العدد  الثامن - صيف 2009م

   
 

  متابعات
 

"سوناتا لتشرين"
رواية أسامة أنور عكاشة(
لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                       شوقي بدر يوسف
 

"سوناتا لتشرين" هي أحد النصوص السردية الجديدة التي تمثل عودة أسامة أنور عكاشة إلى إرهاصاته القصصية الأولى التي بدأها في أوائل الستينيات، حين كان شاباً صغيراً يشارك في ندوات ولقاءات ومسابقات نادي القصة بالقاهرة. تمثل هذه الرواية، إضافة إلى روايته التي صدرت العام الماضي عن سلسلة "روايات الهلال"، وهي رواية "جنة مجنون"، عوداً محموداً للكاتب إلى مجال السرد القصصي والروائي مرة أخرى. وتعيد لنا هذه التجربة السردية الجديدة التجربة الثرية نفسها التي سبق أن بدأها أسامة أنور عكاشة في بواكيره الأولى بمجموعته القصصية التي حملت عنوان "خارج البيت"، والتي ما زالت تحتل من المكتبة القصصية مكاناً يذكِّرُنا دائماً بأسامة أنور عكاشة القاص المتمرس في هذا المجال الحكائي الماكر المراوغ والذي انتقل منه فجأة إلى منطقة سردية أخرى واسعة الانتشار، وهي منطقة الدراما التليفزيونية، بمناخها وطبيعتها وأدواتها الفنية الخاصة، ومكث فيها أكثر من ثلاثين عاماً أو تزيد، وأصبح هو فعلاً -كما أطلق على مجموعته القصصية الأولى- "خارج البيت"، ونقصد هنا البيت القصصي، ولكنه ليس خارج البيت الإبداعي على إطلاقه.

 ويعود القاص والروائي -على استحياء- إلى بيته الأول مرة أخرى، حتى إنه يقول، في هذا، في التذييل الذي جاء في الغلاف الأخير من الكتاب: "لم أستطع أبداً نسيان الحب الأول، وظللت متشبثاً بالأرض التي شهدت فجر موهبتي... وحرصت على بقاء انتمائي الأول لأصولي الروائية والقصصية... حيث يمارس الكاتب فيها حريته الكاملة ويتسع أمامه فضاؤها غير المحدود... وآليت على نفسي أن أكتب رواية أو مجموعة قصصية وأقدمها للناس كل عام... وجاءت سوناتا لتشرين لتكون رواية هذا العام".

 ولعل هذه البداية الروائية، والتي جاءت على وعد بتكرارها كل عام، إنما تمثل إضافة خاصة للكاتب في عالمه الإبداعي، وإضافة أخرى للرواية المصرية الجديدة، من أحد أبنائها العائدين إليها بحب وشغف وشوق.

 ولعل هذه القراءة لهذا النص الروائي الذي يحمل في طياته ملامح العودة المحمودة للكاتب في مجال السرد الروائي والقصصي الحديث، تشير إلى التذكير بالتجربة السردية المتأصلة لدى الكاتب، والتي ترجمت بعد ذلك إلى تجربة سردية في مجال الدراما. ولعل العلامة الفارقة بينهما هي الرؤية بين لغتين متضادتين: لغة مكتوبة، ولغة منظورة. وكلتا اللغتين تدخل لهما أبعاد التلقي المتخيّل.

 بدأ الكاتب النص بهذه العبارة التي تحمل دلالات خاصة لدى الشخصية، من واقع ما طال حياتها الخاصة، وقد وضع فيها الكاتب وربما اختزل فيها أيضا جانبا كبيرا مما حمله مضمون الرواية العام:"لماذا تأتي الأشياء الصحيحة في التوقيت الخطأ؟ ولماذا تتحقق الأمنيات بعد فوات الأوان؟". بهذا الاستهلال بدأ الكاتب روايته.

 كما أعطى الكاتب أيضا نصه الروائي عنوانا له دلالته الخاصة، سواء على مستوى ما جاء في النص من وقائع، أم على مستوى مؤثرات الأحداث تجاه الشخصية المحورية للنص. حيث حملت الرواية عنوان"سوناتا لتشرين"، وتشرين هو بداية الخريف. ولعل إطلاق تسمية قالب موسيقي معروف، وهو السوناتا، مع اقترانه بشهر الخريف، يعطينا إيحاء بفعل العزف على وتر بداية النهاية، وهو ما تجسده لنا الرواية فعلا على مستوى الأحداث.

