العدد  السابع - ربيع 2009م

   
 

إصدارات  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

 قام بقراءتها: حاتم الصكر

شعراء السبعينيات وفوضاهم الشعرية الخلاقة

 

يتناول الناقد والأكاديمي الدكتور محمد عبد المطلب في كتابه الجديد ظاهرة شعر السبعينيات كما استقر في المصطلح النقدي المتداول وهو جيل يقول عنه  إن شعراءه (يهاجروا من التفعيلة إلى قصيدة النثر مشكلين في مصر خاصة حلفين هما إضاءة 77 التي ضمت حلمي سالم وحسن طلب ورفعت سلام وجمال القصاص وحلف أصوات الذي ضم أحمد طه وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان  ومحمد عيد إبراهيم وعبد المقصود عبد الكريم بينما خرج من التكتلات الفنية تلك جمع ترد فيه تجارب  رفعت سلام  وعلاء عبد الهادي ومحمد آدم وأحمد الشهاوي وسواهم  ممن أضافوا لتجربة قصيدة النثر السبعينية وحظوا بالدراسة والاستقصاء النقدي في الكتاب الذي تعرض لبعض  التجارب العربية  في قصيدة النثر كدراسته عن ديوان لميسون صقر وقاسم حداد والشاعر اليمني الراحل محمد حسين هيثم  لكن ما تصدر الكتاب من دراسة نظرية لقصيدة النثر يأخذ أهمية اكبر لما يشخص في هذه القصيدة نظريا وفي نماذجها النصية  من مزايا وعيوب وما يمكن ان يكون دفاعا عن فوضاها الظاهرة كرد فعل يرصد عبد المطلب حلقاته المتتابعة في الشعرية العربية التي كونتها سلسلة من ردود الأفعال البناءة والمنتجة والتي خلقت هذا التميوز الداعي للتفاؤل والذي تمثل  في خصوبة وغنى تجارب هذا الجيل الذي أثار عربيا كما في مصر الكثير من الجدل والدراسات والتحليل كونه  يعتمد في شعريته على ما دعاه الكاتب (الغنوض الخلاق والعتمة المضيئة) مشيرا إلى ما في نصوص السبعينيات الشعرية من تعامل جديد مع اللغة لا بكونها عنصرا مشتركا فقط مع المتلقي بل بكونها جسدهم الذي لا يشاركهم فيه احد بعباراته .

ومن خصائص السبعينيات نفور شعرائها من النخبوية غم ميله إلى بلاغة مفارقة ودلالة عصية  فكان هجرهم للعروض وتمردهم على الموسيقى التقليدية من أبرز ملامح حداثتهم .

لقد كان الكاتب موفقا في ملاحقة تلك الملامح التي تظهر دون شك بأشكال متفاوتة يجمعها نوع شعري مشاغب بهو قصيدة النثر التي يرى عبد المطلب أنها ٍرغم اعتمادها الظاهري على الفوضى الموسيقية نجحت في خلق إيقاع بديل فانتهت فوضاهم التدميرية إلى الفوضى الخلاقة التي اقترنت بعنوان الدراسة ( شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة) وتأكدت في عنوان الدراسة التي ختم بها الكاتب كتابه وخص بها الشاعر الراحل محمد حسين هيثم عبر دواوينه حتى قصيدته على بعد ذئب التي صارت عنوانا لاخر دواوينه الذي صدر بعد رحيله ملتفتا إلى سمة الحوار مع المتلقي في شعره وتداخل الغموض الخلاق والفوضى الخلاقة بمفهوم الكاتب  الذي تابع شعرية هيثم في مراحله الوزنية والنثرية متوقفا عند حداثته التي راهن على أنها قد وضعت في قمة أعلام اشعر الحداثة في اليمن بل الحداثة العربية

 (شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة - د. محمد عبد المطلب، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 2009).


نداءات من مكان بعيد

يأتي ديوان الشاعر العراقي المغترب في كندا عيسى حسن الياسري ( أناديكِ من مكان بعيد)  تأكيداً  لما عرف عنه في الشعرية الحديثة في العراق من اهتمام بالتفاصيل والميل لتأكيد معالجته الموضوعية بأسلوبية لا غموض يكتنفها ولا تعقيد ،حتى انه وصف ذات مناسبة نقدية بأنه يمثل صوت الشعراء الرعويين في الشعر الراقي ويجسد تمجيد الطبيعة وجمالها وبساطتها  ولكنه في هذا الديوان يخفف من تلك الغنائية التي أوجبتها  سعادته بالطبيعة وابتهاجه بمظاهرها فركن إلى نثرية هادئة لم تسلبه ذلك الوضوح  الذي تعمق بما يبعثه المنفى من حزن وألم وشوق.

