العدد  الثالث - خريف2007م

   
 

سؤال العدد
 

واقع الرواية اليمنية اليوم..؟ (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

تقدمت «غيمان» إلى عدد من النقاد والكتاب بالسؤال حول واقع الرواية اليمنية اليوم بعد عدة عقود على بداياتها، وحول موقعها في الكتابة الروائية العربية، واتجاهات التجريب والتحديث... وهذه إجاباتهم:

 

خصوصية الرواية اليمنية
حفيظة صالح الشيخ (جامعة عدن)

ما يجب الإشارة إليه كخصوصية تميز موضوع الرواية اليمنية وشكلها أن هذه الرواية منذ بداية ظهورها إلى يومنا هذا تتمتع بخصوصية ونكهة محلية، وهذا ليس عيباً؛ لأن الأدب كلما كان محلياً في مفرداته كان أكثر صدقاً وكان طريقه إلى القارئ أسهل بكثير ليس من المبالغة في شيءٍ القول بأن قراءةً متأنية لخارطة الإبداع العربي الجديد أو المعاصر تشير إلى أن الرواية هي الإبداع الأهم فيه؛ وذلك -ربما- لحاجة الحياة الأدبية العربية إلى هذا اللون من الإبداع الذي يتمتع بقدرةٍ فائقة على استلهام الواقع المعيش واختراق تفاصيله بكل دقائقها وتناقضاتها ومتغيراتها.

وقد عملت الرواية العربية منذ أول محاولة روائية («زينب» 1912) على طرح القضايا الكبرى، وفي كثير من الأحيان محاولة الإجابة عليها. إذ الرواية ليست حلاً لمشكلةٍ، بل هي نتيجة الشعور بوجود مشكلة وبعدم القدرة على حلها، لذا تكون الرواية هنا «محاولة» لحل مشكلة وليست «حلاً».

وأرى مع كثير «من النقّاد والكُتّاب أن بدايات الرواية العربية تمتد إلى ما قبل «زينب»، إلى نص روائي يسمى «علم الدين» لعلي مبارك، كُتِبَ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفيه كافة ملامح النص الروائي الذي كان سائداً في تلك المرحلة في أوروبا، بل إن الجذور تمتد إلى أبعد من ذلك وإنها تكمن في نصوص تحمل بأحشائها عناصر سردية روائية وقصصية. ولكن «التأرخة» للفن الروائي منذ «زينب» جاءت من أن الإبداع العربي دخل بهذه الرواية وما بعدها مرحلة التغريب، وقرر أن يأخذ الرواية من الغرب دون الاهتمام بدراسة الأشكال الروائية الموجودة في التراث العربي.

وأياً كانت المسألة فإنه يمكن القول بأنه ابتداءً من الستينيات إلى اليوم هناك رواية عربية تبدأ ملامحها من التأثر الشديد بالنمط الغربي، وتصل إلى محاولة التأصيل، ومحاولة إقامة علاقة صحيحة مع التراث تأخذ شكل التأثر به حيناً ومحاولة الاستفادة منه واستخدامه وتوظيفه في معالجة هموم العصر حيناً آخر.

ويرى بعض النقاد أن الرواية أصبحت اليوم من أكثر الفنون الإبداعية ازدهاراً وانتشاراً، وأنها قد اغتصبت لنفسها ميزات أو امتيازات وفضائل الشعر، وأنها حلت عند العرب محل الشعر، بحيث يمكن القول إنها باتت «ديوان العرب» وأن القارئ انسحب من ساحة الشعر إلى ساحة الرواية.

وعلى ما في هذا الرأي من تحيز للإبداع الروائي إلاَّ أن المتلقي العربي لا يمكن أن يتصور اللغة العربية بدون شعر، ولا الكتابة بغير شعر، كل ما في الأمر أن الشعر الحديث أخذ يقترب من النثر ويهجر أوزاناً وتفعيلات مستبدلاً بها الموسيقى من خلال إيقاع الكلمة بحد ذاتها، وإيقاع الحرف بحد ذاته، إضافة إلى أن الشعر أو التجربة الشعرية محط الإبداع لا تستطيع أن تحيط بتفاصيل ومدى كالذي تنداح فيه الرواية، وهي فن ممتد في الزمان والمكان وبأحداثه وشخوصه؛ كل ذلك مع قدرة الرواية على استيعاب مجالات الفنون الأخرى واستعارة أدواتها، فهي تستعير من المسرح ومن الشعر، مما جعلها من أدوات التعبير الواسعة.

وإذا حاولنا أن نخص بالحديث الرواية اليمنية، فإنه يمكن القول: إنها أداة من أدوات التعبير عن الهم الواقعي، المعيشي، الاجتماعي، والسياسي؛ ولكن صوتها ظهر بعد الشعر، وإن كانت هناك محاولات منذ أواخر الثلاثينيات، ثم صمت رهيب، ثم محاولة يتيمة في الستينيات، ثم بدأ التعبير الروائي يتململ من قدرته في أواخر السبعينيات، ويأخذ في الصحو منذ الثمانينيات إلى يومنا هذا.

