العدد  التاسع - شتاء 2009م

   
 

إصدارات  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

 قام بقراءتها: حاتم الصكر

انشغالات الفائض الشعري

 عام 1997 وهي تختم شهادتها على وعيها وتجربتها الشعرية، تقول الشاعرة هدى أبلان، بعد أن تشخص التحديات التي تواجهها الأديبة في التعبير عن ذاتها: "لذلك يصعب تفجير قصيدة الأنثى الحية والحميمية في مثل هذا المناخ الاجتماعي الصعب والمغلق...".

ولكن دواوين هدى اللاحقة خذلت توقعها المصرح به في الشهادة، فكانت تسهم بقصائدها التي جسدت تمردها ورفضها، شكلية أو أسلوبية تمثلها اختيارها لقصيدة النثر كمقترح مشاكس وتحول حاسم في الكتابة الشعرية، وفي تعبيرها عن اهتمامات النوع النسوي وهمومه، عبر التمثيل الفني للوعي بالدور النوعي للمرأة، لا ما تفرضه أعراف جنسها وطبيعتها التي خلقت بها.

وفي ديوانها "اشتغالات الفائض" الصادر مؤخراً (عمان 2009) تواصل تعميق خط تلك الحداثتين، وما يرافقهما من انعكاسات اللغة والصورة، وقبل ذلك اختيار نقطة الالتقاء بالنص -كي لا نقول الموضوع، لأنه منصهر ومتنوع ومتشابك في قصيدة الحداثة.

ولكن ما الفائض الذي (اشتغلت) عليه التجربة الأخيرة للشاعرة قبل أن نتعرف على (انشغالاته)؟

في الإهداء الذي يتصدر الديوان، يبدو الموتى ممن تحب الشاعرة وتهدي لهم عملها "لم يكونوا يوما فائضين عن الحاجة، لكنهم رحلوا خجلاً من فائض آلامهم اليومية.. واستباقا للازدحام في طريق الرحمة...".

لكن مدخل القصيدة الأولى، التي حمل الديوان عنوانها، يمجد اللوحة الفائضة عن الحاجة التي تصنعها الخيبات بعد أن تطير الأشياء عن إطارها.

والفائض عن الحاجة ذو بصيرة كالرؤية الفائضة عن الحاجة التي تجعلنا نرى الضوء في الطعنة. لكن مفهوم "الفائض" ودلالته النصية يتمددان من النص الأول الذي يحمل اسمه إلى نصوص أخرى، ما يؤكد دخوله في رؤية الشاعرة، واستخدامه قياسا تحتكم إليه في وزن الأشياء والحكم عليها، ليصبح ثمة نظام فائض في مدينة مهجوة لأنها لا تصنع شعراء (قصيدة: "اللعب في مدن كثيرة")، والأمهات اللواتي لم يجدن لليل فائضا عن قدرة القص في قصيدة "الرؤية تستيقظ بأظافر طويلة". وليست الرؤية في تأويلي إلا المرأة وقد بدأت تسترد حقوقها بنفسها وبكفاحها.

كما يتمدد الفائض، لغوياً، ليصبح باستخدام المرادف زائداً: "حين يندلق من جسدك إحساس زائد بالأشياء، أو يغدو فضفاضا: "ستحيا فضفاضاً في جلباب الوقت/ تحلم عوضا عن شعراء كثيرين"، أو يصبح ثرثرة: "ثرثرة الشعراء الفائضة عن أثقال الوزن، أو واسع الاتجاه"، يتناسل متدرجاً:

لك...

استدارة خاطفة في رقصة الحياة

التقطتها عدسة فائضة عن الوجه

لتعلق في جدار فائض عن البيت

في شارع فائض عن الوطن

سيراها أبناء فائضون عن قدرتك على الأبوة..

الفائض -إذاً- متعدد الوجوه والدلالات، لكنه مساوٍ للخارج والجانح والمتمرد، وهو متولد عن الخروج والفيض من حدوده.

وتتجسد حداثة النصوص في تقنيات عُرفت بها الشاعرة في دواوين سابقة، حيث تنمو متدرجة في توزيع خطي لا يخلو من هندسة وتصميم يلائم من جهة ميل الشاعرة للقصائد القصيرة أو قصائد الومضة، ويحفظ للنص ملموسية وتجسيدا يسهلان تعرف القارئ على دلالته بمراقبة التحولات عبر المقاطع، وذلك ما تعكسه نصوص مثل: "هذا العالم ليس لنا" في ديوانها "نصف انحناءة"، حيث تتكرر جملة العنوان مع تغير المنفي: "هذا العالم ليس لنا/ ليس لامرأة/ ليس لسنبلة/ ليس لبحر/ ليس لعصفور/".