في قصيدة قصيرة من بيتين سنلتقي ببعض هذا الشجن:

شاهدة

أيتها الطيور المبتردة

هنا يرقد مشتاك الدافئ

لقد حاكى عيسى الياسري هنا ما تخطه الأيدي عادة على القبور من شواهد تؤرخ وتوجز للتعريف بمن تضم رفاتهم لكن يوجه الخطاب على الشاهدة المقترحة لأولئك الذين يهمهم أن يزوروه كما تهمه زيارتهم وهم جمع  الطيور التي رافقته في دواوينه الأولى التي تلبس فيها  قناع طائر جنوبي يسكن الماء وفضاء القرى لكنه أي الطائر كسواه  من الطيور يعاني البرد في المنفى فلا يقدم له الشاعر غلا مشتى دافئا في هذا القبر الذي يسكنه.

في المدن التي ارتحل لها الياسري مكرها ثمة عصافير لكنها ككل عصافير المدن تظهر بهذه الهيئة:

بالريش المتسخ

وبالمناقير الملوة بالماء الآسن

تستيقظ عصافير المدن

كسلى مجهدة

....

هي محنتها في هذا

لكن مالا نعرفه

أن المدن إذ تمسك بالطائر

لا تتركه يفلت من

شباكها

وكما يؤرقه مصير العصافير والطيور يفكر الياسري بأطفال العراق ومصائرهم المثيرة للأسى فيكتب لهم:

لقد انطفأت أفراحكم

كشواطئ هجرتها الزوارق

وما عادت تتجول فوق رمالها

طيور الغاق.

يواصل الياسري بريد الأشجان هذا مستذكرا موتى أسرته وأهله في البعيد لكنه ينادي من مكان بعيد أيضا وتشي المقتبسات التي تصدرت الديوان بثقل تلك الغربة المخيفة وكونها اضطرارية تبعث على الأسى الدائم.

لكنها في إحدى وجوهها تحرك الشاعر كي  ينقل بحرية بين أشكال شعرية متباينة فإلى جانب قصيدة النثر سيكتب قصيدة تقليدية أي ذات تقاليد شعرية موروثة عرفت خطأ بالعمودية وتتركز فيها غنائية  عالية تناسب الشجن الذي يؤطر موضوعها فهي مناجاة لأم عيسى-الشاعر وقد كتبها بلوعة لا تخفى على القراءة المتقحصة فيقول:

يا أم عيسى لقد أودى بك السهرُ

سهرتِ

أم نمتِ

لن يأتي لك ِالقمرُ

لقد مضى هن بلاد ليس يعبرها

غيمٌ

يسافر في أثوابه المطرٌ

لمن يضيء..؟

فلا الأشجار مورقةٌ

ولا المراتع ُ يشدو فوقها الوترٌ

لقد عمد الشاعر إلى تقطيع الأبيات الموزونة بهذا الشكل المتجاوب مع معاني النص ودلالاته ولم يبق من وزنها الظاهر وموسيقاها سوى القيد النغمي المتمثل بالقافية وكأنها صدى لندب وبكاء يستدعي أيضا الطبيعة ولوازمها دليلا على ما أصاب الحياة من عطب واختلال و تغير.

وبهذا الديوان تضاف لمكتبة الحنين العراقي وشعر المغتربات والمنافي وثيقة هامة دون شك لشاعر تمثل الألم وأعاد تشكيله  شعرياً.

(أناديكِ من مكان بعيد، شعر ، عيسى حسن الياسري، سنابل للكتاب، القاهرة 2008)


أوراق  شعرية من غصن شجرة الأرق

 رغم أن الشاعر اليمني عبد الحكيم الفقيه يصدر ديوانه مؤخرا إلا أن قصائده كلها مؤرخة في أعوام التسعينيات وهي تنبئ عن مقدرة شعرية لافتة لها في الوزن والنثر محصول طيب يمكن الرهان على أن جديده الشعري إن نشر مستكملا ما بدأه في قصائد هذا الديوان سيكون له شأن خاص في شعرية القصيدة اليمنية الحديثة.

