العدد  الثامن - صيف 2009م

   
 

  متابعات
 

ماتسو باشو... وشراحه
 في الوضوح النادر والبساطة الجميلة (
لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                       محمد الأسعد
                       شاعر وروائي من فلسطين

تزايدت في السنوات الأخيرة التلميحاتُ والإشاراتُ إلى قصيدة الـ"هايكو" اليابانية في الثقافة العربية. ولاحظتُ خلال تصفح بعض المواقع الأدبية على شبكة الانترنت أن هذه القصيدة بدأت تجتذب أعدادا متزايدة من القراء المعجبين والمتحمسين والمتسائلين؛ فمنهم من تدهشه لماحيتها البرقية، ومنهم من يتحمس لغموضها الغامر الإيحاء، ومنهم من يتساءل عن مصدرها... وإلى جانب هؤلاء هناك من يقدم شيئاً منها صادفه في كتاب أو صحيفة، وهناك من يحاول محاكاتها؛ من دون أن ننسى ملاحظة أن هناك من استهان بها وحسبها مجرد ترتيب كلمات تصف الطبيعة بلا غاية أو هدف.

في هذا المسار سأتخذ طريقي إلى قصيدة الـ"هايكو" ممثلة بأشهر شعرائها، أعني الياباني "ماتسو باشو" (1644-1694)، عبر شُرَّاحه الكثر، مع القليل من تعليقاتي الشخصية، وشيء من التنوير والإضاءة والتعريف، في محاولة لوضع هذه القصيدة في مناخاتها التي ولدت وترعرت فيها، وتقديم صورة تقريبية لما تعنيه بالنسبة للشعراء والنقاد اليابانيين.

صحيح أن العالم، وعالم الغرب بخاصة، انتبه إلى هذه القصيدة منذ مطلع القرن العشرين، وتزايد احتفاء شعرائه بها، محاكاةً ودراسة؛ وصحيح أن الوطن العربي عرف -وإن على نطاق ضيق- ما يشبه الانتباه إليها أيضاً، ترجمة ومحاكاة، في وقت متأخر لا يكاد يتجاوز ثمانينيات القرن العشرين؛ إلا أن كل هذا الانتباه بشقيه لم تتردد له أمواج ملحوظة في أنهار الشعر العربي الجديد، منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الراهنة. ولا نجد بين أيدينا تراثاً يعتد به مثلما حدث مع أمواج الشعر العربي التي تموجت واضطربت تحت تأثير الشعر الغربي الذي تحول إلى مرجعية شارحة ومفسرة لحركات تجديد الشعر العربي. لهذا السبب يكتسب هذا المسار بأسلوبه الذي نقترحه أهمية استثنائية. إنه عودة إلى الأصل من دون احتطاب بليل كما حدث مع بعض الذين تداولوا أمر قصيدة الـ"هايكو" وما سمعوه عنها، كمن يتداول إشاعة أو خرافة.

 

* * *

           

الأهمية التاريخية لشاعر الـ"هايكو" الكبير، "ماتسو باشو"، أو "شجرة الموز" إذا ترجمنا اسمه حرفياً، واضحة وضوحاً لا لبس فيه؛ فقد أظهر، إلى مدى غير معروف من قبل أبداً، الممكنات الشعرية للشكل ذي السبعة عشر مقطعاً. قبل زمنه، كانت القصيدة المسماة "هايكاي" لعبة متمدنة لتزجية الوقت أكثر مما كانت شعراً جاداً، وكان مطلعها، المسمى آنذاك "هوكو"، والذي سينفصل عنها في ما بعد ويستقل تحت اسم "الهايكو"، جزءاً منها. واستطاع "باشو"، بحساسيته الأدبية الحادة وسيطرته المتمكنة على اللغة، استكشاف كل الممكنات الهاجعة في هذا الشكل الشعري. لقد كان مستكشفاً جريئاً كما يقول عنه "ماكوتو ايدا"، فقد استخدم الكلمات العامية، واستعار من اللغة الصينية الكلاسيكية، وكتب "هوكو" بثمانية عشر أو تسعة عشر مقطعاً أو أكثر. بل والأكثر أهمية أنه سعى إلى جعل الـ"هوكو" تستجيب للتجربة الانسانية الفعلية، لما رأى وفكر وشعر بنزاهة وإخلاص نادرين. لم يرفض "باشو" رفضاً تاماً سمات الـ"هايكاي" الممراحة أبداً؛ ولكنه بين أن الـ"هوكو" كانت قادرة على أن تحتوي في شكلها الموجز كل حالات الحياة الإنسانية، العاطفية منها والشعورية. أو بكلمة مختصرة: لقد أبدع شعراً جاداً جاء نتاج ما كان معروفاً على نطاق واسع أنه لعبة مسلية.