وكذلك في "غرباء" من ديوانها "اشتماسات"، حيث تتكرر لازمة المقدمة: "ليس له أحد"، في كل مقطع، مع تغيير المنفي: "الدرب ليس له أحد/ القلب.../ البيت...". وفي قصيدة "تحولات امرأة" في الديوان نفسه التي تتدرج اللازمة بشكل يوحي بالنمو في كل مقطع، فالأول يبدأ بـ"حين لم تكن"، والثاني "حين صارت"، ثم "حين حلمت"، وتنتهي بـ"حين بكت".

هذا التصميم الخطي يخالف القول بأن قصيدة النثر لا تقوم على تخطيط أو تصميم منطقي أو إيقاع خاص، وقد تأكد في "اشتغالات الفائض" بشكل أكثر نضجا ووضوحاً، وتلازما بنائيا.

تبدأ جملة الاستهلال في قصيدة "محفوفة بغيمتين" حين تضيق الروح من قميص موتها، لتختم بخبر في المقطع التالي: سأعلن أني أهلكت"، وفي المقطع الذي يليه: "سأعلن أني آه!... والذي يليه: "سأعلن أني آ... وهكذا يجسد تتابع الفعل محذوف الأحرف بالتدريج ما تريد الشاعرة أن تصيره كعناء ومكابدة وتآكل.

وفي قصيدة "ما بعد العمران" تبدأ جملة الاستهلال بالاستفهام: "ماذا سيحدث لو غابت البيوت؟"، لتجيب بالخبر في صدر كل مقطع من المقاطع التالية: "ستدخلنا الريح من كل اتجاه... سيدخلنا الفقراء من كل اتجاه... سيدخلنا البرد... سيدخلنا الحنين... لتختم في المقطع الأخير بجملة افتتاحية: "سيدخلنا الموت من كل اتجاه".

وتتكرر لازمة أخرى في قصيدة "ضلال المعنى"، هي: "أريد منك تعريفا"، مع تغير المراد، فهو تعريف للأرض في المقطع الأول من المقاطع القصيرة في القصيدة، وللسماء في الثاني، وللبحر، وللنجمة، وللشجرة، وللنار، في المقاطع التالية. وفي النص نسق تكراري آخر يتصل بالحواس وأعضاء الجسد، فاللغوي في المقطع الأول: "بلا قدمين يغرسهما في المحبرة"، و"بلا يدين يتحسس بهما سقف العالم" في المقطع الثاني، و"بلا عينين مفتوحتين" في المقطع الثالث، و"بلا فم قاضم لفاكهة الخروج" في المقطع الخامس... وهكذا.

وإذا كانت تلك حداثة تقنية وتعبيرية، فإن الحداثة في الرؤية التي تحركها تكمن في الضيق باللغة القديمة، وما تحمل من خطاب تعترض عليه الشاعرة، وتمثله رؤيتها لوظيفة اللغوي الذي تقول إنه واللغويين بقاموسهم "يتربصون بأخطاء الروح". كما تفرد قصيدة "ضلال المعنى" لتحميله وزر الإجابة على أسئلة الوجود: "أريد منك تعريفا للأرض/ أيها اللغوي بلا قدمين..." ويبين لنا تجريد اللغوي من أعضائه -كما مر في الفقرة السابقة-رفض الشاعرة لوصاية التقاليد الشعرية القديمة، والتي هي جزء من منظومة مرفوضة مستبدلة بالذات وحداثة الرؤية، فهي تنحاز أخيراً للنار، رمز التجدد والتحول، والتي لا ينجو منها -بحسب النص- إلا الأنبياء والأطفال والشعراء: الأنبياء "لأنها تكون برداً عليهم"، والأطفال "لأن جلودهم أوهى من التقشر مرتين"، والشعراء "لأنهم كانوها وأنضجوا عليها الكلمات".