 تعتمد الرواية على ثيمة فنية أساسية، هي ثيمة الفعل ورد الفعل، سواء على مستوى الحدث الرئيسي، أم على مستوى ممارسات الشخصيات الفاعلة داخل النص.

 والرواية من ناحية بنائها الفني تبدأ من حيث انتهت، لذا فهي تبدو وكأنها دائرية الصياغة والنسق. فالأحداث، التي نجدها تتابع منذ أن بدأ الفعل الرئيسي للنص يظهر لنا، تبدأ من هذه المقابلة التي تمت في حديقة أحد الفنادق الكبرى بين "أشرف عفيفي" الصحفي صاحب التاريخ الكبير والمكلف من المجلة التي يعمل رئيساً لمكتبها بالإسكندرية، وبين صحفية شابة هي "ميريت" إحدى قدامى تلميذاته أثناء انعقاد مؤتمر في هذا الفندق في يوم من أيام تشرين.

 لقد تعرض هذا الصحفي لمكيدة محكمة أقصته عن كرسيه في رئاسة تحرير إحدى المجلات الكبرى وهو لم يكد يجلس عليه. وبسبب هذه المكيدة انزوى إلى الظل وترك أضواء القاهرة، ورحل إلى الإسكندرية ليبدأ مرحلة جديدة من حياته بعيداً عمّا يذّكره بهذه الأيام، التي عاني منها الكثير في عمله وفي ذاته وفي حياته كلها، حتى قيض له الله أحد زملائه القدامى وكان رئيساً لتحرير إحدى المجلات المعروفة، فأوكل إليه الإشراف على باب الثقافة والفن والأدب، على أن يراسل المجلة من الإسكندرية لو أراد.

 كانت هذه المقابلة الفجائية مع الصحفية الشابة "ميريت" في حديقة الفندق أثناء انعقاد المؤتمر، قد فتحت لأشرف عفيفي آفاقاً إنسانية جديدة، بعد أن كادت حياته تتبلد وتغلق أبوابها تماما، طوال هذه السنين التي قضاها في الإسكندرية بعد أن ترك القاهرة لأصحابها. وربما هو هنا يذكرنا بشخصية "عيسي الدباغ" في رائعة نجيب محفوظ "السمان والخريف"، الذي ترك القاهرة بعد أن ضاقت به سبل الحياة بعد إقصائه عن مهنة الصحافة، فرحل إلى الإسكندرية ليستمد منها طاقة جديدة يحاول بها أن يبدأ حياة جديدة بعيدا عن صخب العاصمة وسطوة أصحاب السلطة فيها.

 وبدأت مرحلة جديدة من الحياة عند أشرف عفيفي، وربما بدأت أيضا مرحلة حادة من المراهقة المتقدمة لديه، فرضتها عليه طبيعة المواقف والأزمات التي مرت به، فما حمله على كاهله خلال الفترة الماضية من حياته المهنية في مجال الصحافة، وما كان يدور في دهاليزها وكواليسها من أحداث وأزمات، ينوء بحمله الكثيرون. ولقد لمست الصحفية الشابة هذا الجانب وبدأت تلمس الوتر الحساس لدى هذا الرجل، حين أخبرته أنها ترغب في عمل حوار معه يتحدث فيه عن أزمته الكبرى التي أبعدته عن أضواء الصحافة وقذفت به إلى زوايا النسيان الذي يعيشه الآن، والذي لا يذكره فيه سوى تلاميذه في مهنة الصحافة الذين يعرفون مكانته الكبيرة وقدره. ويبدو أن السجن الداخلي الذي وضع أشرف عفيفي نفسه فيه، وهذا المنفى الاختياري قد بدأ في التهاوي بعد هذه الطرقات الملحة من الصحفية الشابة، حتى يوافق الرجل أخيرا وعن طيب خاطر أن يعطيها الأشرطة الخاصة التي سجل عليها سيرته الذاتية، بكل ما حدث فيها من أحداث، بما ذلك الوقائع الخاصة بالمكيدة التي أقصته عن مهنة الصحافة التي أحبها وعشقها وكانت تمثل له الأمل والطموح بالشهرة والثروة والجاه؛ شريطة أنها بعد أن تقوم بتفريغ هذه الأشرطة ونشرها، لا تحاول الاتصال به ولا مقابلته.

