العدد الخامس - صيف 2008م

   
 

نصوص
 

قصيدة رضوان (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

عبد العزيز المقالح

                                          

   - 1 -

الآن وقد خلت الصالة

وانفضّ الجمع

دعوني أجلسْ منفرداً

أتحسّس أضلاعَ القبر

وأقرأ ما بين سطور الموتى

وأقلّب -في صمتٍ- دفترَ أحزاني،

لن أعرضَها للريح

ولا للبرد

ولا للجمهور.

ولن أحزنكم

أدري كم أنتم محزونون

من الأسعار

من الأخبار

ومن إحصائيات القتلى

في غزة والضفة

في بغداد ولبنان.

لن أحزنكم

لن أسأل عن ذاكَ الصبح المبهج

كيف توارى

وتبدّل ليلاً لا كالليل

وأدركني فيه ظلام لا كظلام الأيام الأخرى.

لكني سأحدثكم عنهُ،

عن «رضوان» أخي.

كان ملاكاً لا يشبهني

لا يشبه إخوتَهُ

لا يشبه أبناءَ عمومتهِ

أتساءلُ أحياناً:

هل كان ملاكاً هبط الأرض على صورتهِ

وأضاع جناحيهِ

فكان شقيقي؟!

 

            - 2 -

ما الحياة؟

وما الليل؟

ما الصبح؟

بل ما الزمانُ؟

وما الأمس واليوم؟

ما الأرض؟ ما الكائنات؟ وما...؟

كلنا عابرون إلى الموت

لا أحدٌ خالدٌ أو مقيمٌ

سوى الله

لا تحفلوا بالمغانم

أو بالمغارم

لا شيء يحمله الميتون

إلى حيث يمضون

إلاَّ كتابَ البراءةِ

أو ترجمانَ الخطيئة

لا تُكثِروا من رصيد البنوك

ولا من رصيد الجسدْ.

 

            - 3 -

«رضوانُ» أخي

كان الأجملَ

قبل الموت وبعد الموتْ

كان يسير على أطراف أصابعهِ

حتى لا يجرح وجهَ الأرض

وكان يحب الناسَ

يحب البحرَ

يحب الموسيقى والشعر

ويعشق آيات القرآن

يلوذ بها

وكصوفيٍ مبتلِّ القلب

بحبٍ صافٍ

ومشاهدَ من ملكوت الفرح

المكتوب على جدران الجنة

كان الأقربَ من قلب الله

ومن كل الناس.

يا الله!

«رضوان» أخي وصديقي!

لو كنت اخترت أخاً وصديقاً

ما اخترت سواه.

 

            -4-

حين كان القليل من الوقت

يجمعنا

كان ثالثنا الصمتُ

لا نتحدث

كان الكلام يضيق عن الخوضِ

في الحب بين شقيقين

كانتْ مشاعُرنا تتراسل

حين نداعبُ غزلانَ أحلامِنا

أو نسافرُ عبَر مياهِ الطفولةِ

عن زمنٍ ناصعٍ كالصباح

وعن زمنٍ حالكٍ كالسواد

وعن زمنٍ بينَ بين،

وفي البعد والقرب

كان معي

يتفهم بالقلب ماذا أُريد

وأفهم بالقلب ماذا يريدْ!

 

            - 5 -

ماذا تفعل حين ترى

جزءاً منك

يناوشه الموت

يحاصره

ويسد عليه منافذَ بواباتِ الضوء

وبوابات الظل؟

ومن أنتَ؟ وماذا تسْطيع

وقد أغلق وجهُ اليأس

عليك الأفقَ

وصار الموتُ أمامَك

صار الموت وراءك؟

ها أنت الآن ترى وجهَ أخيك

يغيب

ترى أن مصلاّهُ يودعهُ

وكأن الناس جماعاتٍ

وفرادى

ينحدرون به نحو القبر

ولا يسْطيعُ القلب

ولا تسْطيع يداك

وقوفاً في وجه العاصفةِ

المرتابةِ

أنتَ الخاسرُ لو قاومتَ

وأنتَ الخاسرُ لو لم تفعل شيئاً

تتحدى فيه اللحظة

ترفع كفيك إلى الله

وتسأله الرحمة.