 وتتجلى حداثة الرؤية في الديوان من خلال المنظور النسوي المتعدد الصيغ، فهي تستخدم رموزاً نسوية ودلالات أنثوية من جهة كتكرار مفردة الحليب ودلالتها التي لا تستقيم إلا في وعي نسوي نوعي، وتثير مواجع المرأة التي يقع عليها الحيف والتمييز كنوع له دور تحدده خطابات الرجل ولغته عبر التاريخ:

المرأة/ العملة المتداولة في الحقب المختلفة

ما قبل الكهف تجريب النبوءة

خارجه جلد العمر الذي يمضي بواقعية.

والكهف هو البدء أو التاريخ قبل لقاء جسدين تقول عنهما الشاعرة إن الطفل كان مشروع حرارتهما، فخرج من ظلمة باذخة. لكن المرأة هي الخصب الذي سيدلق الحبر والأيدي والدماء. وتختصر الشاعرة صرخة الحرية كلها ببيت افتتاحي للمقطع الثالث من القصيدة ذاتها:

ستخرج امرأة من شرشفها الكاتم للسر

ثمة لعبة لم تكتمل.

وبهذا الانزياح من الكاتم للصوت إلى الكاتم للسر تكون للمرأة كينونتها ووجودها وتمكينها الذي طال انتظاره، فصار جزءاً مما تسميه الشاعرة "منظومة الأحلام".

في الديوان اصطدام بالمدن تعبيراً عن الرفض، لأنها تشعر بها فائقة التحضر؛ كتذكراتها عن باريس:

أنا جنين في أحشاء الحضارة

الحضارة التي لن تلدني

لأني من أب ميت

ذهب في لعبة التاريخ ولم يعد.

فهنا اصطدام بين الحضارة التي تمثلها باريس، والتاريخ الذي تمثله مدننا بعد أن غاص الآباء في طياته ولم يعودوا إلى الحاضر.

وثمة مدن مرفوضة لا تسمي إحداها، وتضع للمقطع عنوان نقاط بين قوسين (...)، لأنها مبهرجة كذبا دون محتوى، تجول فيها الشاعرة بحثا عن نثر يشبهها فلا تجد شيئا.

وهذا الصدام بالمدينة جزء من ثيمة الرفض الواضحة في رؤية الشاعرة، كما جسدتها النصوص المشبعة فنيا بتناص بليغ يعبر عن ثقافة الشاعرة واطلاعها النصي، بحيث تستحضر نصوصا لها وقائع مختصرة في إشارات ذكية، كالعصا التي تشتعل نارا يهش بها أسئلة...

وكما صرحت الشاعرة مرة خارج القصائد، فإن الذات كامنة في قصائدها، لكنها تخص الذات الأنثى، وأضيف: برؤية حداثية تحدد موقفها من العالم وأشيائه ومخلوقاته، لاسيما الفائض منها واشتغالاته.

  • هدى أبلان: اشتغالات الفائض، دار أزمنة، عمان، (2009).


تحولات الريح

في ختام ديوانه "تحولات الريح" يثبت الشاعر والأكاديمي العراقي رعد رحمة السيفي دراسة نقدية مطولة كتبها الشاعر خالد علي مصطفى عن الديوان، وصف فيها عمل الشاعر بأنه "عزف منفرد خارج الجوقة"، مرمزاً بذلك ومشيرا بإيجاز إلى عدم إمكان فهرسة شعر السيفي ضمن مناخ محدد في الشعرية العراقية والنتاج الحداثي العربي، فخالد يصنف تيارات الشعر العراقي في ثلاثة: المتن التقليدي الذي يمثله الجواهري، ومتن الشعر الحر السيابي، والمتن الذي تمثله قصيدة النثر. وإذا كان شعر السيفي يقع من الناحية الإيقاعية في المتن الحر- السيابي، كما يقرر خالد، فإن الفحص من الناحية التصورية (التخييلية) يموضع شعر السيفي خارج المتون الثلاثة، معززا بذلك ما كان بدأه من ملاحظات سياقية على شعر السيفي. حيث يلاحظ خالد، السيفي نائياً بنفسه عن التجمعات الأدبية والمقاهي والنوادي والشوارع، وحتى النشر الذي تأخر عنه السيفي زمنا حتى أصدر ديوانه الأول هذا (السيفي مولود في البصرة عام 1963). ثم يطرح خالد فرضيات قراءة تناصية ترشحها الذاكرة، كالنسب الممكن بين شعر السيفي ومحمود البريكان: ابن مدينته وأحد رواد القصيدة التفعيلية المطوّرة؛ أو الصلة (الواهية) بينه والمتن الأدونيسي. فالسيفي -يقول خالد- يحاول في شعره "أن يكون نفسه، بعيداً عن غيره بقدر ما يستطيع طموحه وقدرته أن يبتعدا".