وخلال هذه المسيرة كان الهم السياسي هو الهاجس الأكبر، ذلك أن الفن استجابة لحاجات مجتمعية، وتقتضي الحاجة في هذه الفترة مجابهة حكم كهنوتي مغلق، وآخر استعماري مستغل؛ فصورت ضياع الإنسان اليمني وفقره، وسعيه الحثيث وراء لقمة العيش في مجتمع لا يحقق له أدنى غايات الأمان والاستقرار. صَوّر الروائيون اليمنيون الواقع بمجمله وعموميته من خلال الفردي الخاص، كون التجربة الفردية مرآة لما يدور به الواقع من حول الفرد. وقد جاءت تلك المحاولات الروائية الأولى دونما وعي من أصحابها بأصول هذا الفن. كُتبت الرواية عفواً، أو ربما بدافع من الوعي الباطني أو الوعي الجمعي المتراكم، فأتى البناء الروائي كلاسيكياً، بسيطاً، يقوم على محوريْ: السرد، والحوار، بلغةٍ سهلة ولكنها قادرة على حمل هموم الواقع الذي تحركت فيه. وجاءت الشخصيات منطلقة إلى مركز تطورها ونضوجها الفني والإنساني، لاسيما في روايات الثمانينيات، مما يشير إلى جيلٍ جديد رافض وقادر على التحدي بفضل تشكل الوعي الناتج عن التعلم أساساً. لكن هذا لا ينفي وجود نماذج روائية رائدة اقتربت في بنيتها السردية المعقدة -إلى حدٍ ما- من البنية الروائية المتقدمة، حيث استخدم الروائي فيها كافة التقنيات الروائية: السرد، الحوار، القطع، الوصف، التداعي، الرسائل، الحلم، بلغة ذات دلالة متعددة، قصيرة متوترة حيناً، سردية إخبارية حيناً آخر.

 ويبقى الواقع على الدوام هو المرجعية التي ينطلق منها الروائي اليمني. ويظهر الواقع السياسي، بل الهم السياسي الاجتماعي الاقتصادي في رواية جيل التسعينيات والألفينيات، ولكن بصورة غير مباشرة، لم تعد اللغة الخطابية، التقريرية، هي التي تحمل رؤى هؤلاء الكُتّاب، ولم يعد طرق الموضوع مباشرةً هو وسيلة التعبير؛ لقد نحى هؤلاء الروائيون الحداثيون باتجاه نبش وجوه الخراب في الواقع ونمذجته والتعرف على أدق تفاصيله وخصائصه، وذلك بهدف إدانته وتجاوزه. كشف هؤلاء الروائيون عن الخراب والدمار في الحياة الإنسانية اليومية كونها صدى للفساد العام المتمثل في الولاءات القبلية، أو سيطرة القوى الاقتصادية وتحكمها في رأس المال، أو الديمقراطية الشكلية أو الترويح لوعيٍ عتيقٍ متخلفٍ، أو الفساد في العلاقة مع المجتمع متمثلة في دمار حلم صيرورة المجتمع وتغيراته المطلوبة. لقد تمثل الروائي الحديث هذا الواقع الموضوعي ولكن بمهارة عالية من التدوير والتحوير واللامباشرة.

ولأجل مضامين كهذه ذات أسلوب سردي موحٍ، فقد جاءت اللغة الروائية في هذه الأعمال لتقوم بدورين في آنٍ معاً: دور توصيلي لإيضاح الفكرة وتحديد الخطاب، ودور مميز في العمل من خلال جمالياتها الشعرية وحمولاتها الرمزية والإيحائية سواءً الدينية أم السياسية، أم الثقافية أم التراثية. إن اللغة لديهم مستهدفة بذاتها كما هي -تماماً- خادم أمين للعمل. وفي هذا الإطار فإن إنطاق الشخصيات بضمير المتكلم يجعلها تحمل جزءاً وافراً من تجربة الروائي في بعض الأحيان، كما أن اختيار بطل مثقف أحياناً أخرى، يؤكد موقفاً سياسياً أيديولوجياً يصاحب النص ذاته.

لكن ما يجب الإشارة إليه كخصوصية تميز موضوع الرواية اليمنية وشكلها أن هذه الرواية منذ بداية ظهورها إلى يومنا هذا تتمتع بخصوصية ونكهة محلية، وهذا ليس عيباً؛ لأن الأدب كلما كان محلياً في مفرداته كان أكثر صدقاً وكان طريقه إلى القارئ أسهل بكثير، لاسيما أن الرواية هي في الجزئيات الصغيرة، وكلما استقت مادتها الأولية من الواقع الموجود ومن تفاصيل حياة الناس كانت أكثر إضافةً وأكثر إغناءً للمشهد الثقافي سواء المحلي أم العربي أم العالمي، فالمحلية لا تتناقض لا مع القومية ولا مع العالمية.

 

الفن الروائي اليمني قلعة مجهولة
 صبري مسلم (جامعة ذمار)

منذ أن كتب محمد علي لقمان روايته الرائدة «سعيد» عام 1939 ومسيرة الرواية اليمنية لم تتوقف؛ بيد أن الخط البياني لها لم يكن يتصاعد بالضرورة، بل إنه قد يهبط أحياناً، ولكنّ محصلته الأخيرة مجموعة من الروايات المتميزة التي تبدو كشموع مضيئة في أفق الرواية اليمنية.