 

            - 6 -

كان حزني يطفو ويغرق

يحملني أملٌ للبعيد

ويرجعني اليأس نحو السرير

الذي يتسيّده الموت

ماذا أرى؟ جسداً يتلوى

وعينين غائرتين... وذابلتين

وجواً من الموت

يلتف حول المكان

يحاصره

وخواطر مرعبة تتملكني

فأراه... أرى وجهه

يتلاشى

ويغرب شيئاً فشيئاً

يحرك كفيه في وهَنٍ ظاهرٍ

والصلاة على شفتيه

تضيء كآخر شمس

قبيل المغيب الأخير

على صفحة الأفق

أخلع ما ادّخر الصبر

في كبدي من ثبات

وأسند رأسي

إلى حائطٍ بلّلته الدموع

وأسأل نفسي:

هل استنفد الوقت ظلَّ ابتسامتهِ

وارتعاشاتِ عينيهِ

أم أنه استعجل الموت

شوقاً لجنته المشتهاة؟

كتمتُ أنيني

وأدركت أن البقاء هو الموت

 أن الحياة أشد وأنكى

من الموت

أن الطريق إليه طويلٌ

وصعبٌ على النفسِ

لكنه في النهاية،

عذبٌ لذيذ.

 

            - 7 -

واأسفاه!

ابيضّتْ عينُ الكلمات

من الحزن

وصار العمر المتبقي في الجسد الذاوي

حَرَضاً.

هل تتواصل سلسلة الأيام كما كانتْ؟

هل أقرأ؟

هل أكتب؟

هل آكل، أشرب

وهو هناك وحيدٌ

لا يؤنس وحشته

غير شعاعٍ من أملٍ

في ملكوتِ الله

وأذكارٍ كانت ترعش وجدانَ الأرض

إذا جاء الليل

وأسرجت الكلماتُ مصابيحَ الأسرار

العلوية؟

 

            - 8 -

كانتِ الأختُ تنظر شاحبةً

صوب جثمانهِ وتقول لنا:

ساعةً، ويفيق من النوم

إنَّ الذي مات أوجاعُهُ

وهو الآن في لحظات النعاس

دعوه فمن زمنٍ لم يزره

لذيذُ المنامِ!

اقتنعنا ولم نقتنعْ

ولجأنا إلى الصمت

كان النهارُ يغيب ويرجع

والليل مثل النهار يغيب ويرجع

هل نحن في الليل

أم في النهار؟

وهل يدرك الذاهبون إلى الموت

أيَّ أسىً فادحٍ يتركونْ؟

 

            - 9 -

لا أبكيهِ

ولكني أبكي نفسي

أبكي أهلي وصحابي

من زمنٍ يخلو من «رضوان»

ومن بلد يخلو من «رضوان»

ومن عصرٍ يخلو من «رضوان»

وأبكي فيه قصيدةَ حبٍ

لم تُكتَبْ

وطمأنينةَ روحٍ لا تَحقِدُ

لا تغضبْ.

أبكي فيه بساطتَهُ

وبراءَتَهُ

أبكي العينيين الدامعتين

تجاه الجوعى والمحرومين

تجاه المرضى والمظلومين

وأبكي فيه مناقبَ ما كنت لأذكرها

أبكي «رضوانْ».

 

            - 10 -

أنتَ ما زلتَ في القلب

في البيت

تُؤنسنا في الليالي الرهيبة

صوتُ خطاكَ

وضوء صلاتك

ساعةَ نلمحه

يتسلل مغتبطاً

قربَ غرفةِ نومك

لمـّا يقل أحدٌ أنت غادرتَها

كيف؟!

هذي ثيابُكَ

هذا كتابُكَ

هذا رنينُ الدعاء الذي

كنت تتلوه

هذا رغيفك ما زال

في صَحنِهِ ساخناً

وعلى القرب فنجانُ قهوتِكَ

الساخنة!

 

            - 11 -

كنتُ السابقَ

حين أتيتُ إلى الدنيا

ملتحفاً ثوبَ الأوجاع

وحين أتيتَ ورائي نجماً يؤنس وحشتنا

-أمي وأنا-

كنتَ سلاماً... ونقاءً

رضواناً،

كيف سبقتَ إلى مجد الله

ورحمته

وأعدتَ إلى نفسي وحشتها

ومتاهةَ عزلتِها؟

كيف قبِلْتَ بأن تسبقني

أنت الرافض أن تتقدم قبلي

بكلامٍ وطعامٍ

أو فضّ كتابْ؟

 

            - 12 -

هادئٌ،

في سلام مع الآخرين

وخلف الضلوع التي احترقتْ

ظل يخفي مواجع أيامهِ

ومرارةَ أشجانهِ

لا يرى الناسُ إلاّ ابتسامتَهُ

ولذيذَ دعابتهِ

لا يُحركُ طرفاً

إذا ما استوى فوق هامتهِ

طائرُ الخوف

أو ديدبان الفجيعةِ

يا صمتَهُ، والخناجرُ تشربُ

من دمهِ

والنهاية تنشبُ أظفارها

في ثنايا البقية

من جسمهِ!

يا لَهُ من صبورٍ على حزنِه

وكتومٍ على الداء

يعبث في ورق العمر

يحمل، قبل الأوان،

غزالةَ أحلامهِ

للمكان البعيدِ،

            البعيد!

 

   مارس 2008