متابعات
في ديوان «لمعُ سراب»*
الشاعر عابد إسماعيل
صوتٌ يشقّ الماءَ ويلوّنُ الريح
()
مرام
اسلامبولي
كاتب من مصر
حين يكون السرابُ
صيادَ الرؤية فللزرقة معنى... أما حين يكون للشاعر نولٌ يحوك به الريحَ من
الريح ِكي يداوي المسافة بالهبوب، أو حينَ شاعرٌ يعلق النجمةَ زراً على
قميصه... يلمسُ الهدوءَ... يتحسس نبضَه ويرفعه إلى أعلى الضوء.. سماؤُه مسقوفةٌ
بالساعات، وصرخته نيزكٌ يلهو بقبرٍ؛ فحينها... حينها حتماً ستشغف الروح بالشعر،
كما يشغف تائهٌ في الصحراء بلمع سراب...
«لمعُ سراب»،
المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر السوري عابد إسماعيل، مونولوجٌ وجداني يتوزع
على 82 صوتاً هي قصائد قصيرة تتأمل عميقاً جداً في الذات الإنسانية،
تحاور وتحتفي بكل ما حولها من عناصر الكون والحياة.
يقدم الشاعر لديوانه
بعبارات مختارة تذهب في جوهر دلالاتها إلى توصيف السراب الذي يلمع أمامه. فهي
تشير إلى "لا شيء يُسمى" لدى أدونيس... إلى "التيه" لدى أبو تمام الطائي وإلى
"الجمال البعيد" لدى وديع سعادة.
الشاعر عابد إسماعيل
الذي قال مرةً: "الشعر جائزة الخاسر. سلوى النائم بلا حلم..."، يرى هنا في
السراب جمالاً... كمالاً في التيه وتحرراً من قيود الاسم والحقيقة، طالما أن
الشعر هو العين التي يتوهج فيها لمعُ هذا السراب.
لي صوتٌ يشقُّ الماءَ بعصا الغفلةِ
و موعدٌ يوقظُ النهارَ على كفّ غريقٍ
لا مرئيٌ أنا مثل ريحٍ تهبّ
أو سماءٍ تسقطُ في الكأسِ
صداي يدلّ عليّ
أسفي النابتُ كالعشبِ
حزني اللامعُ كجرسِ الماء.
(من الصوت الثالث)
تبدأ الأصوات الثلاث
الأولى باستحضار سراب روحٍ يتراءى في شبح يخرج من الباب، في ضيفٍ أبيض قد مر ثم
محاه الدرب، وفي صوتٍ للا مرئي. ثم تتوالى الأصوات في الاحتفاء الصاخب والهادئ
في آنٍ معاً بالحزن والألم، بالرغبة والأنا، بالحب والوقت والانكسار.. بالسماء
والريح.. بالصدى وبالموت أيضاً...
واللغة هنا هي المسرح
الحي لهذا الاحتفاء، بصخبه حيناً وبانسيابه الهادئ حيناً آخرَ. فنجد الشاعرَ
كعادته يتجرأ على اللغة بحسب الحالة، يرفع من توترها لتغدو قاسية أحياناً كمرآة
يشهرها في وجه الحياة الفجّة.
لماذا لا تسكتُ هذه الحياةُ النابحةُ
التي رميتَ لها عظمةَ حياتِكَ؟
لا تسكُتُ حياتُك
التي تهرع إليكَ كألفِ كلبٍ ينبحُ؟
(من الصوت 34)
في حين تغدو رقيقةً
هادئةً أمام أكبر الآلام وأكثرها غموضاً، أمام الحيرة التي تولدها أسئلة لا
إجابات لها.
على الأكتاف يحملون الجثة
أو يحملون الحديقةَ
التي ستزهرُ فيها الجثةُ...
كيف سنفكّ أصابعَ المطرِ
عن عنقِ الحديقةَ؟
كيف سنفكّ أصابعَ الحديقةَ
عن عنقِ الجثةِ؟
(من الصوت 42)
العباراتُ في "لمع
سراب" فراشاتٌ أنيقةٌ تتواتر بخفة ورشاقة، تتلاحق واعيةً تماماً الضوء الذي
تتجه نحوه والمحرق الوجداني الذي تشع من خلاله، لتتكامل خفقاتها في مشهدية
شعرية مكثفة وفريدة، يتغلب فيها الرمز على الحكاية وتحيط بكل أبعاد التجربة
الإنسانية الرحبة.
بنظرةٍ
تحفرُ قبراً
بصرخةٍ
تهيل الترابَ
تعودُ إلى بيتكَ
وفي رأسِكَ مقبرة.
(من الصوت 50)
كلّ شجرةٍ مقطوعةٍ
أنتَ ظلّها
أيها الحبّ!