وإذا شئت أن أذكر بعض الروايات المهمة التي تترك أثرها في ذاكرة المتلقي، وقد أُتيح لي أن أطّلع عليها وأن أكتب عن بعضها، فإن رواية المناضل محمد محمود الزبيري «مأساة واق الواق» لا يمكن أن تنسى؛ نظراً لأجوائها الغرائبية وطابعها الرمزي ومضمونها الذي فرضه السياق السياسي والاجتماعي الذي أحاط بالزبيري زمن كتابة الرواية أوائل الستينيات من القرن الماضي. ومن الروائيين الذين تلقيت رواياتهم بإعجاب وتقدير: محمد عبد الولي في «يموتون غرباء» ويحيى على الإرياني في روايته «نحو الشمس شرقاً»، وصالح باعامر في رواية «المكلا». وأما رواية «الرهينة» فقد نالت ما تستحقه من الاهتمام، لاسيما أنها تميّزت من بين عشرات الروايات العربية، واختيرت على أنها تمثل الرواية العربية الناضجة التي تجمع بين نكهة المحلي والخاص الذي يصلح منطلقاً لموضوع ذي طابع عالمي لأنه ببساطة يهمّ الإنسان حيث كان.

ولست هنا بصدد استعراض الروايات اليمنية؛ بيد أني قرأت مؤخراً رواية جيدة للقاصة نادية الكوكباني التي اقترن اسمها بالقصة القصيرة والأقصوصة ولكنها تصدر روايتها الأولى التي تحمل هموماً أنثوية بجرأة وبحرفية وخبرة في مجال السرد عامة.

وأمّا الأساليب السردية الحديثة والتقنيات المعاصرة فإن حضورها يتفاوت في الروايات اليمنية. بيد أن الرواية اليمنية عامة جربت معظم التقنيات السردية المعروفة، كالرمز، وتوظيف التاريخ، والفلاش باك. وممن أتوسم فيهم إنجازاً في هذا المجال القاص والروائي وجدي الأهدل الذي أنجز مؤخراً رواية متميزة تحت عنوان طريف هو «فيلسوف الكرنتينة».

ولكي أكون موضوعياً فإن الفن الروائي اليمني يكاد يكون قلعة مجهولة من القارئ العربي بل ومن القارئ اليمني أيضاً إذا ما استثنينا المختصين والدارسين. بيد أن مسألة كهذه يمكن معالجتها من خلال المطبوع الروائي اليمني وتوزيعه عبر المعارض الدولية للكتاب، فضلاً عن لفت الإنتباه إلى ما يصلح منها لأعمال درامية تصلح للمسرح أو التلفاز، لاسيما أن الهمّ الأساس للفن الروائي اليمني هو همّ سوسيولوجي. ويمكن لوزارة الثقافة، واتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين، والهيئة العامة للكتاب، أن تعقد ندوات أو مؤتمرات أو معارض من شأنها أن تبرز هذا الفن المهمّ، وأعني به الفنّ الروائي اليمني.

 

الرواية اليمنية بلغات عالمية مختلفة
آمنة يوسف (جامعة صنعاء)

ليس من الإنصاف أن نحكم سلفاً بعدم وجود رواية يمنية بالمستوى الفني الذي وصلت إليه الرواية في وطننا العربي على الأقل. ومن خلال القراءة النقدية للنصوص الروائية اليمنية منذ صدورها ونشرها في أواسط القرن المنصرم حتى يومنا هذا، على محدودية عددها من حيث الكم، نجد أن هذه النصوص بالقياس إلى معيار الكيف تلتزم مبدئياً بمعظم شروط، هذا الجنس الأدبي الذي يراه نقاد عصرنا الحديث باعتباره، من زاوية شكله الذي غدا عليه اليوم، فناً أوروبي النشأة منذ أن ظهر معبراً عن المجتمع البورجوازي خاصة ومنذ أن تأكدت دلالته وشكله للتعبير عن مجتمع المدينة المعقَّد عادةً؛ فالرواية هي فن المدينة بكل ما يعتريها من موضوعات ذات طابع إشكالي متشابك ومعقد، سواء على مستوى العاطفة أم السياسة أم الاقتصاد أم الإيديولوجيا أم الرؤى الفلسفية والثقافية.

 وليس من المبالغة في شيء إذا ما اعتبرنا الكاتب اليمني الكبير محمد أحمد عبد الولي، رائد الرواية في اليمن بامتياز مثلما هو كذلك رائد القصة القصيرة، انطلاقاً من مفهوم الشكل الروائي أو القصصي وانتهاءً بكيفية المعالجة الفنية للموضوعات ذات الاتجاه الواقعي خاصة في أبرز رواياته وقصصه، وكذا محاولاته المسرحية التي تضمنتها أعماله الكاملة: رواية "يموتون غرباء" ورواية "صنعاء مدينة مفتوحة" والمجموعات القصصية "الأرض يا سلمى»، "شيء اسمه الحنين"، "عمنا صالح"؛ ذلك أنها الأعمال الأدبية التي نجد بناها السردية تتصف بالتوظيف الفني للتقنية السينمائية والمونتاج القائم على تركيب الصور، وإن تم ذلك بشكل متواضع يلائم مرحلة الريادة أو البداية من قبيل التوظيف الفني لتقنيات الفلاش باك والمونولوج والقطع والتصوير... إلخ.

