العدد  السابع - ربيع 2009م

   
 

  متابعات
 

ميراندا جولاي, كاتبة أمريكية صاعدة (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                       د. علي يحيى منصور
                      أستاذ في كلية اللغات - جامعة صنعاء

يقول غيورغ ديتس في مقال حديث له عن هذه الكاتبة نشره في فبراير 2008 (الملحق الثقافي لصحيفة "دي تسايت" الألمانية العدد 10): "احذر, إن باستطاعة ميراندا جولاي أن تغير حياتك, فقد نجحت في إعادة خلق القصة القصيرة لزماننا الحاضر!". ويواصل هذا الناقد الألماني بحماس تقديم المؤلفة الشابة متحدثاً عن مجموعة من قصصها نشرت حديثاً: "كان الكتاب ذو اللون الأصفر الصارخ مطروحاً أمامي وعلى غلافه الأول يظهر بحروف سوداء منتصبة عنوان المجموعة القصصية: "لا أحد يستحق الوجود هنا أكثر منك". وبعد قراءة بضع صفحات بانَ لي بوضوح أن أمامي هنا صوتاً, هنا لغة, هنا كاتبة ذكية, بهيمية, ظريفة، إلى جانب كونها في غاية الحساسية إلى حد لم أعد أحس بها منذ زمن بعيد لاسيما في الأدب". ويطـّلع الناقد غيورغ ديتس على مجموعة من قصصها فيزداد اهتماما بها ويصرح: "على صفحة الغلاف الأولى يطالعنا العنوان: "قصص لميراندا جولاي". لم أكن أعرف من هي المؤلفة، كما لم أكن أدري أن ميراندا جولاي في أمريكا كانت قد صارت منذ وقت طويل ترتيلة التأمل عند نخبة العارفين, صارت عرافة الجديد والحداثي لنخبة أهل التقدم والباحثين عن مغزى الأمور. كان ذلك قبل نصف سنة تقريباً". وتتوارد أخبار الكاتبة الصادرة من أمريكا وتتناول أيدي المترجمين نقلها إلى لغاتهم القومية، فيقع نظر الناقد غيورغ ديتس على مجموعة شعرية لميراندا جولاي مترجمة إلى الألمانية ويصبح من مواكبي بروز الكاتبة والشاعرة الشابة على صفحات الـ"نيويوركر" ومجلة "بريغيتا" وحتى على الملاحق الأدبية للصحف الألمانية. تبدو قصص ميراندا في رأي الناقد نيتس مختلفة عن إبداعات غيرها من جهة وشبيهة بما يكتبه الآخرون من جهة أخرى. ويوضح الناقد رأيه المتناقض ظاهريا حول ميراندا جولاي: "لقد نـُشرت للكاتبة مؤخرا مجموعة قصصية مترجمة إلى الألمانية تحت عنوان في غاية الحدّية: "عشر حقائق". ليست هذه المجموعة فوضوية بالكامل ولا هي رقيقة ولا حرة ولا رائعة؛ هذا الأدب يشبه غيره، لأن ميراندا جولاي قادرة على مخاطبة الناس الذين يتحمسون للأدب بشرط أن يكون في أفضل أوقاته. وتستطيع أن تخاطب من يهتمون بالحياة، بشرط أن تكون ذات مستوى عال. لقد مدت ميراندا جسراً بين العادي والرفيع ولها جمهور قارئ صارت هي لهم الكاتبة المثالية".

تصرح ميراندا جولاي لإحدى الصحف: "تكاد قصصي أن تشبه حكايات الصور المتحركة", تقولها وعيناها الكبيرتان تبدوان مثل اللتين تظهران في صورها المنشورة في أرقى مجلات الأناقة؛ شخصيتها محافظة على ثباتها إلى حد ما, على عكس ما كان متوقعا. إنها حاضرة على الأرجح, محترسة للغاية، يطغى الود على سلوكها حينما تجلس في مقهى القصبة المغربي في مدينة لوس أنجلوس بحي سيلفر ليك حيث تسكن النخبة البوهيمية المترفة والتي تبدي لها ميراندا جولاي الاحترام والاحتفاء. ميراندا جولاي تعالج في أعمالها النثرية المتزنة وتعمل بمراحل على سبر أغوار تلك النخبة، التي خلقت لنفسها مجتمعا يهدف باشتهاء مفرط إلى الشهرة من جهة، والملل منها من جهة أخرى, ليس في أمريكا وحدها. إنها أقبية ذلك المجتمع تلك التي تحاول ميراندا عبر أعمالها أن تكشفها بتسليط الأضواء عليها, تلك الأقبية المظلمة التي يتثاءب ساكنوها في براثن الفراغ العاطفي. إن جولاي تقوم بتلك المهمة آخذة الأمور أخذاً رفيقاً هيناً لا يخلو من روح الفكاهة والدعابة. وهكذا تصل إلى إعادة اكتشاف هذا الشكل الأدبي للقصة القصيرة لزمننا الحاضر".