ولكن أهمية "باشو" كشاعر تتفوق على أهميته التاريخية؛ لأن ما سكبه في شعره يمتلك جاذبية كونية ودائمة. وحاول القراء تفسير هذه الجاذبية بطرق مختلفة، إلا أنهم مالوا إلى الاتفاق على أن شعر "باشو"، منظوراً إليه بكليته، يكشف عن جهد استغرقه طيلة حياته للعثور على معنى في الحياة.

لقد مر "باشو"، المولود في عائلة دون الطبقة الحاكمة مباشرة وأخفق مبكراً في محاولته الصعود إليها، بمرحلة شباب مثقلة بالشك الذاتي والقلق، بل وحتى الخيبة. ومع ذلك، امتلك، هو العائش في عصر تالٍ على العصور الوسطى، ثقة عالية بإمكانية الإنسان على أن يعتنق ديانة إنكار الذات. فسبر، في بحثه المكثف عن مخطط قابل للتطبيق، أعماق الطاوية وبوذية الزن. وفي نهاية المطاف وجد، أو اعتقد أنه وجد، ما التمسه في ما سماها "فوجا"، أي: طريقة حياة الفنان، وهي طريقة نسك مكرسة للسعي وراء حقيقة أبدية في الطبيعة. وكانت النزاهة التي تابع فيها الــ"فوجا" نزاهة مؤثرة حقاً. ولكن، رغم هذا، من المهم ملاحظة أن الظنون والهواجس ظلت تساوره حول القوة المنجية والصادقة لهذه الطريقة. ولا يبدو أنه استطاع حتى آخر أيامه مزج الشعر بالإيمان مزجاً كاملاً.

 

* * *

قصيدة الـ"هايكو"، وهذا هو الاسم الذي أصبحت تعرف به الـ"هوكو" في القرن التاسع عشر، والتي أصبحت تتكون من سبعة عشر مقطعاً، تتطلب مشاركة فاعلة من أولئك الذين يقرؤونها؛ لأن الشاعر يترك القصيدة غير مكتملة، أو هكذا تبدو، ومن المتوقع من كل قارئ أن "يكملها" بتفسير شخصي. ومن هنا، من المفيد رؤية كيف قام آخرون بتفسير قصائد معينة. فلنبدأ إذاً بهذه القصيدة:

عتمة البحر

نداء بطة بريّة

شاحب البياض.

يقول الناقد "هاندا" إن هذا التركيب يمكن أن يكون بصيغة معتادة كما يلي:

عتمة البحر

شاحبة البياض

نداء بطة بريّة.

ولكن "باشو" يتعمد إحداث قلب بين العبارة الثانية والثالثة. إنه يختار أن يستمر بسلاسة مع مقاطع السطر الثاني الخمسة لينتهي بقوة بسبعة مقاطع في السطر الثالث. وكانت النتيجة أن لغة القصيدة لم تتتابع فقط، بل وخلقت إحساساً قوياً بالاستقرار.

أما الناقد "كومي يا" فيرى أن ما هو صارخ في هذه القصيدة هو تلفظ السطرين الأخيرين، حيث توصف ظاهرة سمعية بتعابير بصرية. وقد أنجز الرمزيون الفرنسيون الكثير بهذه الوسيلة؛ ولكن من الواضح أن "باشو" لم يتعلم هذه الطريقة منهم، بل منح الانطباع الذي شكله بوساطة حساسيته تعبيراً مباشراً وأميناً، وأنتج قصيدة حية لا شيء مصطنعاً فيها وغير طبيعي.

ويتوسع ناقد آخر، هو "اواتا"، فيقول: "إن البخار الأبيض الشاحب فوق البحر ونداء البطة البرية امتزجا في مدركات الشاعر الحسية. بالطبع، العين هي التي شاهدت البياض، والأذن هي التي سمعت الصوت، ولكنه شعر كما لو أن عينيه شاهدتا ما سمعته أذناه، وحول هذا الشعور العذب إلى قصيدة".

