العدد  االتاسع - شتاء 2009م

   
 

  متابعات
 

قبلة من هاشم علي (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

                       د. علي الصكر
أكاديمي من العراق - جامعة تعز

خريف 2006, كنت في قاعة الدرس في كلية الآداب في جامعة تعز أقترح على طلبة الصف الرابع في قسم اللغة الانكليزية مواضيع وشخصيات ليكتبوا عنها.

تنوعت المواضيع وتعددت الأسماء: حركات فنية وأدبية, أدباء وفنانون كبار انكليز وأمريكان وعرب... كان عدد الطلاب كثيراً، وبدأت أجد صعوبة في إيجاد موضوع لكل منهم. وفجأة قفز اسمه إلى ذهني، فقلت لأحد الطلبة: اكتب عن هاشم علي. حدق بي الشاب بذهول وحيرة: من؟ قلت مرة ثانية: هاشم علي، الفنان التشكيلي اليمني الكبير (أبو الفن التشكيلي في اليمن). التفت الطالب إلى زملائه كأنه يطلب النجدة. تبادلوا نظرات الحيرة ولم يسعفه أحد. كان من الواضح أن أحدا منهم لم يسمع بالاسم من قبل. عاد الطالب ليسألني: هل سأجد عنه شيئا في الإنترنت؟ قلت: لا أعتقد أنك ستجد عنه شيئا في الإنترنت، وليس لديه موقع الكتروني خاص حسب علمي، لكنك ستجده هو شخصيا. أين يا دكتور؟ قلت: هنا في تعز, في «المركزي». سمعت هذه المرة  بوضوح ضحكات الطلبة كأنهم يستمعون إلى مزحة عنوانها: فنان كبير في «المركزي». أعدت القول بوضوح أكثر: نعم ستجد الفنان هاشم علي بنفسه يتمشى في «المركزي». اسأل عنه وقابله واكتب عنه ولا تذهب إلى أي مكتبة أو مقهى انترنت... فهم الطالب الفكرة وأعجب بها. عاد في الدرس التالي مزهوا يحمل كتابا كبيرا يعرف بالفنان ومسيرته وأعماله وسط دهشة زملائه واستغرابهم الشديد؛ كيف يمكن أن يكون مثل هذا الفنان الكبير في مدينتهم وعلى بعد خطوات منهم ولم يسمعوا به!؟ راحوا يقلبون صفحات المطبوع بدهشة. سمعت بوضوح صيحات الإعجاب والانبهار من اكتشافهم للمواضيع الشعبية الأليفة لديهم في لوحات الفنان الكبير، مثل بائع حليب الجمال والرجل المخزن وأمامه (الشيشة) والقرويات الصبريات بألوان ثيابهن الزاهية... هاشم علي

نعم -وللأسف الشديد- لم يكن طلبتي قد سمعوا بالفنان الكبير بعد، رغم أني لا أشك بمقدار اطلاعهم الفكري نسبة إلى العمر والمستوى الدراسي؛ لكني أعزو جهلهم بهاشم إلى نقص حاد في ثقافة التشكيل، يعاني منه السواد الأعظم من الطلبة العرب. أما أنا فقد قرأت عن هاشم في الصحافة الثقافية هنا في اليمن وسمعت الكثير عن تميزه وريادته وغنى تجربته، قبل أن أصادفه شخصيا عام 2006 في الأيام الأولى لإقامتي في تعز يتمشى بتأنٍّ  في «المركزي» وسط زحمة الباعة وضجيجهم. كنت قد رأيت صورته في الصحف مرارا. سلمت عليه وتعارفنا دون كلفة أو حرج. أنت أخو حاتم إذاً!؟ قلت: نعم. احتضنني بقوة هذه المرة. غمرتني بساطته وروحه البسيطة المتواضعة. قلت له: فنان تعز الكبير صدر كتاب حاتم  الجديد «المرئي والمكتوب» المطبوع في الشارقة وفيه فصل خاص عنك. أين تحب أن أضع لك نسختك الخاصة وعليها الإهداء الذي تستحق؟ تلفت حوله كأنه يقول هنا في كل  المكان، وأخيرا قال: انظر أمامك هنا في «صيدلية المحضار».

في لقائي معه في السوق (رأيته بعد ذلك مرات في أسواق تعز التقليدية) عرفت بسهولة ما عناه حاتم بـ«الواقعية الشاعرية» في أعمال هاشم علي التي تلتقط مفردات الواقع ثم تحملها دلالات شاعرية تخفف من واقعيتها المفرطة). تكمن براعة هاشم -مثل أي مبدع كبير- في اختياره لموضوعه الواقعي اليومي من الحياة الحقة التي تدور حوله. أستطيع الآن أن أرى بوضوح الكثير من لوحات هاشم تفترش أرض سوق «المركزي» وتنبض بالحياة. ها هي «بائعة الملوج» وأمامها أرغفتها الساخنة  الشهية، وها هي «بائعة العمب» تمد يدها بالفاكهة الشهية إلى المشترين، وها هو «صانع المداعة» المحببة الأليفة. ها هو العازف والدرويش صاحب الدف... وفي سوق الصيد  أستطيع بوضوح أن أرى الشاعرية الأخاذة في وجه الرجل الذي يحمل رأس سمكة كبيرة في لوحة «دجاجة عمتي» وها هي من حولي وجوه (الرعويين والقبليين) التي رسمها في بورتريهاته الشهيرة؛ بورتريهات لا تحمل أسماء أصحابها، لكنك تستطيع التعرف عليهم بسهولة، فهم حولنا الآن: وجوه متعبة كالحة لنساء ورجال متعبين، لكنها تكتسب الجمال من الشعاع الروحي المنبعث منها، وليس من اللون؛ لأن بورتريهات هاشم كانت غالبا أحادية اللون. وها هي أزقة تعز وبيوتها وشوارعها المكتظة الضاجة ليل نهار (كيف يمكن لتعز أن تكون مدينة حالمة وهي لا تنام أصلا؟!)، لكن هاشم ألف هذا الضجيج وأحبه وعاش وسطه حتى أصبح خلفية للوحاته، لا نراها بل نحسها ونكاد نلمسها ونشم فيها رائحة «باب موسى» و«الباب الكبير» و«الجحملية» و... وتعز الوادعة الوديعة.  

في ختام لقائنا في «المركزي» قبلني هاشم  قبلتين: هذه واحدة لك، والأخرى لحاتم. ثم أخذ برأسي وطبع قبلة ثالثة وأضاف: وهذه للعراق!  

العراق وهاشم اللذان لم ير أحدهما الآخر يتبادلان الآن الرثاء... والقبل. 

تعز   9/١١/٢٠٠٤