ولكن ذلك طموح أي شاعر ومشروع يسخر له قدرته الفنية وخياله وذاكرته وشاعريته كلها. وهذا ما تحاول القراءة أن تتلمسه في شعر السيفي، الذي تتوافق إيقاعيته الوزنية الحرة مع خطابه الشعري المعتمد أساسا على الوزن ورسم مشاهد تمثيلية للانفعال والشعور والإحساس، وهكذا تبدأ استهلالات قصائده التي لا تقدم تعينات ملموسة بل حالات شعورية مرمزة:

الشوارع في قامة الليل

تسجد..

والقُبَّرات.. لدمع الرياح

الرياح.. تفتش عن كوة

تحت هذا المدار!

من على شرفة الليل..

يسَّاقط الفجر مكتئبا.

الشفاه..

تتناثر كالثلج في

غرفٍ مظلمة!

إذا ابتعدنا عن المؤثرات المولدة لهذا الاستهلال، وهو تقنية شعرية شائعة ترتب الالتقاطات اليومية والمكانية لتدمجها في مشهد بصري أشبه بالسيناريو الفلمي، فسنجد الرمزية واضحة في هذا الاستهلال والتعبير عن الإحساس بهذه الموتيفات (شوارع، قامة الليل، القُبّرات، الرياح، الفجر، الشفاه...)، وهي منصهرة في عملية تجميع صوري حر يقترب من التداعي الحر.

وثمة في شعر السيفي تعينات بديلة لهذا التهويم تسببها عائديتها إلى مدن وذكريات: البصرة، وحيفا؛ وإلى أصدقاء: محسن اطيمش، فيصل جاسم/ كـأمثلة؛ ولكن الحنين من أكثر المشغّلات الشعرية؛ فالسيفي، البعيد عن العراق، لا يفتأ يستعيد رؤاه ومشاهده، صريحة مرة أو مرمزة مرات، حتى لو كانت مغلفة بذكريات الموت.

الليلة تكتظ برائحة الموت

خالية من ظل الفتنة

في الأصداء..

الريح..

تؤجج في الروح مكامن رغبتها

وأنا..

لصق هواء الشارع

أفتح للآتين نوافذ روحي!

لعل هذا التعيين النسبي في المشهد الشعري المصور يعود إلى نفور السيفي من المباشرة التي يعاني منها الخطاب الشعري التقليدي؛ ولكن ذلك يضع قصائد السيفي ضمن الرمزية العالية التي تزدحم أحياناً في حمى التداعيات التي يأخذ بعضها برقاب بعض لغوياً وصورياً، ما يجعل القراءة لاهثة خلف تلك التداعيات التي يصنعها الترميز وتعززها الموسيقى الوزنية. ونمثل لذلك بقول الشاعر:

أراني..

على تلة الدمع

كنت أسفّ الضياء!

وأشرب لون الغبار

بعزلة غيمي

أصدق وهم الورود التي

تجيء إلى السور مربكة..

كي تلامس معراج عزلتنا.

وهذا النص يرينا خطة القصيدة وبرنامجها الرمزي لدى الشاعر؛ فهو يعيد الضمير النحوي إليه في الأفعال: أراني، أسف، أشرب، أصدق؛ ثم يختمها بتوسيع الضمير إلى الجماعة (عزلتنا)، وهذا يشوش المتابعة الدلالية وعمل القراءة لاستخلاص المستوى الدلالي للنصوص، فضلا عن فقدان الاستعارات الملموسة: تلة الدمع، لون الغبار، عزلة الغيم، وهم الورود...

وأحسب أن ذلك كله جزء من شعرية قصائد السيفي وأسلوبه الذي جعل خالد علي مصطفى يضعه ضمن نفسه، لا يشبه أحدا، ولا يمكن تنميط قصيدته ضمن تيار أو جيل أو مناخ.

  • رعد رحمة السيفي: تحولات الريح، مركز عبادي، صنعاء،( 2009).