وينبه الناقد "اوجاتا" القارئ إلى أن عليه أن يدرك أن سطر "نداء بطة بريّة" يكثف مشاعر حنين وشجن الشاعر الجوال الذي مازال يتجول بين الطرق مع نهاية العام. وقد ركز شراح الشاعر السابقون على تعبير "شاحب البياض" وغفلوا عن هذه النقطة.

وأخيراً نجد لدى الناقد "كونيشي" استطراداً لافتاً للنظر. يقول: "أسلوب هذه القصيدة وصفي، وهو أسلوب غير موجود في قصائد الشاعر المبكرة. إنها تصف مشهداً وصفاً موضوعياً من دون إدخال عاطفة من العواطف مثل السعادة أو الأسى. إلا أن هذا النهج لا يجب أن يُخلط بمبدأ شاسي، أي: مبدأ الواقعية، الذي أصبح رائجاً في أوائل القرن العشرين بعد أن وفد بتأثير الواقعية الغربية؛ فهذا المبدأ لم يظهر في الأدب الغربي حتى القرن التاسع عشر. ومن الواضح أن باشو استمد هذا المبدأ من الراهب فوكوجاوا، حين بدأ يدرس بوذية الزن، وكان رهبان هذه البوذية يجيدون وصف مشهد وصفاً موضوعياً بكلمات قليلة، ويجسدون في هذا الوصف حقيقة كونية".

 

تعليق:

في هذه الشروح إشارة أو تلميح إلى ما يمكن أن يسمى "تراسل الحواس"، أي: التنافذ بين مجالات الحواس، سواء كانت سمعية أم بصرية أم حسية. وهذا التنافذ يكسب اللغة وظيفة غير معتادة تكون معها قادرة على القبض على أشد لوينات المشاعر رهافة. لقد انزاح تركيب السطور عن المعيار المعتاد، كما أشار "هاندا"، فتحول إلى تركيب ذي دلالة مختلفة عن الدلالة المألوفة. ويبدو أن السبب حدسي قبل أن يكون فكرة ذهنية؛ فهنا ليس مجرد تحويل السمعي إلى بصري، بل إقامة مسافة توتر قائمة على تضاد بين العتمة والبياض، وبينهما النداء، نداء: البطة البرية، المتحرك الذي يصل بين الاثنين، بين المعتم البعيد والبياض القريب. وقد اقتضت الحالة النفسية هذا التركيب كحدس شعري، فارتسمت العتمة للوهلة الأولى، ثم النداء القادم من بعيد، ممتداً مثل امتداد البياض ومتلامحاً مثله.

 

* * *

 

هو الربيع

تلّ بلا اسم

في الضباب الخفيف.

هذه القصيدة، مع أنها تبدو واضحة، كما يقول الناقد "اوتسوبو"، إلاّ أن وضوحها من النوع النادر.

أما أرضيتها، فيرجعها الناقد "اوجاتا" إلى تقليد كلاسيكي، حيث دأبت أجيال من الشعراء على تبين قدوم الربيع حين ترى الضباب معلقاً فوق الجبل.

ولكن الناقد "ياماموتو" يلتفت إلى صوت كلمات القصيدة الناعم، فيرى أن هذه الكلمات تحثنا على رؤية بصرية، على رؤية الخطوط الخارجية المرهفة لتلك التلال في مقاطعة "ياماتو".

 

تنوير:

لدينا ما يسمى بالأصالة، بمعنى الصدور عن موروث. ولكن حين يكون الموروث أرضية، أي: تقليداً كلاسيكياً بتعبير "اوجاتا"، فإنه يتجاوز مجرد الصدور عن موروث أو محاكاته. الشاعر هنا يأخذ مرور الزمن في اعتباره، في الوقت الذي يرتبط فيه بالصورة الكاملة للموروث الشعري، ولكن مع أخذه في طرق جديدة، والإطلالة به على مشهد جديد. "باشو" هنا -كما أرى- لا يمسك بنافذة التقاليد الكلاسيكية ليطل منها على المشهد نفسه الذي كانت تطل عليه، بل يستخدم النافذة نفسها، ولكن ليطل على مشاهد جديدة. هذا أمر منطقي وطبيعي، لأنه متحرك في الزمن، كلما فكر بالماضي فكر بمرور الزمن، لا يكاد ينسى هذا لحظة واحدة. وهذا هو الفرق بين المجدّد الحي الذي يمتلك تراثاً، وبين المحنط التراثي الذي لا يشعر بمرور الزمن.

