العدد  السابع - ربيع 2009م

   
 

  متابعات
 

"الدائرة المقدسة" لبسام شمس الدين:
 يشكل العنصر الغريب تهديدا لسلطة الحاكم المستبد (
لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                                            محمد عثمان
                                                                                                
قاص وروائي من اليمن

عالق في شرك ظروف قاهرة. لذا، ربما، هو ميال إلى الصمت. أو بالأحرى إلى الاستغراق في دوشة عالمه الداخلي، وإذا ما تحدث غالبا ما تخونه اللغة (أقصد لغة التواصل اليومي) فتخرج الكلمات من فمه مرهقة بعض الشيء ومبتورة وخافته، كما لو أنه يستلها من عمق سحيق. وبما إن الأمر كذلك، بما إن لغة الكلام تخونه، فإنه يخونها بالمثل، يخونها في الكتابة منتجا نصا تحيد لغته عن سواء اللغة المكرسة والفخمة والمصطنعة، لغة موسومة بما يسميه "جيل دولوز" ب"التلعثم" ليس التلعثم كقيمة سلبية، لكن بما هو استعمال خاص للغة، استعمال يستعصي على التقليد أو الانتحال أو التماهي مع استعمال كاتب آخر. التلعثم بما هو "امتلاك لسان هامشي داخل لساننا (....) وأن يكون (الكاتب) كأجنبي داخل لسانه الخاص..." أي بما هو سمة فارقة لكل كاتب أصيل... هكذا بدا لي الروائي بسام شمس الدين في أول لقاء لي معه، كان ذلك منذ قرابة أربعة أعوام، كاتب يحمل على عاتقه قدر خاصا: أن يشق مساره الأدبي في مواجهة أقدار صعبة وفي خضم ظروف غير مواتية بالمرة، لعل أسهلها استدعاءً إلى الذهن أنه كان، على الدوام، مضطرا–بما انه ينتمي إلى السلك العسكري_ أن يعكف على مسوداته في الثكنات والمواقع العسكرية حيث الحياة الجماعية تتعارض مع متطلبات الخصوصية التي تحتاجها الكتابة. معتمدا، في الأثناء، على موهبته الخاصة والخارقة في تحويل الصعوبات التي يواجهها إلى عوامل نجاح. تشهد على ذلك روايته الثانية "الدائرة المقدسة" التي أنجزها –حسب ما جاء في التدوين الافتتاحي- في مدينة مأرب، موضحا أسباب وجوده هناك بلغة تحمل سماته الأسلوبية على النحو التالي: "ولن أتعرض لظروف وجودي في هذه المدينة العجيبة، لأنها بمجملها قصة، حيث أصدر مديري في العمل قرارا بنفي إليها، وهي عقوبة يخشاها جميع العاملين، ويشفقون على من يتعرض لها، ولكنني خرجت منها بهذه الرواية... "                                                                  