 وعلى الرغم من محدودية الرواية اليمنية صدوراً وكماً، إلا أنها استطاعت بجدارة أن تخرج من نطاق محليتها وتنشر عالمياً وتصبح مقروءةً بلغات عالمية مختلفة، كما هو الحال في رواية "الرهينة" للقاص والروائي الكبير زيد مطيع دماج، المترجمة إلى اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية والصينية، حتى ليمكن اعتبار هذا الأديب الكبير هو نجيب محفوظ اليمن، بسبب السرّ الذي يكمن في انتشار روايته "الرهينة" وهو المحلية وشدة الخصوصية في معالجة مرحلة سياسية بالغة الحساسية والتأثير في بنية المجتمع اليمني قبل قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962.

 الرواية اليمنية جنس أدبي له جذوره التاريخية على مستوى الحكاية التي تسبق مفهوم الشكل المتفق عليه لدى النقاد اليوم، (كتاب "التيجان في ملوك حمير"، مثلاً)، وكذا على مستوى المقامة اليمنية خاصة وما احتوت عليه من تقنيات فنية متواضعة من حيث المعالجة الحكائية في المراحل التاريخية الأولى لفن الحكي.

 والرواية اليمنية اليوم شكل أدبي يحاول أن يرقى لمستوى هذا الجنس الأدبي الذي يخضع لشروط فنية تميزه عن بقية الأجناس الأدبية. غير أنه (أي الشكل الروائي اليمني اليوم) وهو يحاول جاهداً ذلك لا يزال يقع في فوضى الجمع بين التقنية التقليدية وبين التقنية الحديثة. الأمر الذي يؤدي بدوره إلى اجتماع أكثر من اتجاه أدبي في بنية العمل الروائي الواحد، نلاحظ ذلك على مستوى التوظيف الفني لتقنيتي الرؤية والصورة، خاصة عند الجيلين السابق واللاحق حتى يومنا هذا. فمثلاً قد تنطلق الرؤية من التوظيف الفني للرؤية الخارجية (التقليدية) والراوي كلي العلم، المحيط علماً بكل شيء، والمستعين بضمير الغائب (هو). وكذا قد تنطلق الرؤية من التوظيف الفني للرؤية الداخلية ذات الاتجاه الحديث، ويبرز الراوي بضمير المتكلم (أنا) وهو الراوي المحدود في علمه في الرؤية (مع) أو الرؤية المصاحبة. هاتان الرؤيتان المتضادتان اتجاهاً ووظيفةً قد نجدهما، بل غالباً نجدهما على مستوى البنية السردية الواحدة للعمل الروائي اليمني متلاحمين، مثلاً مع تقنيتي الصورة الوصفية (التقليدية) والصورة السردية (الحديثة)، وأحياناً الصورة السينمائية المنطلقة من الرؤية الخارجية (الجديدة) وملامح من تقنية الراوي غير الظاهر (الراوي الشاهد)، مع شيء من التوظيف الفني النادر أحياناً للرؤية الثنائية والرؤى المتعددة.

 لعل هذا الجمع بين تقنيات السرد القديمة وتقنيات السرد الحديثة ظاهرة فنية لا تخلو منها حتى الرواية العربية وإن كان ذلك بتفاوتٍ نسبي، استطاعت معه الرواية العربية في الوطن العربي كماً وكيفاً أن تتجاوز كثيراً من فوضى الجمع بين التقنيات القديمة والتقنيات الحديثة في بنية الرواية، بشكل غدا معه النتاج الروائي العربي الوافر يقبل التقسيمات الأدبية حسب الاتجاهات والتيارات المختلفة.

 إن محدودية النتاج الروائي اليمني لا تزال تجعل التفوق في الإبداع يظل فردياً وبحاجةٍ ملحة إلى عوامل عدة، لعل من أبرزها وفرة الصدور أو النتاج الروائي كماً وكيفاً بشكلٍ تتحدد معه هوية الرواية اليمنية فنياً، إلى جانب الضرورة الملحة لتوافر عنصر الاستقرار النسبي للمبدع الروائي على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية... التي من شأنها أن تتيح له فرصة الانكباب على عمل أدبي صعب مثل الرواية التي يحتاج إنتاجها إلى قدر كبير من التركيز وصفاء الذهن والذاكرة، باعتبارها فناً تخيلياً طويلاً نسبياً؛ ذلك أن عدم الاستقرار في حياة المبدع الروائي يحول دون القدرة على الجمع بين عناصر العمل الروائي، وينعكس سلباً على مدى تماسك البنية الروائية وحبكتها الفنية التي تتحقق من خلال الصلة الدائمة بين المبدع وعمله الروائي. 

