العدد  السادس - شتاء 2008م

   
 

إصدارات  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

 قام بقراءتها: حاتم الصكر

مدارات نقدية

 "مدارات في الثقافة والأدب" هو عنوان الكتاب النقدي الجديد للدكتور عبدالعزيز المقالح، الصادر ضمن مشروع مجلة "دبي الثقافية" لنشر سلسلة كتب شهرية توزع مجاناً مع المجلة.

 تعكس المدارات موقفاً حداثياً موحداً، ورؤية متقدمة، تتجلى في مختلف حقول الثقافة التي انتظمها الكتاب بشكل مدارات، تبدأ بمدار الشعر، حيث يرى المقالح أنه مدار عصي على التعريف، وأن الزمن الذي نعيش هو زمن الشعر بامتياز؛ رغم تحفظات المقالح على ظواهر شعرية سائدة، كإمارة الشعر، وجدل الفصحى والعامية، والمحلية والعولمة، والدعاوى الحداثوية المفرغة من مضمونها بسبب التطرف معها أو ضدها، وترجمة الشعر التي يرى المقالح أنها ممكنة، محتكماً إلى مشاهدات ميدانية، منها اللقاء اليمني الألماني المكرس للشعر، فضلاً على النماذج الجيدة في مجال ترجمة القصائد. وفي مدار النقد تجيب أسئلة المقالح على تساؤلات مهمة بصدد قضايا نقدية راهنة ومعاصرة، تكتمل بإثارتها وجهات النظر التي قدمها مدار الشعر، وهي تبدأ بالسؤال عن نقدنا الأدبي وموقعه أو موقفه من التيارات الأجد في النقد العالمي، وتتدرج لتعرض تجارب عربية قديمة ومعاصرة. بينما يشتمل مدار الفكر على مقالات في رؤى فكرية عربية، مثّلها: التوحيدي وابن خلدون في القديم، وعبدالرحمن بدوي وقسطنطين زريق وميخائيل نعيمة في الحديث. ويبدو مدار الرواية أكثر المدارات ميلاً للتطبيق والتحليل، حيث يتعامل المقالح بحس مرهف وقراءة تحليلية لأبرز الروايات العربية الحديثة لكُتَّاب عرب من بلدان مختلفة، كخليل النعيمي وحسن حميد وليلى العثمان وأحمد ابو دهمان ويوسف المحيميد وعلي أبو الريش، تؤكد كلها ما ذهب إليه المقالح من أن الرواية فن عربي، بدليل المستندات السردية التي يزخر بها التراث، دون إغفال ما تقدمه الدراسات السردية الحديثة من سبل لقراءة الرواية وتحليلها وبيان عناصرها وأبنيتها النصية.

  ولكي تكتمل أبعاد الصورة وتتكامل المدارات على وفق الرؤية الحداثية المتكاملة في زوايا النظر، والمستندة إلى تعاضد الفنون وانفتاحها؛ يختتم المقالح مداراته بمدار الفن، الذي يحتوي عروضاً لكتب وتجارب في التشكيل والسينما والغناء والموسيقى، وكلها تؤكد ما ذهب إليه رئيس تحرير "دبي الثقافية" الشاعر سيف المري، في تصديره للكتاب، بأنه إضافة نوعية مميزة للمكتبة العربية.

 لعل فضيلة الكتاب الأساسية تكمن في إثارة تلك الأسئلة التي تشرك القارئ في البحث عن إجابات لها بحكم معاصرتها وواقعيتها، إلى جانب لغة المقالات التي تميزت بالسلاسة والوضوح والشاعرية، ما جعل المقالات كما أراد لها المقالح، بعيدة عن الخطابية والمباشرة والاجترار، كما أراد للشعر حين قال في حديثه عن الإبداع والتمرد: "الإبداع تمرد، والشعر أعلى أشكال التمرد... وهو الذي أعطاه هذا التنوع الثري، وحماه من سيطرة الرتابة والتشابه وما يصدر عنهما من تكرار وغياب للفروق النوعية التي تجعل لكل شاعر خصوصيته، ولكل عصر ذائقته".

 (د. عبدالعزيز المقالح: مدارات في الثقافة والأدب، كتاب "دبي الثقافية"، العدد (19)، دبي، ديسمبر 2008).


 مسبحة من خرز الكلمات

 من الوجع العراقي الدائم، ومعاناة شعرائه ومواطنيه، يستمد الشاعر العراقي المغترب في استراليا، يحيى السماوي، نصوص كتابه الجديد "مسبحة من خرز الكلمات"، التي وصفها الشاعر على الغلاف بأنها "نصوص نثرية".