 

* * *

 

أن نشعر بفكرة كما نشعر بشذى وردة، هذا تعبير للإنجليزي . س. إليوت" في وصفه لما أطلقنا عليه "تراسل الحواس". هو لم يستخدم هذا المصطلح، ولكن من الواضح أن انبثاق هذا التمازج بين الفكري والحسي هو نتاج تكامل في الحساسية. لنقرأ هذه القصيدة:

وأنا أتقدم على طريق الجبل

تمس شغاف قلبي بطريقة ما

بنفسجة بريّة.

يقول الناقد "ميسيتسو" إن الشاعر قال هنا ما شعر به بالضبط، ولذا جاءت القصيدة واضحة. أما الناقد "كيون" فيرى أنها تصف وصفاً حيوياً عاطفة الشاعر الذي شعر بحنان بالغ تجاه الزهرة، وكاد أن يتحدث إليها.

وهنا رأي آخر؛ فالقصيدة كما يرى الناقد "روهان"، أبعد ما تكون عن كونها قصيدة عميقة؛ لأن الشاعر يشخصن في السطرالأوسط البنفسجة، والزهرة ما كان لها أن تبدو بالغة الجاذبية لو كانت وردة جبلية أو "فاوانيا". ما فتن الشاعر هو أنها كانت تتفتح تفتحا غير واضح وسط العشب على امتداد طريق جبلي.

الناقد "هاندا" يمسك بسر هذه الشخصنة المشار إليها: "إن سطرها الافتتاحي يوحي بأن الشاعر سار مسافة طويلة على طول الطريق الجبلي، وفي مثل هذه الوضعية، من الطبيعي أن يشعر بانجذاب كبير تجاه بنفسجة متفتحة. لقد حدق فيها مركزاً تفكيره، فرأى الزهرة تتفتح هناك ببراءة، وبدا لعينيه أنها تمتلك شعوراً مماثلاً لشعوره. إنه لا يستطيع شرح لماذا بدت هكذا، ولكنه فكر أنها فعلت هذا، أي شعرت بشعور يماثل شعوره. والسطر الأوسط يشير إلى هذه الحقيقة".

ويضيف الناقد "نيجوشي" بعداً آخر بقوله إن "بنفسجة ترفع رأسها بين أعشاب الغابة لا تعدو كونها ذرة ضئيلة في مجموع الوجود؛ ومع ذلك فإن الشمس، مركز كوننا، تدور حولها. لقد منح باشو هذا الاحترام ذاته لكل الظواهر الطبيعية بغض النظر عن حجمها، صغيرة كانت أم كبيرة".

ويتوجه ناقد آخر إلى القارئ، فيرى "ايبارا" أنه يمكنه الشعور بالطريقة التي يفعم فيها تدريجيا جمالُ شيء من الأشياء، صغيرٍ ومرهف وسط محيط هادئ، قلب مشاهد بنوع من الحنان.

ويقارن الناقد "ياماموتو" بين قصيدة "باشو" هذه وأخرى للشاعر "بوسون" الأقدم منه. وهذه هي قصيدة "بوسون":

 بالنسبة للناس

الذين ينخلون العظام، كم تبدو غالية

بنفسجة بريّة!

يقول: "تعبر هذه القصيدة عمَّا ما يوحي به باشو بغموض في سطر: تمس شغاف قلبي بطريقة ما". إن "بوسون" بتقديمه لصورة تظهر التباين بين الناس الذين يجمعون عظام الأعزاء من المحرقة، وبين البنفسجة، يعزز ويعمق هذا التباين، بل ويضيف حتى دعابة من دعابات الـ"هايكاي" إلى جمال بنفسجة غالية. وفي هذا دليل كاف على أن للـ"هايكو" المعاصرة جذراً في زمن "بوسون". ولكن حساسية "باشو" جعلته يقول أشياء مثل: "أين هي الروعة في قول كل شيء؟"، و"لا يجب أن تنطق الهوكو بكل شيء". في شعر "باشو"، ما يبقى غير معبر عنه يسنده "شيء" كامن خلفه. وفقدان هذا "الشيء" ينتج عنه في النهاية انعدام تكامل في الحساسية، كما يمكن أن يلاحظ في قصيدة "بوسون" الرومانسية. أما حساسية "باشو" فقد مكنته من الإحساس بالفكر "مباشرة، كما هو الإحساس بشذى الوردة"، على حد تعبير . س. إليوت"، وساعدت القصيدة أيضاً على عدم الوقوع في الميوعة العاطفية.