لدى ميراندا شعار في غاية البساطة: "أقل قدر من التفكير, مزيدا من الشعور". وحينما تسألها الصحافة فيما بعد عن الحياة والكتابة والنساء من فئة الأعمار المتوسطة من الوحيدات أو الشابات الخجولات والمتشوقات، أو الرجال العزاب المشدوهين من كبار السن، أو عن كل أولئك الآخرين من المهمشين الذين ترفع صوتها من أجلهم وتصوغ قصص حيواتهم بصراحة لا تعرف الهوادة، ولكن مع المحافظة على هيبة هذه الفئة من الناس. حينذاك تجيب ميراندا جولاي بأن شعوراً ينتابها أحياناً مثل مسخ عجيب ومثل درويش رقيق في أحيان أخرى، حينما تقوم ببعض التصرفات، وأنها تبدو قاسية ورقيقة، تبعاً لما يمليه عليها أشخاص قصصها، وأنها حين تكتب تتبنى شعارها البسيط: "أقل قدر من التفكير, مزيداً من الشعور". إن ما تطرحه ميراندا جولاي في مجموعتها القصصية "عشر حقائق" هو نمط من تطرف العواطف بين الكآبة والنشوة, بين خداع النفس والمكابرة. ولا يمكن أن يتحقق كل ذلك إلا لأن هذه الكاتبة والشاعرة وصاحبة المواهب التي لا تحصى توظف لغة واضحة تكاد أن تكون هشة لكنها تقاوم كل نمطية عاطفية وتسرد قصصاً هي خارج نطاق كل متوقع, كما أنها بإيجازها تبقى على الطرف البعيد من كل ما هو معاش.

تروي ميراندا جولاي مقاطع هايكو على نمط ما بعد الحداثة: حزينة, مواسية تتسم, على ما يبدو, بالسذاجة. فهي تلك الفنانة المبدعة والقادرة على تنويع فكرة بسيطة واحدة في كل عروضها وأفلامها وقصصها: تكفيها بضع علامات دالة لتجد طريقها إلى السعادة. قصصها القصيرة تشبه مقاطع هايكو ما بعد حداثية: لها شعور. تسبح في أجواء تقريبية، لكنها في الوقت نفسه حقائق ملموسة. هي عارفة وساذجة, مواسية وحزينة، تتمحور مضامينها في عالم خاص، ولكنها في الوقت ذاته تنتمي إلى عالمنا هذا.

هذه القصص الهايكوية تنشأ في رأس ميراندا جولاي الجميل, العصابي, اللعوب, المتخوف, المفعم بالأمل. هذه القصص تريد الوصول إلى العالم وقد وصلت إلى العالم. لقد عثرت كاتبتنا على تلك الحكايات ويبدو أنها علامة لنثر مدهش, وان لم تكن كذلك فماذا هي إذاً؟! إنها قصص تبشيرية بمعنى أنها تتناول الحياة كما يجب أن تكون لا كما هي حالها. إنها قصص رومانسية لو كانت الرومانسية وصفة لمن يريد أن يعيش حياته كما ينبغي. هي قصص روحانية لأنها تحمل في طياتها إيماناً بنظام الأمور, بنظام هو جزء من هذا العالم ولكنه في الواقع يشير إلى ما هو أبعد من العالم. إنها روحانية دنيوية تسري في أعمال جولاي كافة. لقد اصطبغ فيلمها المعنون "أنا وأنت وكل من نعرفه" بتلك الروحانية عبر أسلوب سعي أشخاص القصص وراء حياة آمنة عبر طقوس مبتذلة تتركهم يتخبطون في خضمها مثل أشباح الموتى دون تواصل. وفي روايتها "أتعلّم أن احبك أكثر" تتناول ميراندا جولاي بصورة أساسية العجز عن حب ذاتها وحب الآخرين، وتطرح لذلك الغرض ثلاثاً وستين خطوة لتحرير نفسها من تلك الدوامة. "كل إنسان يجتذب الاهتمام حقا". تقول الكاتبة جولاي في صباح ذلك اليوم أثناء اللقاء مع الصحافة في لوس أنجلوس. "وكم يكون جميلاً لو أننا صببنا اهتمامنا على بعضنا وليس على المشاهير من الناس فحسب". وكما تبرع جولاي في طرح هذا القول دون أن يبدو في غاية الابتذال والغباء فإنها ماهرة أيضاً حينما تسرد قصصها، بحيث ينشأ في أسلوبها بين النبرة التهكمية واللهجة المنبرية جمال يغطي أحزان وجودنا نحن البشر.

