العدد الثالث - خريف 2007م

   
 

نصوص
 

                                     الرسالة (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

أدونيس

 - 1 -

يكتبُ إليها -قَلّما يكتب رسالةً إلى امرأةٍ عاشقة. لمثل هذه الرّسائل أجنحةٌ تمتلئ بالغبار امتلاءَها بالهواء.

هل ينشرح لها بَحْر اللقالق في فارو(1)، والغيومُ التي تقلّدُ خُطوات الشّاعر؟ يقول: ثَمّةَ عاشقاتٌ كمثلِ اللقالقِ

يَحْضُنَّ بيوضهنَّ على ذرواتِ الأَبْراج

قوائمهنَّ صَوارٍ

وكلّ عنُقٍ شراع.

 

هل يسألها: ماذا يحدث للبشر حوله؟

بين يَديْ كلٍّ منهم أكثرُ من سكّين،

على كَتفيْ كلٍّ منهم أكثرُ من كَبْش.

وفي الطّرُقِ دَمٌ    

            يتحدّث مع الذّاكرة، حيناًَ

ومع الطفولة حيناً آخر.

هل يقصُّ عليها

            كيف جَرّبَ يوماً أن يضعَ السَّماءَ في حنجرته،

وكادَ أن يختنق؟

أَو كيف يُحبُّ أن يضيّعَ الوقتُ قدميهِ في سَريرها؟

أَو كيف ينقلب الماء إلى وردةٍ، وتصبح الوردة جسداً، أينما توجّه نرسيس؟

 

شَفتاهُ تَطفحانِ أَسْئِلةً،

            ولماذا لا يترك الرّيحَ تتقاتَلُ مع الغبار؟

 

> لكن،

هل يقال ذلك في رسالةٍ

إلى امرأةٍ عاشقةٍ؟

 

- 2 -

ماذا يفعل إن كانت المرأة العاشقةُ محيطاً، وكانتِ اللّغةُ بيتَ المحيط؟

ماذا يفعل إن كانت كلّ كلمةٍ في معجم أَيّامه امرأة؟

 

> النَوْرُ عُرْيٌ،

وكلّ غطاءٍ عَماء.

في النّور، في الجنس يشعر أَنّه مولودٌ قبلَ الأبجدية.

وأنتِ، أيّتها السَّماءُ

            لماذا لا يفرحُ لسانُكِ إلاّ بالموت؟

                        هل الشَّفتان ضِفّتان

                        لنهرٍ غيرِ مرئيٍّ؟

وماذا، إذاً لو صار الأَلِفُ الحرفَ الأخيرَ من الأبجدّية؟

 

> ما أشدّ حاجته الآنَ

                        إلى أن يُرَبِّتَ بيديه

على كتفي الرّيح!

 

> وما هذه الأرض المقدّسة

                        التي ينتمي إليها؟

حَتّى البحرُ ميّتٌ فيها!

                       

             لكن،

                        هل يقال ذلك في رسالةٍ

                        إلى امرأةٍ أَحَبّها،

                        أو إلى امرأةٍ يُحبّها؟

 

- 3 -

نَامَ هذه اللّيلةَ(2)، كما لو أَنّه يَتَنشَّقُ رائحتَها. قَرأ أنَفاسَهُ وهي

تَنطَبعُ على الوسادة..

هل الفَراغُ غيابٌ، حَقاً؟

هل الغيابُ فراغٌ، حَقاً؟

 

يظنّ أَنّها تراه الآن، وتلك هي بدْعَةُ العين الثّالثة. في الغياب يَنْشقّ

المكانُ نصفين،

والزَّمنُ يفرُّ من النّوافذ.

 

ذئبٌ يصرخ في غابة أوجاعه. وكان القمر يُسرّح قطعانه.

وفي حديقة النّجوم أجسادٌ يَسيلُ أحدها في الآخر. بعضها يُنافِسُ الدّم، وبعضها يُنافِسُ الماء. تَنهضُ حواسّ الغبطة، ويَنْفَرِط عِقْدُ السُّلالات.

 

اهرُبي، أيّتها الأجساد من الوحوشِ التي تقدّسُها الكتب!

وأنتَ، أيّها الجميل إيروس، ماذا يوحشكَ الآن؟

 

             > لكن،

                        هل يقال ذلك في رسالةٍ

                        تحبّ أن تنامَ

                        بين نهدي امرأةٍ يُحبّها؟

 

- 4 -

لاَ تَسْأليهِ أن يَكْتبَ لكِ! قال للشمس أَن تمزجَ اسْمَكِ بضوئِها، وقال للفضاء أن يكتبَ

يَشْغلُه شيءٌ آخرَ.. أن يعلّم النّهارَ كيف يَتعطَّرُ بكِ، واللّيلَ كيف تكونينَ قميصاً له.