 

الرواية اليمنية بين مفترق الطرق
طه حسين الحضرمي (جامعة حضرموت)

ما زال يتقوقع في دواخلنا السؤال المرعب الذي أطلقه طه حسين  منذ ثمانين عاماً: هل لليمن شعراء؟ ليتولد من دواخلنا سؤال أشد عتواً من سابقه: هل لليمن روائيون؟ من المؤكد أننا سنسمع صليل السيوف وسنرى بريقها بمواجهات عنترية زال أوانها. والحق يقتضي منا أن نتأمل السؤال لا السائل أياً كان جنسه أو نوعه أو انتماؤه العرقي. أمامنا مائة رواية يمنية ونيف، ما بين مطبوع ومنشور في دوريات أنتجت خلال سبعين عاماً، لنضع أمامها هذه التساؤلات:

 - كيف تشكّل المنجز الإبداعي في هذه الروايات؟

 - وما الموقع الذي احتله هذا المنجز الإبداعي في إطار السرديات العربية؟

 - وهل أفاد الروائي اليمني من المنجزات الإبداعية في هذا الجنس الإبداعي عالمياً وعربياً من خلال تشكّل أبرز اتجاهاته التقنية؟

 أراني متخوفاً من الخوض في غمار هذه اللجج؛ ولكن لا بأس من المغامرة، فمن خلال اطلاعي على الببلوجرافيا التي أعدها  القاص والناقد زيد الفقيه، والدراسة التي أعدها القاص والناقد سامي الشاطبي، عن الرواية اليمنية خلال سبعين عاماً، وجدت أنني قد قرأت ما يقرب من أربعين  في المائة من هذه الروايات على امتداد يحتوي الأزمنة التي كتبت فيها من ثلاثينيات القرن الماضي حتى مستهل الألفية الثالثة، مما يجعلني أتجرأ مجازفاً للخوض في غمار هذه التساؤلات.

 من المؤكد أن الإرهاصات الأولى لتبلور الرواية اليمنية كانت متعثرة من الناحية التقنية، والأنكأ من ذلك أنها كانت أقرب إلى السذاجة في مضامينها؛ لهذا كان المنجز الإبداعي في عموم الرواية اليمنية يمشي ببطء شديد لا يتناسب مع الجنس الروائي الذي يتوهج في الأزمات ويتجلى في المنعطفات التاريخية التي مرّ بها الشعب اليمني خلال المدة المذكورة آنفاً. فمن هنا كان توهجها في المتن الروائي العربي خافتاً إلا من نماذج تشكّل شذوذاً عن القاعدة. ونضرب أمثلة  من المكثرين منهم على سبيل الذكر لا الحصر، من مثل محمد عبد الولي وزيد مطيع دماج ووجدي الأهدل. وهذا الأمر يعلل الخلل في كيفية إنتاج الدلالة، يدعمه تقوقع مارسه المبدع اليمني حول ذاته باستمتاع مبالغ فيه وكأنه بمعزل عن الثورة التقنية التي مارسها الروائيون العرب بتحدٍّ سافر أمام التحديات التي تضاهي ثورة المعلومات في العصر الحديث. فمن هنا برزت أسماء عربية ذات خصوصية تسعى إلى العالمية بخطى حثيثة. لن أتحدث هنا عن نجيب محفوظ فهو نجم ثاقب، ولن أثنّي بالغيطاني فهو كوكب درّي، ولن أثلث بعبد المجيد الربيعي وحنا مينة وإلياس خوري وعبد الرحمن منيف وغيرهم من الأفذاذ؛ بيد أنني سألامس بيديّ هاتين كواكب سيارة ليست ببعيدة عنا من مثل إبراهيم الكوني الذي يشتعل الإبداع من خلال متونه المبهرة، أوَليست بيئته قريبة من بيئتنا؟ فمن أين إذن تولّد هذا التوهج؟ وتركي الحمد الذي يحترق بآلام الإبداع ويستمتع بوخزاته، إنها معاناة الإبداع والصبر على حرائقها والتسكع بين أروقة التجريب والإفادة من أساليبه المتوترة. إنه زمن الرواية وإن أبى مَن أبى. زمن البحث عن أسلوبية خاصة للرواية تتجاوز إطار الجملة إلى ما يمكن تسميته ببلاغة الخطاب كلّاً متكاملاً، وشعرية متفردة تتجلى في متونها حاملة على كواهلها أقصى إمكانيات الانزياح. أتراني مبالغاً في كل ما ذهبت إليه؟ أتمنى أن أكون كذلك! بيد أنني أرنو إلى إبداع روائي يشعّ من خلاله اليمن كما كان في زاهر أزمانه ممتطياً ركائب الإبداع بمعية امرئ القيس ووضاح اليمن.

 

الرواية اليمنية ومحاولات التجديد
أحمد ناجي أحمد (اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين)

 الرواية اليمنية كجنس أدبي خضعت في تطورها الخاص من مرحلة البدايات إلى الاكتمال والنضج، لعامل الزمن؛ حيث وفَّر عامل الزمن أمام المبدعين فرصة واسعة لتحقيق الاستفادة من ازدهار الفن الروائي عربياً وعالمياً، مع العلم أن البدايات الأولى للرواية ونشوئها في اليمن تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.

  حيث يذهب الكثير من الباحثين إلى القول بأن رواية "سعيد" لمحمد علي لقمان المنشورة في عام 1939 هي أول عمل روائي يمني. وربما ذهب البعض إلى غير ذلك، ولكن المؤكد أن العقد الرابع من القرن الماضي يمثل البدايات الأولى لنشوء الفن الروائي في اليمن. وفي عام 1948 ألَّف الروائي عبد الله محمد الطيب أرسلان، روايته التي تحمل عنوان "يوميات مبرشت". وفي كل الأحوال فإن المسافة بين هذين العملين الروائيين تصل إلى عشر سنوات، ولكنهما على الرغم من عدم بلوغهما مرحلة النضج الفني إلا أنهما يعكسان رؤية جديدة للمبدع في معالجة الإشكالات الجديدة للواقع في الجزء الجنوبي من الوطن، وعلى وجه التحديد في عدن إبان فترة الاحتلال البريطاني.