 


ضلالات الشعراء

لم يعتد القراء أن يروا اسم المهدى إليه على غلاف المطبوع، لاسيما إذا كان ديواناً؛ لكن هذا ما فعله الشاعر حسين حبش حين اختار لديوانه عنوان "ضلالات إلى سليم بركات -نص طويل"، ووصف نصه بأنه "نص طويل" على الغلاف أيضا وكجزء من العنوان يزيد من حيرة القراءة الغلافية، أي: التي تدخل إلى النص من عتباته، والتي صار لها في القراءة النقدية الحديثة حساب واهتمام، لما تقدمه من مساعدة للتعرف على برنامج النص وهويته وجنسه أحياناً.

لكن قراءة عتبة أخرى في الديوان سترينا المقصود من ضلالات، فالشاعر يقدم باقتباس من طاغور هو: "أنّى تكن الدروب معبدة، أضل طريقي".

عائدية النص إلى الشاعر سليم بركات ليست في الإهداء فقط، بل تتضح في اللغة والتقطيع البيتي والخيال الشعري الذي يذكر كثيرا بعوالم سليم بركات وحداثة نصه؛ لا لمجرد كون نص حسين حبش قصيدة نثر، ككتابات سليم بركات الشعرية، فحسب، بل في هذه الحرية العارمة في الصياغة والتمثيل اللغوي والصوري للأشياء.

يقع النص في حيازة سليم بركات أيضاً عبر الضمير النحوي الذي يؤدى به السرد في النص منذ المقطع الأول ويحافظ عليه الشاعر في انضباط وإتقان مدهشين، مما يساعد على تخيل بورتريه شعري لسليم بركات، بما أنه يتصدر الضلالات ويرافقها حتى في الغلاف الخارجي وعنوان النص.

وليس الضمير المسند إلى غائب، هو سليم بركات، هو التصميم المنضبط في النص، بل هناك المقاطع ذاتها والمصدرة بالفعل المضارع، والمستقلة في صفحات خاصة، أي أن التوزيع الخطي للنص مدروس ومفكر به، بحيث توزعت المقاطع بنسبة: مقطع في كل صفحة، مهما كان طوله، رغم أن التفاوت ليس كبيراً بين عدد أبيات المقاطع. وهكذا نرى النص يبدأ بالقول:

يزم شفتيه الضالتين في جهالة الكلام

وينزل إلى الزوايا المختبئة للأودية المكتومة

محركاً غفوة الماء الصامت في القيعان العميقة.

ذلك هو سليم بركات؛ شاعراً تقوده جهالة الكلام بمعنى إدارة الظهر للشائع والمعروف ثم اختيار الهامش للتموضع في "الثنايا المختبئة للأودية المكتومة"؛ فكل الجغرافيا المشخصة هنا ذات وجود هامشي: زوايا/ الأودية، والزوايا مختبئة لا ظاهرة، كما أن الأودية، وهي أمكنة سفلى، موصوفة بأنها مكتومة.

هكذا تستمر خطة النص: مقطع في كل صفحة يبدأ بفعل مضارع فاعله غائب يستدعيه الإهداء حتماً:

يطفق الندى من يديه مبتهجاً

ومترنماً كثقوب ناي مرمي في رحابة الريح

وفكاهته الطائشة.

أحياناً تبدأ المقاطع بجملة اسمية لكنها تبين الحال، كالقول:

فاره القلب/ ظمآن يتأرجح...

ولا أجد في ذلك خروجاً على خطة النص، بل هو تأكيد لملامح سليم بركات كما يقدمها نص حسين حبش، أو كما تتراءى له. فالنص بعد كل شيء حدس بتلك الضلالات التي انبنت عليها شخصية بركات الشعرية، وقراءة حبش له شاعراً خارجا متمردا، ليس في اختيار الأسلوب الشعري المشاكس المتمثل في قصيدة النثر، ولكن في اللغة ذاتها والتراكيب الصورية خاصة.

يفك سيور الغيمة ويلاطف شكوك

المطر المنثورة في أطوار السماء

المتقلبة كأمزجة الطيور

يزيح المزاليج عن شآبيبه

ويصفق للانهمار الحرون

على عواطف الأدغال

والغابات.