 لكن هذا الوصف المراد منه إبعاد النصوص عن عالم الشعر وحدوده التي التزم بها السماوي في تجاربه السابقة، ولم يبعد طابعها الشعري الواضح في إيقاعاتها وصورها والتقاطاتها الذكية.

 وإذا كانت المسبحة التي يكرر خرزها ويكتمل وجودها، بما تمثله حباتها أو خرزها من تلاحم وانتظام؛ فإن نصوص الكتاب تشكل دورة مشابهة، تتتابع أجزاؤها لتمنح العمل شكله وهيئته الفنية.

 تسعة وتسعون نصاً مرقمة بلا عناوين، تتسلسل في صفحات الديوان، وتتلازم ضمن الحالة التي تؤطر سياق الديوان، وتستقل كل منها في صفحة، وكأنها تجسد وصف المسبحة في العنوان، وتوحي بتشكلها الفني ولكن بخرز من كلمات. ومثل زملائه من شعراء العراق، لا ينأى السماوي بنصوصه عن معاناة وطنه في دوامة الاحتلال الغاشم وتداعيات العنف الأعمى والدمار الذي لحق ببشره وأرضه.

 في القطعة التاسعة والتسعين يختتم الشاعر خرز مسبحته الشعرية بنص عن الحزن يلخص زاوية النظر في الكتاب:

 أيها الحزن لا تحزن...

 أدرك أنك ستشعر باليتم بعدي..

 لن أتخلى عنك

 أنت وحدك من أخلص لي

 فكنت ملاصقي كثيابي

 حين تخلى عني الفرح

 في وطن

 يأخذ شكل التابوت.

 

هذا الوطن هو الجارح والجميل معاً، والذي يتغنى الشاعر بماضيه، مسترجعاً حضارته ودوره في حياة البشرية، مستفيداً من المفارقة لبيان ما فيه من ظلم وعنف وحرمان:

 على أرضه انتصبت

 أول مسلة للقانون في الدنيا

 ومع ذلك فالسوط فيه

 أطول من يد العدالة..

 والخوذة أعلى من سارية

  العلم الوطني..

 في واديه تجري أعذب أنهار الدنيا

 ومع ذلك فهو وطن العطش!

 عبر هذه المفارقات الملخصة ببراعة وتكثيف، يرصد السماوي حالة وطنه المدمى، ولكنه يمارس طقوس المحبة بمقابل ذلك الواقع، فيرى في إحدى شذرات نصوصه أنه ثمة "اثنان لا تقربهما الشيخوخة: الحب والوطن". وعلى أساس هذا الاعتقاد يحزم لواعجه ويبوح بها، وهي لا تتأطر بالهمّ العام فحسب، فللذات حضورها الواضح في النصوص، لاسيما تجارب الحب والتأمل في الزمن والأمكنة، ومنها هذا النص الذي يقارب الكتابة كتجربة وجودية وشاهد على الوعي بشاعرية تتخذ من الصور الاستعارية سبيلاً لإنجاز النص:

 القلم ليس مصيدة

 والورقة ليست شبكة

 لماذا إذاً

 تهرب عصافير الأفكار

 من شجرة رأسي

 حين أمسك القلم

 محدقاً بالورقة؟!

  

وإذا كان تجنيس النصوص، بكونها نصوصاً نثرية يدل على تردد الشاعر إزاء عدّها شعراً جديداً وقصائد نثر مكتملة، فإن القراءة لا تخطئ ذلك وهي تتابع كثافتها وصورها ولغتها وإيقاعاتها. ولا شك أن السماوي، بعد أكثر من خمسة عشر إصداراً شعرياً، قد أفاد من تجربته في صياغة نصوصه وتحقيق شعريتها المميزة.

  (يحيى السماوي: مسبحة من خرز الكلمات (نصوص نثرية)، التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2008).