 

إضاءة:

نضع يدنا هنا على أداتين من أدوات التحليل النقدي: الغموض الموحي، وتكامل الحساسية. فحين يلجأ الشاعر إلى الغموض الموحي، أي: عدم قول كل شيء، مع الإبقاء على ما يسند هذا الشيء الغائب، إنما يعبر عن قيمة عليا من قيم النظرة الجمالية اليابانية التي ترى الجمال في بدايات التفتح وأواخر الذبول، لا في الاكتمال الذي لا روعة فيه. وفي هذا تعبير عن نزعتين، الأولى: إعطاء المشاهد أو القارئ نصيبه من المشاركة، والثانية: البقاء على الحافة المنذرة بكل الاحتمالات. في الأولى لا يقف المشاهد أو القارئ موقف المتلقي السلبي، بل موقف المشارك الفاعل. وفي الثانية انفتاح دائم على ما يأتي. ولم يعرف العالم -إلا حديثاً- التنظير لما سمي بـ"النص المفتوح"، أي: ذلك النص غير المكتمل إلا بالحد الأدنى الضروري من العناصر في انتظار قراء فاعلين يأخذون نصيبهم في قراءة النص وأدائه من زواياهم الشخصية. أما تكامل الحساسية، فأفضل ما يعبر عنه هو استشهاد الناقد "ياماموتو" بمقولة من مقولات "إليوت"؛ ولكن هناك ما يعبر عن هذا، بشكل أكثر وضوحاً، في إشارة هذا الناقد الإنجليزي إلى وحدة تجربة الشاعر؛ فالشاعر لا يجرب الأشياء منفصلة وعلى شكل شظايا، بل يوحد بين كل ما يجربه على اختلافه، سماعاً وإبصاراً وتفكيراً، في كلية واحدة. أو هو بتعبير آخر: يفتح الطريق أمام ملكاته الحسية والفكرية لتتراسل بلا حدود.

 

* * *

 

حين يقال عن شاعر إنه كبير، قد يتبادر إلى الذهن أنه أصبح فوق النقد، أو أنه -بتعبير ساذج قرأناه صغاراً لعباس محمود العقاد- "يظل جيداً حتى في رديئه". إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لجمهرة النقاد اليابانيين، فالنزاهة مطلوبة من الشاعر والناقد على حد سواء. ومن هنا لم تمنع مكانة "باشو" الشعرية والتاريخية بعض النقاد من رفض بعض قصائده، إما بوصفها من الدرجة الثانية وإما أنها ترتكب جريمة أسوأ من الانتحال. إليكم هذه القصيدة:

شجرة صنوبر

كاراساكي، ضبابها أرقّ

من براعم الكرز المزهرة.

 

فماذا يرى فيها النقاد؟

نبدأ بالناقد "كيوراي" الذي رأى فيها الكثير من الفكر التأملي. ويضيف: "إن الهوكو ذات الفكر التأملي ستكون قصيدة من الدرجة الثاني. قال باشو كل الشروحات، بما فيها شروحات كيكايو وشروحاتك، عقلنات. لقد كتبت هذه القصيدة لمجرد أنني فكرت أن شجرة الصنوبر الضبابية تبدو أكثر جمالاً من البراعم المزهرة".

ولكن الناقد "شيكي" من القرن التاسع عشر كان أكثر قسوة على هذه القصيدة:

"تلمح هذه القصيدة، وفقاً لأحد المفسرين، إلى قصيدة من النوع المسمى: واكا، للإمبراطور جوتابا (1180- 1239):

عند كاراساكي

خضرة شجرة الصنوبر

ضبابية أيضاً

تضاهي البراعم المزهرة

فجراً في يوم ربيعي.

 

ومن الواضح أن قصيدة باشو مبنية على قصيدة الامبراطور، ولكن هذا البناء جاء بالغ البؤس في هذا النموذج إلى درجة أنه جريمة أسوأ من الانتحال. بالطبع علينا أن نقرأ القصيدة من دون الرجوع إلى تلك الواكا، ولكن حتى في هذه الحالة فإن ثانوية القصيدة لا نزاع فيها، ويجب نسيان قصيدة من هذا النوع حفاظاً على سمعة باشو".