المدهش في هذا النص هو قدرة الشاعر على استحضار الطبائع والمزايا النفسية والشعرية معا، وكشف علاقة الشاعر بالعالم والأشياء، وتعيين زاوية نظره في ما حوله، وإن كان المنظور مكرراً مؤكَّداً فذلك لما يحمله الشاعر من علامات وما يحتفظ به من إشارات عن ضلالات صديقه وما يريد إيصاله عنه في هذا النص المحتدم كسيرة غيرية لشاعر مسكون بالضلالات التي تسري منه إلى النص وإلى القارئ بالضرورة.

ينشد هبوب نِعم الخطايا

ويدحرج المغاليق عن ذهب الخيال

فتتضح الرهبة فائحة في مراميه وضجره

يصرف شؤون اللعثمات في غرة الترجمة

ترجمة أسى المعاني الهاربة من إهانة النظم

وصرير الثغرات الهشيمة والمشقوقة والمقصومة

ما الترجمة وما اللعثمات والثغرات والمعاني الهاربة من إهانة النظم؟

ذلك جزء من جذر الشاعر المحتفى به، وجزء من كيانه الشعري واللغوي وأس ضلالاته التي سرت عدواها إلينا عبر النص.

 

  • حسين حبش: ضلالات إلى سليم بركات -نص طويل، دار الزمان، دمشق، (2009)


أغنية نفسي

كثيرة هي القصائد التي تتعدى حدودها النصية لتعيش في الذاكرة الشعرية علامةً على التحول في الرؤية والذائقة، وفي تاريخ الفن وسيرورته، قصائد مثل: "الكوليرا" لنازك، و"أنشودة المطر" للسياب، و"خبز وحشيش وقمر" لنزار، و"الجسر" لحاوي، و"تنويمة الجياع" للجواهري، و"المواكب" لجبران، و"سجّل أنا عربي" لدرويش، و"الطلاسم" لأبي ماضي، و"إرادة الشعب" للشابي، و"أقول لكم" لعبد الصبور، و"هذا هو اسمي" لأدونيس، وغيرها.

عالمياً لا بد أن قصائد مثل: "المدينة" لكافافي، و"النمر" لوليم بليك، و"أربعاء الرماد والرجال الجوف" لإليوت، من الأمثلة الحاضرة على فعل النص وتأثيره. لكن "أغنية نفسي" لوولت ويتمان -بمناسبة ترجمة جديدة أنجزها الشاعر والأكاديمي عابد إسماعيل- تدعو للوقوف عند دلالاتها، ذاتياً بالنسبة لكتابتها، وموضوعيا باعتبار أثرها في الكتابة الشعرية. هذه القصيدة الطويلة ذات الاثنين والخمسين مقطعا هي نصف ديوان "أوراق العشب" الذي مثّل انتقالة في الشكل الشعري، حيث غامر ويتمان بكتابة شعر منثور خارج التفعيلات والموسيقى السائدة، والذي سيشع ويتسع تأثيره لينتقل إلى لغات وآداب أخرى، من بينها العربية، التي تطوّع أمين الريحاني وجبران لمحاكاته في شعرهما المنثور، حتى أطلق الصحفي والأديب العراقي روفائيل بطي، في عشرينيات القرن الماضي، على الريحاني لقب "وولت ويتمان العرب". وسنجد أثر "أوراق العشب" حتى في تجارب أقرب زمنيا يمثلها جبرا إبراهيم جبرا في "جماعة شعر".

عام 1855 صدرت النسخة الأولى من "أغنية نفسي" بلا عنوان، كنص ذاتي يحاول الإحاطة بما عرف بـ"الحلم الأمريكي"، عبر رؤية شخصية تتجلى فيها الذات عارضة صلتها بأشياء العالم كلها، وبروح ملحمية تتمدد على أجزاء النص المطول، وبأسلوب التداعي الحر الذي يستحضر من خلاله الشاعر مشاهداته ورؤاه وانعكاسات وعيه على حاضره وماضيه وعالمه الذي يعيش احتداما عقليا وكونيا. وفي الطبعات اللاحقة يتطور العنوان مؤكدا رؤية الشاعر، فيسمي قصيدته "قصيدة وولت ويتمان الأمريكي". ثم في طبعة لاحقة يكتفي بـ"وولت ويتمان" عنوانا، لكنه يستقر أخيراً على "أغنية نفسي".