 من صيغ المشافهة إلى أفق الكتابة

تسيطر على وعي الكُتَّاب السرديين محصلة من تراث شفهي ارتبط -كفاعلية للحكي دون شرط الوعي- بتنظيم السرد وعلاقات عناصره لإنجاز النص الجديد. والناقد محمد العباس يتناول، في كتابه الأخير "نهاية التاريخ الشفوي"، هذه الظاهرة ومحاولة الكُتّاب الحداثيين تجاوزها بما يمتلكون من محددات الوعي ومكوناته، ضارباً المثل لذلك بالمدينة التي تغدو بديلاً لرؤى الريف ومناظره التي هيمنت طويلاً على العالم الروائي العربي. فهو يرى أن "الرواية خطاب تفاعلي يحدث تماسه مع كافة أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي والتاريخي والأسطوري والنسوي وحتى الشعبي يفترض وجود ذلك الوعي في الفعل الروائي المحلي... فالرواية تعبير عن مجتمع يتغير". ولا يعني ذلك أن الكاتب يربط النص الروائي ربطاً ساذجاً ومباشراً بالواقع، بل يؤكد على سمة التحول في الرواية، مما يجعل تمثلها للواقع لغوياً وبحيوية كاشفة لطبيعة الوقائع تتناسب مع مهمة الرواية الحديثة، التي يلخصها بالخروج من الحكاية إلى السرد، أي التدوين الذي لا يعني التسجيل والتوثيق. وهذا الانزياح عن التاريخ الشفوي أوجد كيان الرواية المحلية، التي راح محمد العباس يتابعها في فصول الكتاب بالتحليل والتأويل، مقترباً من تجارب حديثة في الرواية العربية المكتوبة في بلده، ومنها تجارب شابة تقارب الحداثة دون ادعاء أو تلصيق، وتجارب نسوية تحاول إنتاج أدب نوعي يعكس الوعي بالدور الاجتماعي للمرأة، وبذلك يتم اختراق المحددات الاجتماعية عبر الحداثة والوعي النوعي، مهما خالط ذلك من صدمات متعمدة أو مبالغة صورية في رسم الشخصيات وتصميم وعيها بعيداً عن أبعادها المتاحة في المكتوب النصي نفسه، وهو ما لا يغفل عنه محمد العباس وهو يراجع خمس عشرة رواية سعودية صدرت بين أعوام 1998 و2006، مما يمنح القارئ فرصة رؤية التبدلات الأسلوبية ودرجة الوعي بالملفوظ الروائي نفسه.

في الرواية النسوية يقارب محمد العباس أعمالاً لرجاء عالم وصبا الحرز ورجاء الصانع وليلى الجهني وطيف الحلاج. وأعمالاً لروائيين كعلي الدميني ويوسف المحيميد ومحمد حسن علوان وأحمد أبو دهمان وفهد العتيق ومحمود تراوري وإبراهيم الخضير وأحمد الدويحي وأحمد الشويحات وعواض العصيمي.

وسيجد القارئ أن مقاربة أعمال الكاتبات والكُتّاب كانت مناسبة لعرض المفهوم الثقافي للرواية كما يراها النقد الحديث، عبر توصلات محمد العباس وتحليلاته التي لم يفتها رصد سلبيات الكتابة الروائية أيضاً، بجانب التنويه بذلك الانتقال إلى المدوَّن، وما يترتب عليه من استحقاقات فنية. فهو يرى أن ثمة متخيلاً روائياً مراوغاً في تسريب الوقائع، ونزوعاً لتأكيد الـ"أنا"، لتغدو الروايات أحياناً كثيرة تسريبات لسير ذاتية مبطنة أو مموهة. كما يرصد ما أسماه المبالغة في التصوير والاستعراض للمرغّبات وطغيان الذات الراوية غالباً. ولكنه لا يغفل الجانب الكفاحي في الرواية المحلية، ومقاومتها لما وصفه بالنزعة أو الهيمنة البطريركية ومحاولات القهر والتغييب.

وتتميز معالجات محمد العباس، القادم من النقد الشعري، بلغة ذات فاعلية وحيوية تتماهى أحياناً بالنص المقروء، وتلتحم بشعابه وزواياه، لتخلق نصاً موازياً، يجعل القراءة ذات طابع أدبي لا يتنازل عن أسلوبية النقد المؤثرة...  


 مشاكسة المألوف شعرياً

 يوغل الشاعر محمد اللوزي في تجربته المشاكسة ذات النكهة الخاصة في قصيدة النثر اليمنية، ويمنح في ديوانه الثاني "إجازة جيري" للقارئ فرصة رصد تلك المشاكسة والمخالفة للمفهوم الشعري بأشكاله ومفاهيمه السائدة، كما ينوه الدكتور عبدالعزيز المقالح في تقديمه للديوان.

 ويمكن تصنيف تجربة اللوزي ضمن شعر الصعلكة المعاصرة، أو الحديثة، كموقف من العالم والمجتمع والواقع والمسميات المخاتلة التي تتخفى وراءها مؤسساته.