هناك موقف آخر من هذه القصيدة نفسها يتناقض مع كل ما يبدو أنه تحامل متأخرين. يقول "سانجا" إن هذه قصيدة تفوق الوصف. ويتوسع "شوسون": "لا تشير كلمة: ضبابها، إلى عتمة مساء ربيعي حين تبدو هيئة الأشياء غير واضحة المعالم. وعلى رغم أن الشعراء منذ الأزمنة القديمة تغنوا عادة ببراعم أزهار الكرز المزهرة، إلا أن أحداً منهم لا يصف شجرة الصنوبر بكونها ضبابية. أمام مشهد البحيرة، حيث شجرة الصنوبر وأزهار الكرز ضبابية على حد سواء، نظر باشو بانتباه واكتشف جمالاً جديداً في الضباب الذي يغطي شجرة الصنوبر. الوقت في ذلك اليوم مختلف عليه، ولكنني واثق أن الوقت كان ليلا".

 

تعليق:

فكرة اكتشاف الجمال في الموجودات هنا هي الأكثر لفتاً للنظر في حديث "شوسون"، لأن العادة الشعرية الرديئة الجارية في مختلف الفنون هي اقتراح فكرة عن الجمال والجميل، لا اكتشافه. وسنرى في القصيدة التالية كيف أن جِدَّة الإدراك هي الطريق إلى الكشف عن الجمال غير الملحوظ في الطبيعة والحياة. مرة أخرى تعود هنا مسألة الموروث، في اتكاء "باشو" على قصيدة "الامبراطور" القديمة، ولكن بعد أن أطل بأدواته على مشهد جديد. وأعتقدُ، على عكس ما قاله الناقد الأخير، أن الوقت لم يكن ليلاً، بل كان "باشو" ينظر إلى المشهد وهو يتلامح في مياه بحيرة "كاراساكي" مساء.

 

* * *

 

فراشة لا غير

ترفرف

في حقل من شمس وظلال.

 

يقول الناقد "شوكا تسودو" إن الشاعر في هذه القصيدة يود أن يشكر أولئك الذين احتفوا به، مقارناً نفسه بفراشة ترفرف فوق الحقل تحت ضوء الشمس. وقد عانى، بتجواله بين الحقول والتلال طيلة حياته، من البرد القارس، ما تعانيه فراشة في أوائل الربيع، ولكنه بفضل عطف الناس من حوله هاهو الآن يمتع نفسه مثل فراشة في حقل مشمس.

أما الناقد "هوري" فيذهب إلى مستوى آخر، حين يقول: "في هذه القصيدة نوع من حلم يقظة مع صورة فراشة مرفرفة تعيدنا إلى حلم تشوانغ تزو".

 

إضاءة:

يكتب "موكوتو ايدا" أن "باشو" في العام 1686 ألف بالمشاركة مع 15 تلميذا من تلاميذه قصيدة متسلسلة من مائة قصيدة على شرف "كيكايو"، وكان هذا العمل مهماً، بسبب تشديد "باشو" على ما يسمى في اليابانية "آتاراشيمي"، أي "الجِدة"، التي يمكن تعريفها بأنها ليست جدة المعجم بل جِدة الإدراك. ووفق هذا المفهوم فإن الشاعر يستكشف جمالاً غير ملحوظ، سواء في الطبيعة أم في الحياة، كما فعل في القصيدة السادسة من هذه السلسلة، التي ترسم صورة نجار يبني فرن فحم يستخدم لصناعة الخزف. في هذه القصيدة اكتشف الشاعر شيئاً نضراً لم يسبق لأحد أن لاحظه.

 

تعليق:

بإشارته إلى حلم يقظة "تشوانغ تزو" يحيلنا الناقد "هوري" إلى قصيدته الشهيرة:

هل أنا إمبراطور يحلم

أنه فراشة

أم أنني فراشة تحلم

أنها إمبراطور؟

 

تنوير:

هناك ازدواجية في بعض معاني الكلمات اليابانية في هذه القصيدة؛ فكلمة "تشو" (فراشة) يمكن أن تستخدم للمفرد أو الجمع. كما أن كلمة "هيكاجي" يمكن أن تعني "ظلاً في الشمس" أو "ضوء الشمس"، ولهذا ترجمتها بعبارة "في حقل من شمس وظلال".

 

* * *

 

حين نظرتُ عن قرب، رأيت ُ

عشبة بيضاء تزهر

تحت السياج.

في تعليقه على هذه القصيدة يرى الناقد "روهان" أن زهرة كيس الراعي الصغيرة لا تلفت النظر، ومع ذلك التقطتها عينا "باشو". وهذا هو قلب هذه القصيدة.