الأمثولة التي تقدمها القصيدة تكمن في العمل المستمر للشاعر على نصها، فهو لا يكف عن تنقيحها وتعديلها في الطبعات المتتالية لها، مضيفاً وحاذفاً ومشذباً ومعدلاً ومنقحاً، وكأن القصيدة في مصهر أو مختبر تتعرض للخلق المستمر حتى تنتهي إلى ما انتهت إليه، وكما أرادها بوصفها في النص "كلمة الجموع - كلمة إيمان لا تهادن أبدا"؛ لذا يصف نفسه بأنه "شاعر الرجال والنساء، السادة والعبيد، الجنة والجحيم، الجسد والروح"، في الناس جميعا يرى نفسه حتى لتغدو "أغنية نفسه" نصا كونيا بجدارة، تحضر فيه ذرة الرمل والعشب والنملة والطائر والشجرة، كما يستحضر الكون الأبدي والأزلي بحركته وتحوله.

أغلالي وأثقالي تغادرني

وكوعاي يستقران في التجاويف البحرية

أقطع الجبال الشاهقة، راحتاي تغطيان القارات

عند البيوت المربعة للمدينة في الأكواخ الخشبية

أعسكر مع الحطابين بمحاذاة الطرق الوعرة

قرب المسيلات الجافة وأحواض السواقي

أقطع السهوب، أتوغل في الغابات.

ولعل هذه الاستشهادات تمثل سواها من مقاطع النص الطويل الذي يحتفي به ويتمان بالحياة ويستقصي بجدارة مظاهرها ويحتفي بها.

أرحل كالهواء أهز خصلاتي البيضاء

فوق الشمس الهاربة

أسكب جسدي في دوامة المد والجزر

أذروه على شكل موجات

أورث نفسي للتراب

لكي أنمو من العشب الذي أحب.

هكذا تنتهي القصيدة الطويلة بحلول صوفي يعانق فيه الشعر موجودات الحياة ويتغنى بلذائذها مسترسلا، موائما اللغة بالصورة، والخيال بالفكرة، والأشياء بدلالاتها الغنية.

وولت ويتمان: أغنية نفسي، ترجمة: د. عابد إسماعيل، دار التكوين، دمشق. (2006)


 

قراءة أبي تمام: العيش غض والزمان غلام

أحس دوماً أن بنا حاجة لإنصاف المستعربين والمستشرقين المعاصرين، وهم جيل جديد من دارسي ثقافتنا العربية وأدبنا. ولئن كانت جهود الأوائل من مستعربي الغرب ومستشرقيه قد انطوت على ما أشار إليه إدوارد سعيد من إنتاج صورة نمطية عن الشرق تبرر كراهيته ورفضه، فهذه الجهود التي نشهدها اليوم تكاد تكون في أغلبها خالصة للأدب والثقافة الإنسانية والفكر الحواري المطلوب.

ومناسبة هذه المقدمة قراءة أبي تمام كما قامت بها سوزان ستيتكيفيتش، التي يعرفها دارسو الأدب، وزوجها يورسلاف ستيتكيفيتش، وما قدماه من دراسات وأبحاث معمقة لأدبنا القديم، لاسيما الشعر العربي الموروث وظواهره الفنية واتجاهاته.

كتاب سوزان ستيتكيفتش المنقول إلى العربية بترجمة وتقديم حسن البنا عز الدين يحمل عنوان "الشعر والشعرية في العصر العباسي"؛ لكنه في حقيقته مكرس لدراسة أبي تمام في ثلاثة أجزاء تتناول التقليد النقدي العربي والخلاف حول البديع في الأول، وتحلل بصبر وعمق خمس قصائد في المديح لأبي تمام في الجزء الثاني، فيما تخصص الجزء الثالث لدراسة مختارات أبي تمام الشعرية في ديوان "الحماسة" ومنهجه في تلك المختارات، وأهميتها بين المختارات الشعرية العربية.

المدهش في الدراسة، التي كانت في الأصل أطروحة جامعية، هو ربطها بين الظاهرة الفنية المتمثلة في البديع وبين الظاهرة الثقافية المجسدة في الصلة بين الشاعر والممدوح؛ لذا لا غرابة أن يكون العنوان الجانبي أو الثانوي للكتاب هو: أبو تمام: البديع، قصيدة المدح، الحماسة.

ودراسة أبي تمام تفضي إلى إضاءة مناطق الحداثة المعتم عليها في دراساتنا التقليدية والمهمشة في الكتب النقدية القديمة التي ناوأت تجربة أبي تمام وأدارت الجدل حول أسلوبه بكونه أراد الاستعارة فخرج إلى الاستحالة، وبأنه يقول ما لا يفهم، وأنه نبطي يقول بكلامنا ما ليس منه.