  حيث نرى "سعيد" نموذجاً للشخصية المتميزة والمستوعبة لروح العصر. ونرى العامل الفهلوي الذي يرغب في جمع المال بالطرق غير المشروعة هو بطل رواية "يوميات مبرشت"، هذا العامل يمارس التهريب. إذن نحن أمام لحظة متطورة: هناك تجارة وهناك عمال وهناك من يمارس التهريب.

 أعتقد أن نضج الواقع واستفادة الفنان من هذا النضج قد جعل مرحلة البدايات الفنية للرواية منفتحة على موضوعات جديدة. فهذه الروايات وإن كانت غير مكتملة على صعيد التقنية الفنية، إلا أن موضوعاتها جديرة بالاهتمام والمناقشة.

 وقد احتلت القضية الوطنية نصيباً وافراً من الإصدارات الروائية في مرحلة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. ولم تكن الرواية بمعزل عن الانخراط في النضال من أجل الانتقال بالوطن إلى الأفضل. وقد مثَّل الشهيد محمد محمود الزبيري في روايته "مأساة واق الواق" أحد النماذج التي وظَّفت فن الرواية في خدمة قيم الثورة والتغيير في اليمن والانتقال بالواقع إلى الأفضل.

  على أن إبداعات الروائييْن اليمينييْن الكبيريْن: محمد عبد الولي، وزيد مطيع دماج، قد أتاحت للعمل الروائي اليمني دخول مرحلة التقنية المتميزة بنجاح. ولا غرابة في أن اتحاد الأدباء والكتَّاب العرب قد اختار رواية "الرهينة" لزيد مطيع دماج، ورواية "صنعاء مدينة مفتوحة" لمحمد عبد الولي، من بين أفضل الأعمال الروائية العربية. وقد حضيت هاتان الروايتان بالترجمة إلى اللغات الأخرى. وتعتبر رواية "الرهينة" من بين أكثر الروايات اليمنية شهرة والأكثر ترجمة إلى اللغات الحية في العالم.

 وقد مثلت مرحلة التسعينيات المرحلة الأكثر ازدهاراً على صعيد النشر. ورافق هذا التوسع في ميدان النشر تطور على صعيد التقنية واللغة الروائية. إن إسهامات وجدي الأهدل، وحبيب سروري، والغربي عمران، ونادية الكوكباني، ونبيلة الزبير، وغيرهم ممن لم تحضرني أسماؤهم في هذه العجالة، هي الأبرز في قائمة الإصدارات اليمنية.

 وأتفق مع ما ذهب إليه الباحث اليمني إبراهيم أبو طالب من أن مرحلة التجديد في الفن الروائي اليمني هي مرحلة التسعينيات من القرن الماضي وما بعدها، حيث يقول: "وهي مرحلة التسعينيات وما بعدها حتى بدايات هذا القرن، وإن كان التجديد -في هذه المرحلة- محسوباً ومحدوداً في بعض محاولات القاصين الشباب، ولم يتحول إلى ظاهرة غالبة، حتى نكون أكثر دقة في هذا التصنيف، وذلك فيما تبرزه بعض كتابات نبيلة الزبير في روايتها "إنه جسدي" 2000، ووجدي الأهدل في «قوارب جبلية» و«الومضات الأخيرة في سبأ» 2002 وحبيب عبدالرب سروري في روايتيه «الملكة المغدورة» 1999 و«دملان» 2002، وعبدالناصر مجلي في «رجال الثلج» 2000، وهند هيثم في «ملوك لسماء الأحلام والأماني» و«حرب الخشب» 2003، وسامي الشاطبي في «كائنات خربة» و«للأمل مواسم أخرى» 2003.

 محاولات التجديد هذه تأتي على مستوى اللغة والانشغالات بالشكل والمضمون في محاولة الخروج عن التراتبية الموروثة من بداية ووسط ونهاية، ومن عقدة وحل... إلخ من تلك التقنيات. وتأتي محاولاتهم في التجريب على السرد والرؤية والتشكيل اللغوي لهذا الجنس الأدبي العميق" (1).

 على أن دور المرأة في الإبداع الروائي يعتبر أحد ملامح التطور الثقافي على المستوى الاجتماعي؛ إذ أسهم انتشار التعليم في هذا التطور واتساع قاعدة المبدعين في مجال الفن الروائي. وأتفق مع ما ذهب إليه الدكتور عبد الحكيم محمد صالح باقيس في قوله: "ويرجع تاريخ أول رواية يمنية كتبتها امرأة إلى مطلع السبعينيات من القرن الفائت عندما نشرت رمزية عباس الإرياني رواية "ضحية الجشع"، وتعد قيمة هذه الرواية التاريخية أكبر من قيمتها الفنية حسب رأي كثير من الباحثين. ومنذ السبعينيات طال صمت النساء في كتابة الرواية –وإن لم يطل كثيراً في مجالات الإبداع الأخرى– حتى جاء عقد التسعينيات الذي مثل البداية الحقيقية لميلاد الرواية النسوية فيما كتبته السيدة عزيزة عبد الله من روايات: "أحلام نبيلة" 1997، "أركنها الفقيه" 1998، "طيف ولاية" 1998، ثم تلتها "تهمة وفاء" عام 2002، و"عرس الوالد" عام 2004. وفي عام2000 نشرت نبيلة الزبير روايتها الذائعة "إنه جسدي". ومع بداية الألفية الجديدة توالت بعض الجهود الروائية النسوية، فقد كتبت نجلاء العمري "ذاكرة لا تشيخ"، وهند هيثم "ملوك"، وكل منهما الرواية الأولى لكلتيهما. كما بدأت بعض الاهتمامات النقدية تواكب الإبداع النسوي وتفرد له الدراسات الخاصة"(2).

