثَّة" التي تتحرك

ما بين المحيط والخليج...

تريدني عربياً يبحث عن هُويته...

عن جوهر وجوده...

عن جذوره العميقة في أرضه،

يبحث عن أمته...

نعم، عن أمته العربية".

 

وسار في هذا الدرب الشائك ما يزيد على نصف قرن، وهو يقاتل بالكلمة، بصوت مُدَوٍّ، بل ومجلجل، في معظم أرجاء الوطن العربي. وتلقَّته جماهيرٌ عطشى، تتوق إلى الخلاص من الهاوية التي أوقعتها فيها عصورُ التجزئة والاحتلال. كانت تردّد معه مثل هذه الصيحة:

"أمةُ الفتح لن تموتَ، وإني

أتحدَّاك –باسمهِا- يا فناء!"

                        * * *

وتجيء كارثة حزيران عام 1967 التي قال فيها:

"الكارثةُ تغل روحه...

تسدُ عليه المنافذ...

تذبحُ في عينيه النور، تدفنه حياً...

طوال عام كامل لم يستطع أن يقول بيتاً...

أن يكتب كلمة...

طوال عام كامل كان يتنفس الذُلّ

ويختنق بالعار...

ومن يختنق فإنه لا يستطيع أن يكتب".

 

تلك كانت بداية انهيار الحلم. وتلمسها الخيبات، واحدة إثْر أخرى. ويحمل الشاعر أحلامه الموؤودة وينهض. يبحث عن كوىً للأمل، والحركة. ويبدأ من جديد، مرةً بعد مرة. ومع كل بداية كانت النبرةُ تَخْفُت، والحكمةُ تحلُّ محل الاندفاع.

في أدب الأطفال، الذي اختار اللجوء إليه مع اشتداد الضربات، تناولَ موضوعاتٍ تتصل باهتمامات الصغار وحاجاتهم؛ فتحدث عن الطبيعة، والألعاب، والهوايات، والأسرة، والمدرسة، والأحلام والآمال، والعمل، الوطن... ونوَّع طرق المخاطبة، فقال الشعر، وكتب المسرحية والقصة، الواقعية والخيالية، وعرَّب آثاراً أجنبية لإغناء هذه التجربة، أو شارك في تعريبها.

وفي نتاجه للكبار رأى الابتعاد عن الأحداث المباشرة، بقدر يُتيح له الإصغاء إلى العالم الخارجي، وتأمُّل ما وراء الواقع، وإلى عالمه الداخلي الذي أغفله فيما مضى، أو قُلْ صَهَره في الهم العام. ففي "الثمالات"، بأجزائها الخمسة، وغيرها من نتاجه خلال هذه الفترة الأخيرة، توزَّع نتاجه بين الشعر والنثر، وبين عدد كبير من الموضوعات التي أراد فيها أن يقدّم نفسه للقارئ، بكل ما فيها من انفعالات وأفكار ورؤى وهواجس. ولا أدلَّ على هذا التنوع من التعريف الذي يعطيه فيها للقصيدة، والذي يقول:

"القصيدة...

تكونُ في اللون، وفي الغناءْ

في سكرةِ القُبلة...

في غدائرِ امرأة...

في وقفةِ الشموخ والإِباءْ

وفي جنون الحب...

في هدأةِ المساء،

في نيران مِدْفَأَة...

في نقرةٍ على ضُلوعِ العودْ

في غيمةٍ ترحلُ لا تعودْ".

 

وأودُّ في هذه الكلمة السريعة أن أقدِّم نماذج عن هذه القصائد الهادئة التي يبوح فيها عن مشاعره. من هذه النماذج قصيدة صغيرة يعبّر فيها عن نفوره من المشاحنات حول القضايا التي خاض فيها المبدعون والنقاد في أيامه: الحداثة والتقليد، الشكل والمضمون، الالتزام والتحرر... إلخ. فيقول:

 

"خَلِّني في الظلِّ...

إنَّ الظلَّ أَغنى

إنه أبهى، وأَسْنَى

إنني أَملؤُه... يَمْلَؤني

فكراً وفناً

وشروداً في فجاج اللانهاياتِ،

وإِمتاعاً، وحُسْنا...".