"تلك كانت القصة التي لم أرغب يوما في سردها حينما كنتُ صديقتَكَ". هكذا تبدأ ميراندا جولاي إحدى قصصها والمعنونة "فريق السباحة" وهي تتناول -في الظاهر فحسب- موضوع امرأة شابة تعطي دروسا في السباحة لرجال من كبار السن في غرفة استقبالها بمنزلها وفي يد كل منهم وعاءٌ مملوءٌ بالماء، ويسمح للأشخاص المسنين أن يغطسوا رؤوسهم فيها أثناء تدريبات السباحة. وتتابع ميراندا جولاي مخاطبتها لصديقها: "كنتَ على الدوام تسأل وتكرر السؤال، وكانت تخميناتُك مخيفة إلى حد بالغ، ودقيقة. هل اعتمدتُ على أحدٍ في إعالتي؟ هل كانت بلفدير مثل نيفادا حيث البغاء مشاع؟ هل كنتُ عارية طوال السنة؟ وعلى العكس من ذلك فقد كان الواقع يبدو في وقت ما بائساً, وشيئاً فشيئا أدركتُ أن الحقيقة أنني لن أكون لمدة أطول صديقتك, هذا إن كانت الحقيقة تبدو سرابية".

نقرأ هذا النص في رواية "فريق السباحة" لميراندا جولاي دون أن يتضح لنا تماماً من كانت تلك الصديقة أو لماذا هجرها الحبيب، كما لا يتضح لنا أبداً من كانت الراوية بضمير المتكلم والتي تسرد لنا هنا أحداث حياتها البائسة؛ فهناك دائماً يوجد عالم وتوجد حقيقة خلف ما تصفه الكاتبة الشابة جولاي، وهكذا تفعل قصصها كافة فعلها، وهذا هو اللغز المحرك للسرد الذي يحافظ على توازن عند الحد الفاصل بين الحلم والحقيقة. ويبقى القارئ حائراً يطوف بمخيلته. ومما يؤسف له أن هذه الحيرة لا يلمسها قارئ النص المترجم من الانجليزية إلى الألمانية بسبب عيب في الترجمة. يكاد أشخاص ميراندا جولاي, كلهم تقريباً, يبدون منزلقين خارج إطار مكانهم وزمانهم.

وتقول ميراندا جولاي نفسها إن قصصها ليست سوى سرد لسيرة ذاتية يشوبها الغموض. وحينما يسألها الناس عن سبب الخوف المستولي عليها شخصياً تلتزم الصمت لوهلة، وتدير نظرها في المكان، وتجيب بأنها لا تستطيع الإجابة على ذلك السؤال، لأنها لن تستطيع الاستمرار في الكتابة إن هي كشفت المخفي. لكن جولاي تواصل الكلام عن حالات الجنون الكثيرة في عائلتها، وتروي عن والدها الذي انتحرت أمه ولحق بها أخوه، وأنها هي نفسها تنتمي إلى الجيل الأول الذي يتمتع بالعقل. ثم تقول في الختام: "إن الخوف موجود حتى قبل الكلمة، ولا يستطيع المرء أن يفهم الخوف، وعليه أن يبحث عنه دون تردد، لكنه لن يصل إلى الحقيقة".

وتصف الكاتبة ميراندا جولاي الخوف بأنه أقدم شعور يساهم في صياغة حياتنا وأدبنا, وأنه الجواب الملائم على الأسئلة المعقدة المطروحة في حاضرنا, مكتومة أو صريحة, عن الجنس والحياء وميكانيكية الشعور بالذنب؛ وكل هذه الأمور مرتبطة بالأشخاص الذين أضاعوا أنفسهم. وتقول ميراندا جولاي في إحدى قصصها المعنونة "كان ذلك رومانسياً"، متحدثة عن أشخاص يتواجدون في حلقة نقاشية عن رعاية الإنسان لنفسه: "لقد وقعنا في حب أناس لم يكن من المفروض أن نحبهم, ثم تزوجنا أناساً لكي ننسى حبنا اليائس، أو أننا أطلقنا مرة في دار المجانين بعالمنا القائم اليوم صيحة (هلو!) وسرعان ما هربنا خشية أن يستطيع أحد من الاستجابة لهتافنا". وتواصل ميراندا جولاي حديثها عن الشعور بالذنب, ذلك العذاب الذي فرضه الإنسان بنفسه على نفسه, قائلة: "إني أكاد أن أكون مدمنة عليه وأحب أن أفكر بكل الأشياء التي أخطأت بالقيام بها". ويعترض صديقها مايك ميلز, المخرج السينمائي، على موقفها من الشعور بالذنب، بينما تشعر هي بالسعادة حين تحس بالخوف. وعلى هذا المبدأ ترتكز قصص ميراندا جولاي.