ويرى "كوسيكي" أن الشاعر هنا يمتدح رحمة الطبيعة، لأنها لم تنس أن تهمس بربيعها لزهرة كيس الراعي الصغيرة.

ويقول "ياماموتو" إن الشاعر حين اكتشف زهرة كيس الراعي وهي تزهر، هي الضئيلة، تحت السياج، بجوار كوخه، شعر بتحرر مؤقت من روتين حياته اليومية.

ويختم بقول "اموتو": "حين يكتشف باشو شيئاً، يصبح ذلك الشيء موجوداً بالنسبة له لأول مرة. لقد شعر هنا كما لو أنه هو من خلق هذا الشيء".

 

تعليق:

هنا بساطة مذهلة، لأنها غير مطروقة. هنا وضوح، ولكنه من النوع النادر. يقول "باشو": "حين ننظر بهدوء نرى كل شيء مكتفياً بذاته". ربما لهذا السبب تشدد قصيدة الـ"هايكو" على مبدأ جوهري من مبادئ الشعرية، وهو تجسيد الشيء، رسمه بذاته، من دون استعانة بمجاز أو اتكاء على تشبيه أو أنسنة الأشياء. شخصنة الأشياء تعد ضعفاً. لا تصف شجرة، لا تتحدث بلسان شجرة، بل كن شجرة.

 

* * *

 

كنت أود أن يتوقف المسار هنا، عند "العشبة المزهرة تحت السياج"، ولكنني شعرتُ أن تقديم "باشو" لا يكتمل إلا بالوصول إلى أكثر قصائد الـ"هايكو" شهرة، قصيدة "الضفدع" التي كتبها في العام 1686، ويبدو أن شهرتها انطلقت تقريباً فور كتابتها، لأن السجلات تظهر أن جماعة من الشعراء التقت في كوخ "باشو" ذات يوم من أيام أبريل، وأجروا مسابقة تأليف "هوكو" حول موضوع الضفادع. وبدأ "باشو" المسابقة بقصيدته هذه التي أطلقت السباق الذي نشرت نصوصه في ما بعد تحت عنوان "مسابقة الضفدع". وهذه هي القصيدة:

بحيرة عتيقة

ضفدع يقفز

بلوب.

يقول الناقد "شيكو": "كان الأستاذ باشو في كوخه على ضفة النهر، شمالي ايدو، في ذلك الربيع. وجاء صوت الحمام عبر تساقط قطرات المطر الناعم. كانت الريح لطيفة، والبراعم المتفتحة ساكنة. وكان يسمع في أواخر الشهر الثالث صوت ضفدع يقفز في الماء في غالب الأحيان. وأخيرا طفت في ذهنه عاطفة لا يمكن وصفها، وتشكلت في سطرين:

ضفدع يقفز

بلوب.

 

"كيكايو"، الذي كان إلى جانبه، وكان من مقربيه، تجرأ واقترح وضع تعبير "زهور جبل" ليكون السطر الأول، ولكن الأستاذ اختار تعبير "بحيرة عتيقة". وإذا كان لي أن أدلي بدلوي، فسأقول إن "زهور جبل" رغم أنها تبدو شعرية ومحببة، إلا أن عبارة "بحيرة عتيقة" تمتلك بساطة وجوهراً أعمق.

وكتب الناقد "موران": "هذه القصيدة غامضة غموضاً عصياً على الوصف، إنها عميقة ومرهفة ومحرِّرة، ولا يمكن أن يفهمها المرؤ إلا بعد سنوات من الخبرة".

وتتوسع دائرة القراءة، فيقول "جوزان": "يكثر نقيق الضفادع في أواخر الربيع، ولكن لا شيء منها في هذه الأيام. الصوت الوحيد الذي سمعه الشاعر كان صوت ضفدع يقفز في الماء، فجعله يشعر بالوحدة على نحو أشد، وأثار مزاجه الشعري. تغنى شعراء الماضي بنقيق الضفادع، ولكن باشو ركز على صوت قفزتها في الماء، وبهذا خلق أسلوبه الشعري الخاص به. إن العاطفة غير المعبر عنها في هذه الهايكو هي: أنا وحيد وحدة تامة".