 وبدأ شريط الاعترافات يتتابع على مسامع الصحفية الشابة"ميريت" التي وضعت سماعة خاصة على أذنيها حتى لا يسمع أحد غيرها هذه الأحداث التي يسردها صاحبها:

"حكى ما حدث صبيحة ذلك اليوم من صيف عام سبق منذ عشر سنوات! كان في أوج عنفوانه... يشق بقلمه الطريق نحو القمة مندفعا واثقا ثابت الخطى حتى سماه الآخرون "البلدوزر". وكانت تحقيقاته الصحفية المتوالية تشعل انتباه الآلاف الذين رفعوا توزيع الصحيفة إلى أرقام قياسية وتثير المعارك الصحفية والسياسية المستمرة التي تشبه الهزات التابعة بعد الزلزال الكبير.

 نصحوه أن يتمهل وأن ينتبه لنفسه حتى لا يكون شهابا يمرق ثم يحترق، وحذّروه من المبالغة في تحدي الأقوياء، لأن قوتهم لا سقف لها وهي تمتد أفقيا إلى كل أرجاء الساحة... ولا يوجد مكان.. أو إنسان بمنأى عن بطشها! سمع الكثير، وأضيئت أمام عينيه كل الأنوار الحمراء، وصكت أذنيه أجراس إنذار لم تتوقف... ولكنه ارتدى مسوح المناضلين ورهبان الحقيقة والمبدأ، واستمتع بممارسة مشاعر "الفارس" الذي يمتطي فرسه ويمتشق حسامه ويندفع إلى ساحة النزال مستعداً للاستشهاد!" (ص44).

 من هذا المنطلق بدأت رحلة المعاناة مع مهنة المتاعب. وحوى الشريط وقائع إنسانية في حياة أشرف عفيفي، خاصة علاقته بأسرته، ونشأته، وأصدقائه، وملامح من حياته العاطفية والزوجية... إلا أن الصدام الكبير الذي بدأ بينه وبين أحد رجال الأعمال كان هو المحور الرئيسي في هذه السيرة، وهو حجر الزاوية الذي بدأ عنده الفعل من جانب أشرف عفيفي بأن بدأ حملة صحفية كبيرة ضد مظاهر الفساد الذي تمارسه مجموعة "الجرواني" الاقتصادية في البلد. وكان رد الفعل قويا وحاسما، بدأته المجموعة بأن أطلقت سلاح المرأة وحاكت مؤامرة شيطانية بمهارة شديدة، حتى تمكَّنت من القضاء على مستقبل "أشرف" وهو ما كاد أن يجلس على كرسي رئاسة تحرير المجلة التي يعمل بها. لقد كان رد الفعل محبوكا بمهارة فائقة لعبت فيه المرأة دوراً رئيسياً. ولم تنفع صداقات "أشرف" ولا معارفه في تجنب هذا الانهيار الذي جاءه على غير موعد. بل كان أعوان "الجرواني" يتمتعون بفراسة نادرة في اللعب والضرب تحت الحزام، فجاءت ضرباتهم قاصمة لظهر أشرف عفيفي. وأقصي "أشرف" من منصبه، وضاقت الدنيا أمام عينيه، حتى ترك القاهرة إلى الإسكندرية.

 الرواية تعتمد أيضا على الحالة النفسية التي صاغها الكاتب جراء الأفعال وردودها التي تتعرض لها الشخصية. فقد كان الفعل الأساسي عند الشخصية هو محاربة الفساد وفضح أساليبه وممارساته. وكان رد الفعل الذي حيك له من القوة بحيث زلزل مكانته في مهنته بل وفي مدينته كلها. كان ذلك كله كفيلا بأن يدفعه إلى حافة الجنون، حتى أنه خيل له أنه التقى المرأة، التي شاركت في المؤامرة التي أطاحت به، وقتلها، بل واعترف على نفسه بذلك؛ لكن اعترافه هذا كان من صنع خياله المريض. وكانت تنتابه بين الحين والحين الكوابيس والأحلام المزعجة والمؤرّقة. كان كل هذا يمثل رد الفعل الذي جسده الكاتب تجاه الفعل الرئيسي لهذا الصدام بين الخير والشر.