يبلغ الإخلاص لتجربة أبي تمام الحداثية حد أن المؤلفة ترد تلك الآراء وتصحح منظورها لشعر أبي تمام، وهو متأتٍّ من سلطة التقليد ورفض الابتكار غالبا، وهاهي تناقش الآمدي، صاحب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، الذي يتهم أبا تمام بالجهل بالخيل حين جعلها تلوك الشكيم في مِكرّ الحرب، وهي عنده لا تفعل ذلك إلا واقفة وليس في حومة الحرب. فترى المؤلفة أن الآمدي لم يلتفت إلى المجاز الذي يناظر فيه أبو تمام بين الحرب التي تلوك الخيل في الشطر الأول وبين الشكيم الذي تلوكه الخيل، وهو ما أسقطه تفسير الآمدي المعتمد على الأبيات الحرفية لا المجازية.

كما ترد على اتهامات الآمدي لأبي تمام بالسرقة من سابقيه، وتمثل لذلك باتهام الآمدي لأبي تمام بسرقة استهلال قصيدته الشهيرة: "السيف أصدق أنباء من الكتب" من قول الكميت الأكبر: "فإنه محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا"، وتعلق على ذلك بالقول إن الأصل يبدو شاحبا إزاء توسيع أبي تمام للمعنى وتطويره خلال القصيدة كلها. وهكذا ترد على ما رآه الآمدي أخطاء لغوية أو تصويرية في شعر أبي تمام، مبرراً ذلك بأنه "يريد أن يبتدع فيقع في الخطأ". وبذا تقدم سوزان ستيتكيفيتش مثالاً لقراءة فنية ترصد التأويلات الممكنة التي لم يستطع الآمدي أن يراها، لأنه "عاجز عن تناول مفهوم القصيدة بما هي شكل أدبي متكامل... وغير قادر على التعامل مع أي تجديد في هذا الشكل". وتكون أكثر إخلاصاً للعبقرية الشعرية والمخيال المولد للصور والاستعارات في شعر أبي تمام من ناقديه التقليديين الذين تذكر منهم ابن المعتز والآمدي والجرجاني صاحب "الوساطة"، وتناقشهم باستفاضة وصبر ودقة علمية ولغوية، منتصرة عبر الانحياز لشاعرية أبي تمام إلى الحداثة التي دشنها شعراء البديع العباسيون وطورها المتنبي ومدرسته من بعد.

سنقف مع تحليلات المؤلفة لقصائد المديح على ما تسميه "تطوير الشعر السياسي"، وإعلاء هذا الفن بالبديع الذي عُرف به أبو تمام كما في قوله "والعيش غض والزمان غلام" فكرّس بذلك تخييلاته التي تقرن الحسي بالمعنوي والمادي بالروحي، وهو ما لم يألفه الشعر التقليدي، وما رفضه النقاد النسقيون، كما رفضوا تشبيهه للأخلاق بالخضرة، والكلام بنوار الشجر، والشتاء بالبعير.

أما في دراسة المختارات الشعرية التي وضعها أبو تمام فسنعثر على رؤية متقدمة تشخصها المؤلفة وهي تستقرئ الأبيات التي يقتطعها أبو تمام بحس فني راق تعكس ما تسميه المؤلفة "فهم الشعر لا من حيث هو صور ومعانٍ شعرية محدّدة، وإنما من حيث هو نظام مولّد للقيم والأفكار... على نحو مجازي وجدلي".

إن قراءة أبي تمام بهذه الطريقة الفنية والتاريخية والنقدية تؤكد إمكان موضعة شعرنا القديم في قلب الحداثة والمعاصرة، لا عبر التمجيد والتنفخ والعصبية، بل التحليل والتأويل والربط بين الظاهرة وسياقها الثقافي، وهو ما مكن المؤلفة من كتابة هذه النصوص التي تشير إلى قراءة معمقة تجمع بين المتعة والعلم معا، وتصحح النظر إلى جهود المستعربين الجدد ودوافعهم المبرأة من الأحكام المسبقة.

سوزان ستيتكيفيتش: الشعر والشعرية في العصر العباسي، ترجمة وتقديم: حسن البنا عز الدين، المركز القومي للترجمة، العدد 1215، القاهرة،. (2008).