العدد الثامن - صيف 2009م

   
 

نصوص
 

 الوشاح

سيّاف الإمام، حاكم اليمن..  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

مروان الغفوري

"يا وشاحُ ..

 استعذ من رفاقِ السلاح

وانتشر في تخوم الكلام،

وكن حربةً في الظلام."

 

كان الوشاحُ طائراً في يد الإمام

يحطّ على دم الموتى، ورقاب الفارين من السجون

وكان الإمامُ حربةً في يد الوشاح

تسوقُ الغفرانَ من السماء إلى القبر

وتجلبُ الملائكةَ، وأبناء النبي.

 

"امسح جبينَك يا وشاحْ

نبتَ الصباحُ على الأنوفِ

وأنتَ مفترق الصباح.

.. واكنُس طريقَ المؤمنين،

اكْنُس فروجَ  الأرضِ من هذي الرياحْ."

.. كان الوشاحُ صغيراً، مثل كل الجبال

وعندما كبُر غادرتُه الغيومُ، والأغنام

وتركته الأمطارُ وحيداً في بلدةٍ عالية.

 

قيلَ له: الدمُ ابنُ الإله،

فأطلق أبناء الإله من أوعية الإنسان.

ولم يعُد يصدّق، بالمطلقِ، ما تعلمه قديماً

من أن الدمَ ابن الإنسان،

 وأن الإنسان هو البلدةُ العالية

التي بناها الله، وخرّبتها السيوف.

 

"وللوشاحِ ظلمةٌ ونور

وكلمةٌ صغيرةٌ تخرجُ من أحشائها النسور.

للوشاحِ سيفُه القديمُ، قلبُه الجديد

يجرّه حصانُ مولاهُ إلى فنائه السعيد

للوشاحِ معناهُ المشتقّ من رهافةِ الخوفِ

ومن أجنحةِ الطيور..

بالأمسِ كان يحفِرُ الحبّ على الأوجهِ،

في مخابئ النسوانِ، في الصخور

وكان يشتري الأحلامَ من متاجرِ الموتى،

ويحرقُ السوادَ في مدافِن العبيد. "

 

لا يتذكر الوشاحُ ذلك اليومَ

الذي دهس فيه أول دمٍ على البئر.

ولا أول حكم بالإعدام، اصطكّت له قدماه

.. بيد أنه لا ينسى كيف خرج أطفال كثيرون من بين أصابعه

في تلك الليلة.

 

"لقد حاولت إرجاعهم إلى أصابعي، فأكلهم الضبابُ"

 

" يقول ملَك القتلى لأذُنِ الوشاح:

ستخرجُ الأرواحُ، مثل الدودْ

تحفِر في السماءِ أخدوداً لهذه الأجسادِ

تسكبُ العويلَ والرياحَ في الأخدود..

وتضربُ الأقداح".

 

.. كان طويلاً، نحيل الجسد.

قيل إن أباه استسقى به، في طفولته،

ففاضت القريةُ بالأخشاب

يتذكر الوشاح جيّداً

كيف استمتعوا، بعد ذلك، بلعبة السيوف الخشبية.

 

كان يهزم رفاقه

فيرى أجسادهم البضّةَ وقد تحوّلت إلى أبواب ومتاريس.

حتى في تلك الساعة التي قُتِل فيها على يد وشاحٍ جديد

فقد قيل إن آخر كلمة لفظها:

أذوبُ الآن، أنا آخر المتاريس،

أنا خاتمة الأبواب.

 

"وذات مرّة يطلبه مولاهُ:

 - كم فتحت، يا وشاح؟

-  فتحتُ كل بابٍ في طريق مولاي الأمير.

-  وكم تركتَ، يا وشاح، للسماءِ والسرير؟

 - تركتُ أوهاماً تطيرُ في الرؤوسِ،

عنواناً يغوصُ في الأيام.

 -           كيف ترى الأيام، يا منتجعَ الأيام؟

-           أرى بلاداً تغزلُ الكلامَ بالكلام

وتمزجُ الظلمةَ بالغدير.

-           وشاحُ، أيها الغلامُ...!

-           أنا لمولايَ الحدوةُ، والسرجُ، الصهيلُ والخطامُ...

مُرْني بما ترى، ستهبطُ الأسماءُ من عليائها،

 وتصهلُ الأبواب...

 

حلُم الإمام بالوشاح يمتصّ ريق طائر.

في الليلة التالية،

كان الوشاحُ يحلم بطائرٍ يمتص ريق الإمام

.. حتى بعد موت الرفيقين

فإنهما ظلاّ يحلمان بالطريقة ذاتها

ويفسران حلميهما:

الإمام ينتظر الساعة التي سيطير فيها الوشاح

والوشاحُ يرتقبُ اللحظة التي سيتوقف عندها الإمام عن الطيران.

وكلاهما يسند ظهره إلى رتاج الجنّة،

 ويتبوّل في الجحيم.