 كذلك كان الفعل العاطفي المتواري وراء قناع الذات عند أشرف عفيفي تجاه تلميذته يظهر في نسيج الاعترافات، من خلال بعض اللافتات الخاصة أو لحظات الصمت، حين تجيء سيرتها. وكان رد فعلها الناتج عن بعض نبرات الصوت الدالة تفضح مشاعره الداخلية، مما أدى عندها وهي تسمع هذه الاعترافات الصامتة إلى حالة من رد الفعل والدهشة المتباينة: "وسكت لحظة رمقها بعدها وكأنه فصلها عن الجميع وخصها برسالة غير منطوقة.. ترى.. هل يتذكر؟ وإذا كان يذكر فلماذا لا يقر ويعترف؟"(ص131)

لقد كان عزف هذه السوناتا الخريفية من جانب الكاتب وتجسيد تجربة الصراع الضاري بين الخير والشر، من خلال لغة سردية حاول الكاتب في بعض مناطق منها أن يضع فيها بعض البصمات الشاعرية، من خلال الاسترشاد بقصيدة لنزار قباني والاحتفاء باللغة المنحوتة من البوح والهواجس، خاصة وأن الحدث مبني على شريط اعترافات وضع فيه الكاتب خلاصة حياته كلها بحلوها ومرها، وحدد فيها هويته وانتماءاته، كما حدد فيها صراحة مرحلة صعوده وسقوطه. إلا أن مرحلة الأسى التي جسدها الكاتب في اعترافاته، والتي كان رد فعلها لدى تلميذته، هي التي تشابكت فيها الخطوط وتقاطعت فيها الرؤى، حتى إنه خاطبها بهذا المقطع الجميل المعبر عن طبيعة العلاقة التي ربطت بينهما في هذه الآونة، والتي كان ينشد منها الخلاص بكل ما يحمل من معانٍ، وهو ما أنهى به اعترافاته: "هذا ما حدث يا صغيرتي... وأنت تعرفين ما بعده... ومازلت لا أعلم سر إحجامي عن كتابة ما رويته لك على أشرطة المسجل! هل يمكن أن تشكّل الكتابة عبئاً أبهظ على كاهل المذنب؟ وهل يعتبرها مرونة باقية تطارد سيرته؟ ربما! وربما خجلت مما يبدو في الاعتراف المكتوب من عمدية وقحة! ولم أعرف لم أنت بالذات! فواقعة التعارف القديم شاحبة في ذاكرتي، لكن شيئاً قد توهج في الرماد الكثيف، وفوجئت بك تشعلين الجمرات بأنفاس لاهثة ملحة! وكانت التماعات الوهج أشبه بإنذارات الخطر تومض في عيني! هل تعجبين إذا قلت لك إنني أحسست بالخوف منك؟ تلك حقيقة أقترب بها من نهايات ملكك، واعتبري صوتي الذي تسمعينه الآن توقيعا قانونيا يأذن لك أن تفعلي ما ترينه حيال المادة المسجلة! كوني بخير... ولا تحاولي أن تلتقيني... هذا شرطي الذي وافقت عليه.. وأطالبك باحترامه"(ص 153-154.)

 لقد نجح الكاتب في هذه العودة المحمودة لمنطقة السرد بهذا النص الروائي في أن ينتسب إلى جنس الرواية، كما سبق وانتسب إلى جنس الدراما طوال هذه السنين الطويلة، وكان هذا النص الذي التزم فيه بمنهج ونسق التوازن بين الشكل والمضمون، ومراعاة التكثيف اللغوي والتوتر والانفعال واللغة الحارة الموحية وخضوع الإيقاع الداخلي للنص لشيءٍ من التنظيم وتقطيع النص إلى سوناتات عازفة للخريف ودالة على عمق التجربة التي جسدها الكاتب في روايته فجاءت بهذا النسق الذي عودنا عليه دائما في أعماله التليفزيونية، رواية درامية تحمل في طياتها الصراع الدائم بين الخير والشر، بين الربيع والخريف.