 الهامش:
(1) إبراهيم أبو طالب, «الخطاب الروائي اليمني -المسيرة والمضمون»، السبت 4 نوفمبر 2006.

(2) د/عبد الحكيم محمد صالح باقيس, «الخطاب الروائي النسوي اليمني». 

 

نحو تأصيل الرواية اليمنية
 وهبية صبرة (مركز الدراسات والبحوث اليمني)

لا تحاول هذه الكلمات أو الورقة القصيرة أن تؤصل أو تقدم تاريخاً متسعاً للذاكرة التاريخية لنشأة الرواية اليمنية، قدر محاولتها التعريف بالمحطات التاريخية لهذه النشأة من خلال البدايات الرائدة للرواية، تاركة التأصيل التاريخي لهذه النشأة لقراءة أخرى.

وقبل الحديث عن الرواية اليمنية من المفيد الوقوف على بعض أهم التعريفات التي غدت شائعة كتعريفات للرواية، عند بعض النقاد والمفكرين، والمشتغلين في النقد السردي، وتعتبر إسهاماتهم رائدة في هذا المجال والتي من خلالها نرى اختلافهم في تحديد مفهوم الرواية، الذي ربما يرجع (الاختلاف والتباين) إلى كون الرواية شكلاً غير ثابت، يحاكي الحياة بطريقته الإبداعية الفنية، في اتساق حثيث، كمواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتحولات الذات الفردية وعلاقتها بالتفاصيل العديدة المحيطة بها في هذا المجال.

والتعريفات النقدية المتباينة للرواية إنما تعكس الأدوات الفكرية والنقدية لهؤلاء المفكرين (معتقداتهم، ومنطلقاتهم المنهجية...). وعلى ذلك نرى فولدمان يذهب إلى اعتبار «الرواية قصة بحث عن قيم أصيلة بصيغة متدهورة، وفي مجتمع متدهور أساساً». أما هيجل، ولوكاتش فقد ربطا بين الرواية وظهور الطبقة البرجوازية. ويذهب باخين إلى العكس منهما، حيث يرى أن الرواية نوع أدبي ووعي ينطق باسم الطبقات الدينية. أما وات فيرى أن الرواية شكل أدبي يعبر عن تجربة فردية، وهي محاولة للتأسيس الفردي/ الذاتي للكتابة، وعزلها عن شرطها الموضوعي والتاريخي. وجميعها إسهامات نظرية تراكمت في مسيرة الفكر النقدي الروائي. وجميعها في تقديري صبت في خدمة التأسيس والتأصيل، مع غيرها، في تحديد الأطر العامة لمفهوم الرواية، كلاً من وجهة نظره.

وقد ظهر هذا المصطلح (رواية) لأول مرة في انجلترا في القرن الـ16.

 ومن خلال ما سبق ذكره من التعريفات يمكننا القول، إن الرواية عمل فني يجسد الواقع في تفاصيله الذاتية والهامشية والأصلية، وينطلق منه ويواكب المتغيرات الحاصلة في المجتمع، ويعبر عن تجربة فردية ذاتية، ولكنها تتحرك وتنتج ذاتها في علاقة مع الآخر وفي سياق عملية اجتماعية ثقافية، حيث ينطلق الروائي في الأساس من المدينة؛ فالرواية هي فن المدينة بامتياز.

فالعمل الروائي مهما اختلفت تعريفاته المشار إليها سابقاً، هو تجربة إبداعية فردية ذاتية واجتماعية وثقافية. ولكل تجربة خصوصيتها، مهما تشاركت الذات المبدعة مع غيرها في الزمان والمكان. وعلى ذلك يمكن القول إن الرواية شكل غير ثابت، أو هي شكل إبداعي سردي مفتوح يمكنه أن يحتوي في داخله أجناساً أخرى من الإبداع: شعراً، قصة، حكاية...

إذاً، ليس هناك قواعد أو شروط محددة وثابتة يمكن من خلالها أن نحكم على أن هذا العمل الروائي مكتمل الشروط فهو رواية أو غير رواية.

وإذا ما أردنا أن نقف على واقع الرواية اليمنية وظروف نشأتها فلا يمكننا إغفال الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي نشأت فيه. فقد كان التخلف يسيطر على كل اليمن، وكذلك الأمية التي كان يعاني منها أغلب سكان اليمن، وحالة الفقر والعزلة التي فرضت على شمال اليمن من قبل آل حميد الدين. أما الشطر الجنوبي من الوطن فيمكننا القول إنه كان أحسن حالاً ولو على الصعيد الاجتماعي والتعليمي، حيث كان لدخول المطبعة وظهور بعض الصحف اليومية والأسبوعية، والنوادي الثقافية والاجتماعية، أثره في ظهور أو تشكل وعي جديد، على الأقل في مدينة عدن.