ويأخذنا "شيكي" إلى شيء آخر، إلى أن هذه القصيدة، بسبب بساطتها البالغة، من المحال تقليدها: "ما نراه أمر معقد دائماً، بينما ما نسمعه بسيط عادة. هذه القصيدة لا تعدو كونها تقريراً عما أحست به أعصاب الشاعر السمعية، ولم تتضمن شيئاً من أفكاره الذاتية أو البصرية أو مجرد صور متحركة. ما يسجل هنا ليس سوى لحظة زمنية. لهذا السبب ليس لهذه القصيدة عمق في الزمان أو المكان، ومرجع ذلك إلى أنه لا يمكن لقصيدة أن تكون أبسط من هذه. وهذا سبب يجعل من المحال تقليدها".

الناقد "ميسيتسو" يركز على أهمية الوصف البحت، أي من دون تدخل أي تعبير مباشر عن العاطفة: "كانت هناك بحيرة عتيقة يقفز فيها ضفدع، ثم سُمع صوت الماء (بلوب) ذاته. هذا هو كل ما تقوله القصيدة، ولكن أهميتها تكمن في كونها تصف المشهد وصفاً بحتاً. إنها مكتوبة من دون ادعاء أنها تحتل مرتبة عليا بين قصائد باشو. وأنا واثق من أن باشو وتلاميذه لم يتوقعوا من قراء المستقبل أن يمنحوا هذه الهايكو قيمة كبيرة، أو إلصاق الكثير من المعاني المفاجئة بها".

للناقد "آبي جي" تعبير مختزل: "هذه القصيدة مثل ومضة برق تضيء زاوية هادئة". ولكن الناقد "شيدا" لا يكتفي بالومضة، إنه يحلل الحركة التي التقطها الشاعر: "كان باشو يجلس في كوخه وأمامه كيكايو، ومن الواضح أنه لم يكن هناك وجود لشخص آخر. كان الهدوء شاملا، وربما كانا يتحدثان، ولكن حديثهما لم يقلق الهدوء. الموسم كان آخر الربيع، أزهار الجبال تتفتح على حافة بحيرة الحديقة، شجرة الموز، ملكة الحديقة، بدأت لتوها بالتفتح، وبدأت تظهر براعم عارية على جذعها العتي. كان الوقت نهارا. وفجأة يكسر الصمت ضفدع يقفز في البحيرة العتيقة. وفي اللحظة التالية ساد الهدوء مرة أخرى. وخلقت النقلة المفاجئة من السكون (لا صوت) إلى الحركة (صوت)، ثم عودة الحركة (صوت) إلى السكون (لا صوت)، وتراكبت مع بحيرة عتيقة وضفدع، جواً لانهائياً ومتوازناً يتسق تماماً مع العاطفة التي ترددت داخل باشو آنذاك. إنها ترمز إلى أعمق مشاعره. لقد أنتج باشو تحت وطأة التأثير العميق هذه القصيدة بالتأمل إلى حد كبير".

 

تنوير:

 يقدم الناقد "ياماموتو" تنويراً يجعلنا نستغني عن كل تعليق أو تنوير نقدمه من جانبنا:

"رغم أن ما استهدفه معاصرو باشو لم يكن بعيداً عن نمط الدعابات التي جرت عليه مدرسة دارين الشعرية، فمما لا شك فيه أن دعابات هؤلاء كان يتبعها إحساس بكآبة وجودية. ومع ذلك لم يعرفوا كيف يحولون هذا الإحساس إلى ألفاظ. هذه الهوكو موجهة تحديدا إلى تلك النقطة العمياء في فكر أصحاب هذه المدرسة، أصحاب الدعابات الشعرية. ولأن القصيدة تقدم صورة واضحة للكآبة الوجودية، ولأن كثيرين كانوا ينتظرون هذا التقديم؛ فإن معناها تم توصيله إلى القارئ بسرعة مدهشة، بوساطة أداة تتجاوز الكلمات، تجتذب قلوب الناس وتأسر أرواحهم.

القصيدة تقدم شيئاً كونياً يفتن القارئ مثل ابتسامة. إنها تمتلك شيئاً تشترك فيه مع الحدث البوذي الشهير الذي يبتسم فيه بوذا صامتا وهو يقلّب زهرة بين أصابعه. في هذه القصيدة تمثل الابتسامة أعلى إنجازات الفكر، مكملة ما بدأ به الضاحك. ويكمن سرها ربما في الدقة البالغة التي يقبض بها الشاعر على الموضوع ويحكمه. ويُدخل تمكنة القراء إلى دائرته الخاصة ويقودهم إلى الابتسام مثل من تهيأ لهذا الأمر. وتبني القصيدة، بلغة غير لفظية، مجالا شعرياً أليفاً تتبادل فيه قلوب الناس التواصل".