القصيدة التي حمل الديوان عنوانها(أوراق من غصن الأوراق ) ذات تقنية تستدعي التوقف فهو يحاول فيها كتابة قصيدة مقطعية –من مقاطع مرقمة_ لكنها تنبني على أساس السطر الشعري لا البيت المنفرد  فهي ذات إيقاع يذكرنا بالقصيدة المدورة ذات البعد الفلسفي القائم على تدوير الجملة الشعرية عبر الأسطر لا الأبيات المستقلة موزونة أو منثورة:

يدور الظل ملفوفا على ساق كسيح ينزوي في صمتها ليومي مشدودا

إلى رتل من الأحجار ، بين الفرع والأغصان، بين البنصر المبتور

والإبهام، تجثو عنده الأوراق طابورا من الأشجان

يبكي الفرع مثل الفرع

من أعطى لهذا الرعب ناموسا؟

المقتبس السابق هو المقطع الثالث من مقاطع القصيدة الستة وهو مختوم كسواه من المقاطع بالسؤال نفسه: من أعطى لهذا الرعب ناموسا؟ فيخلق الشاعر بذلك التكرار إيقاعا يركز السؤال كما يعيد دورة القصيدة المدورة إلى بدايتها وكأن السؤال نفسه هو المدور لا الجمل الشعرية ، ورغم ما خالط القصيدة المؤرخة في عام 1992 من هيجان لغوي وعصف صوري  ونغمية واضحة  تتداعى فيها  التراكيب والصور بسيولة تكاد تحس أحيانا أنها لن تتوقف ، وتتشتت في التفاصيل والتهويمات ، وتقيدها القوافي الداخلية(ينهار النهار البكر.يشوي البرق قلب العصر، نار النار) أو قوله (عفاريت من الأوهام. أشباح بلا أقدام)  إلا أن الشاعر ينجح في خلق حالة من الحزن والفزع أيضا تصل إلى القارئ بعذوبة وعمق  وتورطه في السؤال والقلق أو أحد مظاهره المنتخبة في الديوان كما يشي العنوان أ‘ني الأرق  وهذا السؤال  كحالة إنسانية بثها الشاعر في نصه اللافت هذا سنجده في نصوص أخرى في الديوان.

في قصيدة الديوان الأولى( صور من ألبوم العبث) يستخدم الفقيه التقنية السطرية ذاتها والتدوير والجمل الشعرية الطويلة فيقدم  بدءا من المقطع الثاني دفقا من الصور واللغة الشعرية ذات الجاذبية والجمالية الخاصة التي تستوقف القارئ وهي مكتوبة مطلع التسعينيات لكنها تتوفر على حداثة  تؤسس لمناخ شعري نفتقده في المحصول الشعري لأجيال الشعر التي زامنها الشاعر فكأنه بهذا يتفرد بين أقرانه فيكتب عن حالة من الحزن يؤطلرها التدوير الداعي كما أسلفنا لمشاركة القارئ وفاعلية القراءة:

جزع أنا كفراشة في مسجد قروي حول فتيل فانوس

تلاصق ظلها بالابتهال

كأذرع متضرعات

كالعيون المفعمات بحزنها

كملامح تمحو ملامحها المخاوف من دوام القحط

والطاعون والهلع البهيم

سيلفت نظرنا أيضا انتهاء المقاطع الثمانية التي تتألف منها القصيدة بقافية واحدة هي القاف وكأنها قرار في مقطوعة موسيقية عذبة، وذلك يباعد القيد النغمي الذي يكفي الوزن لتأكيده.

ديوان عبد الحكيم الفقيه رغم تأخر صدوره سيضع علامة فارقة على لوحة الحداثة الشعرية اليمنية ويؤكد تنوع تجارها وغناها الأسلوبي.

(عبد الحكيم الفقيه: أوراق من غصن الأرق، منشورات رابطة جدل – المكتبة الشعرية 2، صنعاء 2008)


كلنا في الليل شعراء سود

كانت أقصر قصائد الشاعر الأمريكي الأسود ي. ميلر  التي قرأها في لقاء ثقافي في صنعاء أواخر التسعينيات   موضع انتباه  الجميع وهي قصيدة (بلا عنوان) التي تتكون من خمس كلمات في ثلاثة أسطر:

كلنا
في الليل
شعراء سود

إنه في هذه الكلمات يلخص مبرر المساواة بين البشر بالاحتكام إلى الطبيعة التي لا تميز بينهم فالليل يجعل الجميع شعراء سودا ، بل هو يحيل بشاعرية وعذوبة كل الشعراء سودا لا لون آخر يفرقهم في ظلمته.