ومنها القصيدة التي رثى فيها الشاعر نزار قباني، وهي تمثل نوعاً جديداً في هذا الباب. سأكتفي بمقطع منها:

 قالتِ الأزهارُ يوماً:

ماتَ شاعرْ...

وحَنَتْ أوراقَها حزناً عليهْ.

تنتمي الأزهارُ والعطرُ

إلى الشعرِ، إليهْ

ينتمي الروض وأسرابُ

العصافير إليهْ...

ينتمي ماءُ الجداولْ

تَكْبُرُ الأعشابُ إذ تُصغي إليهِ والسنابلْ

قلتُ: بل ماتَ جسد

حطَمَ الصخرُ على الشطِّ الزَّبَدْ.

لا تموتُ الكلمةْ...

"إنها في البدْءِ كانتْ..."

وستبقى الشاعرةْ...

إنها قصيدة هادئة إلى أبعد الحدود، في مواجهة قضية الموت، موتِ شاعر، هل يموتُ الشعرُ بموت قائله، أم يبقى صدىً بعده؟ وإذا ما بقيَ، فهل يملك الحياة والعنفوان الذي يُضفيه عليه الشاعرُ حين يُبدع؟ في آخر القصيدة إجابة قاطعة على لسان القصيدة نفسها:

إنني بِنْتُ الحياةْ...

وَرَقُ الوردِ، كبيتِ الشعرِ،

لا يُقنعُه رَجْعُ الصدى

أَعْطِني الصوتَ، وخُذْ رَجْعَ الصَّدى

إنني أُوثر أن أحيا،

وأنْ تحيوا معي،

ولنَقتسمْ بحدَ العطاءْ.

وقبل أن أُنهي هذه النماذج أرى أن أتوقفَ قليلاً عند قصيدة غَزَل أو حنين بعنوان "مسافرة"، كتبها الشاعر في مطلع 2006، أثناء غياب رفيقته في رحلة اضطُرت إلى القيام بها بمفردها. وفيها لا نكاد نعرف ما الشعور الذي كان يريد أن يعبّر عنه من خلالها، هل هو الشوق؟ هل هو القلق؟ هل هو الفراغ الذي أَحسَّه بغيابها؟ هل هو كلُّ ذلك؟ لِنستمعْ إليه يقول:

أُفَتِّشُ عنكِ في الأفقِ

أُفَتِّشُ في حنايا الغيمِ...

في الليلِ...

الذي ينداحُ في عينيَّ

أمواجاً منَ الأرقِ

أُفَتِّشُ عنكِ في نومي، وفي صَحْوي،

وفي فجري، وفي غسقي...

أُثَبِّتُ في الرصيفِ عَصَايَ،

إني خائفٌ، جازعْ

أُفَتِّشُ عنكِ...

كيف بلا يديكِ سأَعْبُرُ الشارعْ؟

أُفَتِّشُ عنكِ...

حينَ أُديرُ مفتاحي بباب البيتِ،

أُخفي عنه

كلَّ هواجسي، قَلَقِي...

مُسافرةٌ؟

مَتَى تأتينَ؟

ينهمرُ السؤالُ غَمامةً،

أنهَدُّ فوق عَصايَ،

أبحثُ في ضَبابِ رُؤَايَ

عن خيطٍ من الشفقِ...

وهنا، لا بد لي من القول إن سليمان الشاعر، في نَبرته الهادئة، لا يختلفُ جَذْرياً عمَّا هو في نبرته العالية، الصاخبة. إن الكلمة الجميلة تستطيع الوصول إلى أعماق السامعين وتهزُّهم، سواءٌ أكانت عالية، أم خافتة. وما يعطيها جمالها هو الهم الذي تحمله بظلاله وألوانه التي يلقيها على كل ما يمرُّ بالشاعر في شريط حياته الذي نسمّيه العمر: الحزن، الفَرَح، الحب، الطبيعة، المرأة، الوطن، الأطفال، الناس، الأصدقاء، الخصوم... إلخ. وهذا الهمّ هو السمة الأولى لنتاج الشاعر، وهو الطابع المميِّز لكل ما قاله، والنهر الذي تتفرع عنه كل السواقي.

 دمشق 15/3/2006