 

ابتكريِ عتاباً آخر!

- أَتُريد قهوةً؟

سألَته الجميلةُ النّادلة، ولم يُجبْها.

أنتِ الآن محيطٌ وكلّه صوتٌ صارخٌ: ما أحبّ الغَرق إلى أعضائي!

لا ينتشي. لا يملّ.

من أين إذاً هذا القَشُّ الذي يتَقَصَّفُ بين أحشائه؟

ولا يريد أن يكونَ قاضياً.

ولا يريد أن ينخرطَ، هو الآثِم حَتّى في سِلْك الإثم.

شيءٌ ما يرجُّ الغشاءَ الذي يُغلّف أعصابه. وتكاد أن

تُفسِدَ صورتَه، أنتَ أيّها الحِبْرُ الذي يتدفّق من جرح المعنى.

 

اهدرْ! اهدرْ بين أنقاضهِ، يا صَخَب اللّغة!

عندهُ ورَقٌ

لكن، ليس عنده إلاّ ما لا يُكْتَب.

                       

      > لكن،

                        هل يقال ذلك في رسالةٍ

                        إلى امرأةٍ يُحبّها؟

 

- 5 -

يهطل المطرُ في البندقيّة صاعداً من الأرض. والبحر في كلّ مكانٍ بَحْرٌ، إلاَّ فيها.

ظَنّي أنّ ليلَها مسمارٌ، والنَّهْدَ حَجرٌ، وما نسمّيه الفضاءَ ليس إلاّ زاويةً.

بلى، رأيت النّهارَ في البندقيّة يكتب أسئلته ببياضِ زَبَدٍ أسود. وليست هناك أجوبةٌ إلاّ مقرونةً بأَنْقاض الموتى.

 

يُمكن السّائح، سواءٌ كان أنيساً أو موحشاً، أن يتخَيّلَ في هذه الأنقاض أَنّ القمرَ فرسٌ،      

أنّه يقدر أن يمتطِيهُ،

ويدخلَ على المرأةِ التي يُحبّها،

ساعةَ يشاء.

 

السّائح! لا اسْم َ له، وله الأسماء كلّها. يده اليُمنى تُمسك بقَرْن الحَلْوى، أو بزجاجة الكولا، ويده اليُسرى تَحفرُ وَجْهَ الكنيسة الإيوانيّة الباذخة: سان – مارك.

 

يتركُ جسمه في مكانٍ، ورأسَه في مكانٍ، وثيابَه في مكانٍ. وقلّما يميّز بين الظلّ والشّمس. لا يَرى السّماءَ تنـزل إليه إلاّ في شكل قُبَّعة. ويطبخ أيّامه كمثل أسماكٍ غير طازجةٍ فوق نار اللّحظة، وليس واضحاً إن كان ذكراً أو أُنثى.

 

إنّها فينيسيا!

كلماتُ التكوين الأولى تتمدّد فوق الماء محلولةَ الشعر.

أزقّةٌ، قنواتٌ، جداول.. إصطَبْلاتٌ،

والماء نَسيجٌ ليفيٌّ أسود.

لا الشّمس هنا هي الشّمس، ولا القمر القمر: دُولابان يَتَدحرجان.

 

ما أَشدَّ بطش هذه المدينة! لا تتوقّف، بصلواتِها وآلاتها، عن تنكيس رايات المعنى. ولا شيءَ يتحرَّك فيها إلاّ المَنـيُّ والمعدة.

 

عفواً، سان – مارك!

عفواً، تيسيان!

عفواً، تانتوريه!

 

الماءُ في هذه المدينة هو نفسه الموت.

                       

            > لكن،

                        كيف يمكن أن يقال هذا كلّه

                        في رسالةٍ إلى امرأةٍ عاشقة؟

 

- 6 -

لن أنسجَ للبندقيّة منديلاً للوداع،

            وأنتِ، أيّتها الرّسالة،

            عن أيّة كلمةٍ تبحثينَ،

            لكي تكونَ خاتمةً لكِ؟

 

الهـــوامـــــــش:

 (1) كُتب هذا النص في فتراتٍ متقطّعة، في فارو (البرتغال) وبرلين، 25-31 أيار 2006، وفي باليرمو (صقلية)، وفينيسيا (إيطاليا) 25-30 حزيران 2006.

(2) 26 حزيران 2006، فيلّلا إيجيا، باليرمو.