 

قلبي يطيرُ وأنتَ أين تطيرُ؟... جزعي هُناكَ، حديثنا المغدورُ

لا تتركِ الموتى على أعقابِنا... قتلى، وآجالٌ هناك تدورُ

للأرضِ أول منزلٍ ولمنزلي... في الأرض أول منزلٍ، وقبورُ

 

قرأ الوشاحُ على باب السجن، من الداخل:

هُنا تنبتُ الأجنحة

وتغسلُ الملائكةُ الجدرانَ باللبن.

فتمنّى لو أنه استطاع أن يكتب تحت هذا النص:

الدمُ للترابِ، واللبن للجدران

وصدري للسجناء ولمداخن القرى.

 

أيها الوشاحُ! قال الإمامُ في منامه:

تزوّد قبل الموتى بالأحياء

وانكأ خاصرة السيفِ بخضراء الأعمال

ضوّع سيفَك بغبار الآباء،

سيعدُك الموتى برمالٍ تشرقُ في رئتيك،

وأنتَ يمينُ التوحيد، وفاصلةُ الآجال..

فتفتّح، كالقُرآنِ، على برَكِ التأويلِ

ولا تقبِر هذا الخفَرَ الرباني على شفتيك.

 

.. كتب بحّارٌ مريض على الماء:

 أمشي، وتنهرني الآمادُ والمؤنُ

                               كقطرةٍ من دمي تجتازُها المدنُ

أكلتُ خبز بلادي يوم غفوتها

                            وقد علمتُ بأني، حينها، الوسنُ.

 

يتذكر الوشاحُ أنه قال للإمام:

"لعنتُ الماءَ قبل الفجر

فعاد الصدى بُعيدَ صلاة العصر".

لم يقُل الإمام شيئاً،

فقط كان يستذكر مقولة جارته، في الجبل:

"الحاقدون ثلاثة: الماء والجمَل والدم".

بعد هنيهة انتفض الإمام:

لا تكتب شيئاً على الماء، يا وشاح!

لا تنبس ببنت شفةٍ

 وأنت ترفع الرؤوس عن الأجساد، لتحيّي العدالة..

ولا تنفرد بجمل، أو صحراء..!

 

أيضاً، عن الوشاح:

لم ينم الوشاح، تلك الليلة

فكّر في أن يحدّث الإمام عن الحب

والعدالة،

فقد وجد نصّاً بخط اليد، على ظهر كتاب في المسجد:

           

أيتها المرآة النبوية، يا نشيد الإنشاد، ويا فاتحة الأعياد

أنت قبّة الملائكة، وبخور العارفين...

تجلّي، أكثر، في هذه الساعة..

كي تغسل ملائكة الصحراء بالحناء أناملك

وتعقِل أحصنتها على ساقيك.

دعي لي هذا المساء، فهو كلمتي الشاردة

أتقي بها الناس والمدافن

وأنتِ.. الوقت المقدس النبيل

المعتم المضيء

الشجرة الهاربة.. من الصحراء إلى مملكة الرب،

حيثُ يعيش الناسُ على أطراف قلوبِهم

ويغزلون المدينة تحت أصابع العاشقين

تحسسي كتفي... إلخ.

 

في الظهيرة نهره الإمام،

وأجبره على أن يحمّم قطّه الأبيض.

 

وقبل أن يعود مولاهُ الإمام..

كي يكلّم السماء،

يدهنَ العبيد بالفوسفور والأزلام

قاله له الوشاحُ:

يا إمام!

يا أوّل الموحّدين! يا مملكة الأيتام!

دلّني إلى الغفران والخطيئة الأولى

لأحرس الحصون بالإيمانِ،

 والإيمان بالرماح!

 

لم يعِش الوشاحُ ليشهد الحصونَ وهي تتآكل

مثل السيوف،

ولا أردية النسوان وهي تطيرُ فوق أعناق الغزاة...

لقد كان حلماً عنيفاً ذلك الذي رآه،

وظل ينادي طيلة الليل:

ستسقط الأعناقُ عن أعناقكم

وتسحبُ الدماءُ، باسم اللهِ، للصحراء

مقبرة الآباء،

فانطلقوا، يا أيها الأعداء، في الحارات والبيوت

وانسكبوا، لا تتركوا دليلاً

على وجودِنا.. وانطلقوا بظلنا نحو سماءِ الله، في الجبال

سيخرجُ الآباءُ من قبورِهم، ويخرجُ الزمانُ فارداً يديه،

بين هذه الأسمال

يا أيها الأعداء.. يا سلالةً من الدمِ المغشوش

والخطايا

كيف تسكرون عند باب مولانا الإمام


حيثُ يجلسُ الظلامُ، كل ليلٍ، يحرسُ العقيدة

وينهرُ التأويل

.. حيثُ يغسلُ الحلم عصا مولاي؟!

 

.. فسّر الإمام حلمه، كعادته:

ستهربُ الخيولُ، يا وشاح،

للجبال والوديان

وتوقدُ النسوةُ لحمنا على أسنّة الرمّاحِ

للغزاةِ، والغربان.

و.. يعبثُ الموتى ببكْرةِ الميزان.