(من الصوت 55)
قد يظل الشاعر عابد
إسماعيل متهماً بثقافته الغربية، الرفيعة، لكنه يقدم قصيدة نثر عربية مميزة،
تحفل بتجلياتٍ روحية عالية تحملُ المشهدَ على وتر الإيقاع. سيأخذك هنا حدّ
الطرب بإيقاعه الذاتي وروح عاطفته وجملته الشعرية المنتشية، إنها موسيقى روح
الشعر أولاً بكل حضورها و طغيانها.
الرحمةَ، أيها المقرئُ الشيخُ،
يا باسطَ الحروفِ على السلَّمِ
يا ملحِّنَ السَّهلِ
يا حذَّاء القافية!
(من الصوت 63)
وكما امتازت قصيدة
النثر دوماً، يكثف الشاعر اللحظة اليومية بحيث يغدو الألم مفاجأة تفجرها
التفاصيل المعتادة.
أنا المتدحرج كحجر
في ساحة العاصمة
حول معصمي
تدق الساعة الحجرية.
(من الصوت 56)
بالرغم من السوداوية
والقتامة اللتين عُرفتا عن قصيدة عابد إسماعيل، إلا أن اللوحة الشعرية في "لمع
سراب" قد بدأ يتسرب إليها مزاجٌ لونيٌّ جديد يختلف عن مجموعاته الشعرية
السابقة، مزاجٌ يغري الشاعر بتشكيلات لونية وبصرية يستمتع فيها بتناوب الألوان
على تحريك المشهد والدلالات والمشاعر الكامنة وراء الصورة، مزاجٌ يجعله شاعراً
يلوّنُ الريح والمواعيد...
أيها الخيطُ الأزرقُ، لا تنقطع،
ودَعْ أيامي تطيرُ في الريحِ الملوّنةِ
بيضاءَ، أو سوداءَ، لا وزنَ لها،
كالمواعيد.
(من الصوت 23)
الأخضرُ
مزاجُ الشجرة
الأرجواني
ضميرُ الغروبِ.
(من الصوت 41)
والشعر المتأمل لدى
عابد إسماعيل هو دوماً شعرٌ يجاهر بوصاياه، الوصايا الكثيرة التي تعلو بها
الأصوات آمرةً وناهيةً بحزم الواثق والمدرك لعمق تجربته وتأمله. لكن وصاياه لا
تأتي من رؤية فلسفية أو آيديولوجية ما، إنما هي مزيج من صمت الحلم وصوت الضوء.
لا تضع الإكليلَ على القبرِ
تنحني روحُكَ.
لا، لا تحدق طويلاً
بالسماء الزرقاء
قد ينبتُ لكَ جناحان
وتطيرُ.
(من الصوت
18)
لا توقظوهُ،
البنفسجُ صارَ أطولَ من أحلامِهِ.
(من الصوت 24)
اغسل الريحَ بالريحِ
ثم انشرها على الشّرفةِ
واتركها نهباً لريحٍ أشدّ.
(من الصوت 58)
يرفع الشاعر من خلال
أصواته صوتَ الـ"أنا" في مواجهة الـ"الآخرين" وفي حواره مع الـ"أنت"، يستعير
أحياناً صوت وروح الطبيعة والحياة بكل عناصرها من شجر وريح وثلج ويأس وليل
وغيرها، كي يجعل أعماقه الداخلية تخاطب الكون باللغة التي يدرك وبالصورة التي
يحس.
أنا شجرةُ الدفلى
التي اقتربت من الحزنِ
فاصفرّت أوراقُها.
(من الصوت 37)
ولأن الشاعر يذهب
عميقاً في صوت نفسه، فإن هذا الصوت يحاور في بعض القصائد أصوات عظماء الكتابة
وشخصياتها، يتمثل تجربة أرواحهم الغائبة الإبداعية والحياتية بكل عذاباتها. فها
هو ينزل مثل كائنات دانتي الدرج الحجري الطويل، يرى لوركا الذي سقط بطلقة لكن
ظله ظلّ يمشي باتجاه المنصة.. يعاتب النفرّي على عبارة لم يفهمها عميان
الإشارة. وها هو يحذّر بسم محمد الماغوط أن يمسّ أحدٌ عزلته.. يوصي نزار قباني
بمعطف قاتم اللون كي يرتديه في جنازة الياسمين، ويشير إلى هاملت كي يرى شفق
الأبدية يتفتح كالوردة أمام بابه...
لكن يبدو أن رامبو قد
استأثر بالإشارة الأهم لدى الشاعر هنا، حين يصوّره في الصوت الأخير في المجموعة
وهو يركض مسحوراً بلمع سراب، هو سراب القصيدة، حلماً أم وهماً... لا فرق طالما
أن الشعر سيظل كما يراه دائماً جائزةَ الخاسر وسلوى النائم بلا حلم...
رامبو الذي انتعلَ الريح
يركضُ تحت سماءِ القصيدةِ
مسحوراً بالسراب.
(من
الصوت 82).
*
ديوان صادر عن دار التكوين بدمشق، 2006. |