 و"إجازة جيري"، كعنوان، تستمد طاقتها الدلالية من ثنائية القط "توم" والفأر "جيري" في أفلام الرسوم المتحركة الشهيرة، ومشاكساتهما التي يصبح معها كل منهما ضرورياً للآخر كلزوم العالم بالنسبة للشاعر: عدو ولكنه ضروري؛ لأن الوجود لا يتحقق إلاَّ به، حتى إذا انصرف "جيري" في إجازة فإن "توم" يشعر بالوحدة والفراغ، وهذا ما تعرضه قصيدتان في الديوان، هما: "صيف توم"، و"قصائد المصحة".

 صباح الخير يا توم

 صباح يومك الذي لا ينتهي

 جيري الفأر في إجازة اليوم

 لكن يومك سيئ مثل كل مرة.

 ثم نطالع "توم" في مشهد آخر:

 توم في المصحة

 لم تعد أيامه أياماً

 يكتب قصائد عن غياب جيري

 يكتب ويمزق

 يكتب ويمزق

 يرسل إيميلاً لجيري

 وجيري في إجازته السنوية

 في جزر الكاريبي

 ممتداً على الشاطئ

 يتأمل الأجساد البرونزية

 لنساء الكاريبي

 وهي تمر أمامه.

  المطابقة بين ثنائية "توم/ جيري" و"الشاعر/ العالم" تجد مستندات نصية أخرى. ففي قصيدة يخاطب نفسه:

 أنت بلا أيام

 حتى ولو عشت أسابيع كاملة

 مملوءة بالضحك.

 وتتمثل كذلك بالسخرية الحادة التي يحشد لها اللوزي أدوات كثيرة، منها استخدام المفردات الدالة على تعامل شعبوي أو يومي، مثل الشوكولاتة والساندويتش والجلاكسي والأيسكريم والسوبر ماركت والكولا والهامبورغر وعلبة الكتشب والبلياردو والبلوتوث والشطرنج والموبايل والإيميل والفاتورة...

 وهي تتعزز أيضاً ببنية التكرار التي يبني بواسطتها كثيراً من نصوصه، كأن يبدأ النص بعبارة تتكرر في الجمل الشعرية التالية، لتنتهي بضربة أو مفاجأة تمثل ذروة النص، في منحى سردي يليق بنهج القصائد المشاكس والمختلف.

  وإذا كانت المطابقة الضدية تعيد أجواء الشعر المبكر لنهج المشاكسة، كما تمثله قصائد الماغوط؛ فإن اللوزي يستعين بتلك التقنية ليؤكد ذلك الانقسام المدمر في بنية العالم نفسه، ولعل قصيدة "أريد أن أنتقم من أبي الهول" مثالٌ ملائم لهذا الأسلوب؛ فهي تكرر الجمل التي تبدأ بـ"أريد أن أنتقم من..."، ثم تأتي قائمة الأشياء التي يرغب الشاعر في تدميرها، حرماناً وغضباً، وهي من أطول قصائد الديوان، ويحس القارئ في لحظة ما أنها لن تنتهي، فسيل الشهوة الانتقامية مستمر، ويمكن أن تتسع القائمة حتى ما لا نهاية له من الأشياء.

 تلك المشاكسة والتداعيات تنتهي بمفارقة يختم بها اللوزي نصه:

 أريد أن أنتقم مني جميعاً

  حتى لا يتبقى مني أحد.

 وأحسب أن السخرية في قصائد اللوزي خادعة، فهي تخفي ألماً ممضاً باتجاه ما لا يتحقق من شروط الحياة التي يتمناها، وهذا ما تؤكده قصائد عدة في الديوان تقارب الزمن والأمكنة، وتبصر الفروق الطبقية بين البشر، وعذابات الحياة اليومية، وأعباء المنزل والأسرة والعوز، وقبل ذلك الافتقار للهوية وتحقيق الذات؛ كقصيدة "بلا شيء":

 أنتَ بلا اسم

 حتى ولو سمعتهم

 ينادونك محمدا...

 أنت بلا مواعيد

 حتى ولو تسلقت جبال الوقت

 ووصلت في الموعد المحدد

 (محمد اللوزي: إجازة جيري، مركز عبادي للطباعة والنشر، صنعاء، 2008). 