في الظاهر تبدو "الدائرة المقدسة" رواية تاريخية، أي تتصدى لسرد أحداث وقعت في التاريخ. وذلك لأنها تنجح في إيهامنا بأنها كذلك. لكن من لديه أدنى معرفة بالتاريخ اليمني القديم سيعرف إن الأمر ليس على هذا النحو. فالرواية وان كانت تتخذ من الماضي القديم أطارا عاما لها وبالتحديد تلك الحقبة الزمنية التي شهدت تزامنا بين الممالك اليمنية القديمة (معين، سبأ، قتبان وذو ريدان، حمير...الخ) فأنها تكتفي من ذلك الماضي ببعض المسميات الجغرافية والتاريخية. كأسماء الممالك وعواصمها وبعض الإشارات إلى طقوس وممارسات دينية، ماعدا ذلك، فهي لا تتقيد كثيرا بوقائع التاريخ. بالأحرى، تقوم باختراع تاريخ خاص وموازٍ هو محض ابتكار، متوسلة إلى ذلك مخيلة المؤلف التي تتمتع بمقدرة مدهشة على التخييل والأسطرة وتوليد الحكايات حيث يتداخل الواقعي مع الخرافي وقصص الحب مع قصص الحرب والدين بالسياسة. ولعل هذا التخفف من التاريخي لصالح المتخيل قد ضمن للرواية ميزة التوافر على مرونة كافية مكنتها من عديد إسقاطات غير مباشرة للحاضر على الماضي. الأمر الذي يفسر وجود موضوعات هي في صميم الاهتمامات المعاصرة في سياق رواية عن الماضي، وذلك بعد سل هذه الاهتمامات من تجسداتها الراهنة وبثها في تلافيف أحداث الماضي بحيث تبدو مغموسة فيه بالكامل وكأنها جزء لا يتجزأ منه، في إحالة مضمرة إلى الحاضر-الماضوي أو إلى "الذي كان مازال يأتي" حسب البردوني. للتدليل، سأشير إلى ثلاثة موضوعات تحضر بقوة في الرواية. الأول، العلاقة بين رجل الدين والسلطان ويمثل طرفي العلاقة كل من شيزار (كاهن المقه) وشراح (ملك مملكة جنات) ومن بعده ابنه الملك كرب. وغني عن القول أن علاقتهما تبدو متسمة بالتواطؤ والمنافع المتبادلة التي يسديها طرفا العلاقة لبعضهما، حتى في أوج لحظات الجفاء بين الجانبين. ففي الوقت الذي يقوم به رجل الدين بإضفاء القداسة على الحاكم مبررا له طغيانه، يضمن الطرف الثاني لرجل الدين مكانة مائزة داخل التراتب الاجتماعي القائم تتيح له التمتع بالامتيازات التي يحوزها بحكم مكانته هذه. الموضوع الثاني يتمثل في الصراع بين البشر على أساس عرقي. أي بين ذوي البشرة السمراء وذوي البشرة السوداء. وترجع الرواية وجود الأخيرين في اليمن إلى رغبة الإمبراطور الروماني في زعزعة نظام الحكم في اليمن. ولكي يتسنى له ذلك يكلف التاجر الروماني فالوس بمهمة إغراق السوق اليمنية بالأحباش تحت ستار تجارة الرقيق. وبقطع النظر عن المصداقية التاريخية للواقعة وعن الموقف الذي تتخذه الرواية والذي يلتبس أحيانا بالتشكيك في يمنية ذوي البشرة السوداء. فان ما تنجح الرواية في الإيحاء به على نحو باهر هو إلى أي مدى يشكل العنصر الغريب تهديدا لسلطة الحاكم المستبد. الموضوع الثالث يتمثل في الصراع بين الأجيال تأسيسا على الرؤى والأفكار والاتجاهات التي يقطع جديدها مع قديمها. فمن الشائع أن الصراع بين الأجيال، لاعتبارات تاريخية واجتماعية، سمة غالبة على المجتمعات الحديثة قياسا إلى المجتمعات القديمة, فنظرا لاتسام الأولى بالديناميكية والتغير المستمرين، تغدو أجيالها التالية عرضة لتأثيرات تقطع مع مزاج وعادات الأجيال السالفة بحيث تتخذ العلاقة بين جيلين متتاليين طابع التوتر والصراع، وذلك على خلاف المجتمعات القديمة الذي ينعكس جمودها ورتابتها وهيمنة "سلطة الماضي الأزلية" عليها، بتعبير "ماكس فيبر، على هيئة تهادن ومصالحة بين الأجيال. آخذين هذا بالاعتبار يسهل علينا، حينئذ، إدراك وجه الإسقاط الذي تنجزه الرواية. فهي تقدم لنا صورة لهذا النوع من الصراع الذي يتجاوز المصالح المادية المباشرة إلى المستوى الرؤي والفكري. يدور الصراع بين جيلين هما جيل الآباء الذي يصطف حول ملك مملكة سبأ (شراح) ويتمثل الثاني في أبناء الأقيال ويقف على رأسه شام ابن الملك شراح. فهؤلاء الأخيرين، وتحت تأثير الأفكار المستنيرة لمعلمهم اليوناني "حانون" الذي يستقر به المقام على مشارف مملكة "جنات" عاصمة سبأ، يشرعون في المطالبة بتغيير "الدائرة المقدسة" التي تحضر هنا بوصفها، في نفس الآن، رمزا مزودجا، للسلالة الحاكمة ولمجموعة القوانين والتشريعات التي تسير الأمور اليومية للمملكة، وحجتهم في ذلك، أن هذه القوانين تم تزييفها وحرفها عن فكرة العدالة التي تقوم عليها الدائرة المقدسة الأصلية وذلك على يد الملك وبالتواطؤ مع كاهن معبد المقه، استجابة لنوازعهما في الاستئثار والبطش. وينتهي الصراع بفشل مشروع الأبناء بالتزامن مع اغتيال الملك شام بُعيد وصوله إلى الحكم بوقت وجيز.                                                        

تستدعي "الدائرة المقدسة" إلى الرواية اليمنية الشابة أيضا شيئا من النفس الملحمي الذي تعرفه السير الشعبية. إلا أنها –وهنا تكمن المفارقة- إذ تستعيد هذا الملمح فليس بهدف تكريس سلطة الملوك ورموز القوة، خالعة على أفعالهم نكهة المآثر والبطولات، لكن لكي تهجوهم وتزري بهم هاتكة عن هذه الأفعال ثياب النبل القشيب مظهرة لنا تواريخهم المخضبة بالقتل والمطامع الدنيئة. إضافة إلى ما سلف تتمتع الرواية برحابة عالمها الروائي. فعلى المحور الزمني تمتد أحداثها على مدار ثلاثة أجيال متعاقبة من ملوك سبأ. وعلى المحور المكاني تتوزع أحداثها جغرافيات عديدة تترواح بين عواصم الممالك اليمنية المختلفة ومصر والحبشة. صدرت الرواية عن مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، في 437 صفحة...