بعد تلك السنوات سأقرأ مختارات شعرية مترجمة له اختارتها وأعدتها المترجمة العراقية الشابة وصال العلاق، وحسنا فعلت إذ جعلت تلك القصيدة القصيرة عنوانا للمختارات ، وكان حضور الشاعر في معرض أبو ظبي للكتاب- مارس 2009- وصدور القصائد وتوقيعه الكتاب مناسبة  ملائمة للإشادة بشاعر تتحدث أشعاره عن أصدقاء وصديقات من مختلف بلدان العالم ودياناته ومجتمعاته ، بل هو في تقديمه للترجمة العربية يقول إنه أسمى ابنه باسم الأديب العربي الخالد جبران ويلفته ما في المنطقة العربية من ( تاريخ حافل بالإبداع )يسمي منه تحديدا الصوفية،  ويطمح إلى أن يكون قادرا على التواصل مع هذا العالم والتعامل معه ، ويأمل أن توفر قصائده ملجأ من العاصفة للمحتاج فلا وطن للقصائد ولا مأوى ، لذا سيستذكر أحد ضحايا العنف من السود ويتخيله يقلب ألبوم صور من العراق فيصفر استهجانا للمجندة الأمريكية التي ترفع إبهاميها إلى الأعلى في مسلسل عذاب سجناء أبو غريب الشهير، ولربما كانت التفاتته تلك  جوابا تأجل هذه السنوات وأوضح كل شيء.

إنسانية الشاعر تطغى على انتماءاته كلها ، ويقوده استحضار المفكرين والأدباء  والشخصيات والثوار السود: مالكولم أكس، لانكستون هيوز، إليزابيث الكسندر، كلاي وغيرهم .. إلى قرابة عجيبة مع مواطني العالم : سيدة في كوبا تسأله إن كان أنغوليا فيكتب:

أحاول أن أخبرها وبما أجيد من الأسبانية
أنني أمريكي
  فتجد السيدة هذا الأمر صعب التصديق
أحيانا، أشعر أنا، بالشيء ذاته

لقد غدت أمريكية الشاعر موضع شك حين يتعلق الأمر بإنسانيته نفسها تلك التي تأخذه ليتحدث عن عامل النظافة:

بعينين فارغتين

يرفع ممسحته

من سطل الماء

  ينظف المكان

وحيداً

 في غرفة مستأجرة

 فتندرج

حياته في

الغبار

القابع  في

أحد الأركان المهملة

يعيد شعر ميلر تقاليد الشعر الأسود الإنسانية والمتميز بهيجانات عاطفية ومغامرات لغوية وصورية طريفة والتقاطات الموضوعات وزوايا النظر في أغرب المواقف والأشياء: الحدبث عن خزانة الرجل الأسود ومنزل الأسرة ، عن الغناء والعمل و عازفي الطبل وموسيقى الجاز  و الطرق والسيارات ، عن الكاتدرائيات والبوذية وألعاب الأطفال. إنه يصنع من كل شيء حوله شعرا عذبا وبإيقاعات آسرة.

يخاطب جيفارا باسمه الأول:

تشي

هل تدرك أن الرياح لا تنسى قط

فوجهك في كل مكان

يمجد الشاعر الحب استكمالا لرؤيته الإنسانية فيكتب قصائد عن أشواقه ولذاته وعشقه:

عندما أكتب في منتصف الليل

تتسللين إلى قصيدتي

فليس هناك جواز سفر

إلى القلب

أو وثائق تمنعك من دخوله

هذا الحب لا يرى سوى المحبين الحقيقيين جديرين به، لذا فهو يتساءل عبر عنوان احد دواوينه(أين قصائد الحب المهداة إلى الطغاة؟) كما يكتب عن بيروت أكثر من نص  وتشغله الحرية حلما عريضا وعصيا لكنه ضروري أيضا.

(في الليل كلنا شعراء سود، مختارات شعرية، ي .أثيلبرت ميلر، ترجمة وإعداد وصال العلاق، منشورات كلمة، أبو ظبي 2009).