 العلامة في عالم من الإشارات والرموز

تهتم الدراسات السيميائية بالعلامة وتراجع أصولها اللسانية واللغوية والمعرفية. وفي هذا الاتجاه يأتي كتاب السيميائي والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، "العلامة"، الذي ألفه عام 1973 بعد كتابيه: "العمل المفتوح" و"البنية الغائبة". وهنا يقدم سعيد بنكراد ترجمة للكتاب، مضيفاً لعنوانه حاشية مفسرة هي "تحليل المفهوم وتاريخه".

 تمت ترجمة كتاب إيكو عام 1988 إلى الفرنسية، التي يترجم منها إلى العربية. وفي مقدمته يوضح المترجم خطة الكتاب المتمحورة حول الرموز وأشكالها المتعددة، سواء ما تقدمه الطبيعة للبشر أم ما يصطنعون خلال حياتهم على الأرض. فالعلامة -كما يقرر إيكو- توجد كلما استعمل الإنسان شيئاً ما محل شيء آخر.

فالعلامة وسيط بين الإنسان والعالم الخارجي، وهي ضرورة لإنجاز اجتماعية الإنسان، فالسيميائيات التي تدرس العلامة -كما يتوصل المترجم- ليست نظريات فحسب، بل هي ممارسة، وذلك ما تؤكده الأمثلة التي يتخذها إيكو استعانات لتوضيح وجهات نظره وهو يحاور الفرضيات القديمة في الدرس السيميائي، كما مثَّله بيرس وموريس وسوسير وكريماس، ويعرض ما يسميه "الغزو الشامل للعلامات" ووجودها المتصل بالحضارة وفي ميدانها الفسيح: المدن.

هكذا يبدأ إيكو كتابه مخترعاً سرداً متخيلاً عن مواطن إيطالي يحاول خلال زيارة لباريس أن يصل إلى طبيب بعد أن أحس بألم في بطنه، فيخوض عالماً من العلامات يبدأ باستخدام الهاتف في قبو الحانة للاتصال برقم الطبيب، ويمر بإشارات الطرق ومنحنياتها، وينتهي عند العيادة وبوابتها وجرسها، وثم شرح الحالة للطبيب، وما يتبع ذلك من علامات مقابِلة يستخدمها الطبيب ليفهم حالة المواطن...

يتسم كتاب إيكو بطابع مدرسي أيضاً، فهو يقدم في التمهيد عدة تعريفات ومفاهيم تتصل بالعلامة في حقول متعددة، ولغات وحضارات وأزمنة مختلفة، ثم يتوقف في الفصل الأول عند السيرورة السيميائية من الجانب التواصلي التقليدي الذي يرد كلما تذكرنا الرسالة وإرسالها من قبل باثٍّ عبر قناة في سياق إرسالي لمرسل إليه، لديه السنن المشترك مع الباث، وهو ما يقودنا إلى تفحص الدلالة التي ينقل إليها الدرس السيميولوجي الجديد كيان العلامة ووجودها كله، ويرهنها ببعدها التداولي.

ويتصدى إيكو في فصل لاحق لتصنيف العلامات: اصطناعية، وطبيعية (كإشارات المرور: قفْ - سرْ في الأولى، والسُّحب علامة على المطر في الثانية)، فضلاً على العلامات الفضفاضة والملتبسة والوحيدة المعنى وسواها. وهو بذلك يضع معايير لتمييز العلامة تربطها بالمرجع والمتلقي والتمييزات الممكنة بناء على ذلك، كالتمييز بين المؤشِّر (علاقة الدخان بالنار) والرمز (علامة اعتباطية ترتبط عرفياً مع موضوعها، كالشهيد) والإيقونة (الصورة الفوتوغرافية مثلاً).

في فصول لاحقة تتعمق دراسة إيكو لتلاحق المقاربة البنيوية للعلامة كما بدأها سوسير، ويعالج المساهمات الثقافية والفلسفية في دراسة العلامة.

يجيب كتاب إيكو على الكثير من التساؤلات حول دور العلامة في التواصل البشري وإنتاج الدلالات، وإجراء الرموز في الحياة، وهو ما تدعو إليه الدراسات السيميائية المعاصرة، وتستفيد منها الفاعلية النقدية في تحليل النصوص الأدبية، خاصة بكونها تستند فنياً إلى تمثلات ثقافية لعلامات المحيط ومؤثراته المعرفية.

 

 (أمبرتو إيكو: العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة: سعيد بنكراد، مراجعة: سعيد الغانمي، نشر كلمة والمركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، 2007).