خلال هذه الفترة وفي مدينة عدن ظهرت رواية «سعيد» (1939) لـ محمد لقمان والتي تعتبر أول رواية يمنية، ثم رواية «يوميات مبرشت» للطيب أرسلان (1948)، «حصان العربة» لـ علي محمد عبده (1959)، «مأساة واق الواق» لـ الزبيري (1960)، وغيرها. ويمكننا أن نعزو ظهور الرواية في هذه المرحلة إلى تجارب فردية لها خصوصياتها وظروف نشأتها.

وقد جسدت روايات هذه المرحلة صراع اليمني مع القوى الاستعمارية في جنوب اليمن، وحكم الأئمة في شماله. وهذه التجارب على عفويتها وبساطتها استطاعت أن تجسد ملامح الشخصية اليمنية وطموحها في تغيير الواقع السياسي والاجتماعي.

أما مرحلة السبعينيات فقد مثلها الكثير من الكتّاب الشبان بتجاربهم المتنوعة وثقافتهم المتجددة. وتعتبر مرحلة السبعينيات هي مرحلة ازدهار الرواية اليمنية. ويعتبر محمد عبد الولي، وزيد مطيع دماج، بما قدماه من أعمال قصصية وروائية، أهم كاتبين في هذه المرحلة، وما زالا إلى يومنا يحظيا بالتقدير والاهتمام نفسه من قبل الكثير من النقاد والمفكرين داخل اليمن وخارجه. وقد ترجمت الكثير من أعمالهما إلى لغاتٍ عدة. 

ولا نستطيع أن نغفل كُتّاباً آخرين لهم بصماتهم ولهم إسهاماتهم في مجال الرواية، ومنهم على سبيل المثال: محمد ضبير، حسين مسيبلي، حسين سالم باصديق، ومحمود صغيري... وروايات هذه المرحلة تعتبر أكثر نضجاً وأكثر عمقاً في تحليل الواقع ونقده، ومحاولة إبراز مواطن الخلل، كما ناقشت قضايا هامة عانى منها الإنسان اليمني وما زال يعاني منها إلى يومنا هذا، أهمها قضية الهجرة والمهاجرين والفقر. ومحمد عبدالولي هو من اهتم بهذه القضايا بشكل أساسي ومتميز. وقد اعتمد كُتّاب هذه المرحلة الأسلوب الواقعي الانتقادي. وقد شكلت قفزة نوعية في بنية الشكل والمضمون، فإذا كانت الريادة الأولى للرواية ارتبطت تحديداً باسم محمد علي لقمان ورواية «سعيد»، فإن مرحلة التأصيل والتأسيس الإبداعي الحديث للرواية اليمنية إنما أجدها مكتملة وناجزة مع الأعمال الروائية لـ محمد عبدالولي «يموتون غرباء» و»صنعاء مدينة مفتوحة». وفي تقديري أنه لولا رحيله المبكر والمباغت لكان واحداً من الأسماء العربية والعالمية الكبيرة. ومن بعده يأتي اسم الروائي زيد دماج وآخرين من الشبان الذين اكتملت صورتهم الروائية في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات. أما مرحلة التسعينيات والممتدة إلى يومنا، فقد ظهر خلال هذه الفترة الكثير من الشبان، والأهم عدد لا يستهان به من الكاتبات المتميزات. وكتاب هذه المرحلة ربما يكون قد توفر لهم الكثير من الإمكانات التي لم تكن متاحة أو متوفرة لسابقيهم، من حيث:

- سهولة التواصل مع الثقافات الأخرى.

- ظهور تقنيات متطورة تمكنهم من الإطلاع على تجارب الآخرين بيسر وسهولة.

- الترجمة الواسعة خاصة للرواية العالمية. وقد حاول كُتّاب هذه المرحلة، بما تيسر لهم من معارف، الخروج على الشكل التقليدي للرواية، والتمرد على بعض التقنيات. أو بالأصح حاولوا التجديد في شكل الرواية ومضمونها بما يتفق مع همومهم وهموم وقضايا جيلهم. وهذا لا يعني أن كتاب هذه المرحلة على مستوى واحد من الثقافة والقدرة على تمثل الواقع وتحليله.

بالمقابل هل استطاع كتاب هذه المرحلة أن يطوروا فن الرواية شكلاً ومضموناً، وأن يواكبوا المتغيرات السريعة والأحداث المتلاحقة في الواقع اليمني؟ أم ما زالت روايات الجيل السابق لهم، خاصة

جيل/ كتاب السبعينيات والثمانينيات أكثر نضجاً وعمقاً في تحليل الواقع ومشاكله؟

الإجابة ليست سهلة؛ فلا بد من دراسة جادة لمجمل الأعمال الروائية التي ظهرت خلال هذه المرحلة ليكون تقييمنا علمياً ودقيقاً وحتى لا نسقط في فخ الأحكام الجاهزة والانطباعية والتعميمات التي يمكن أن تقول كل شيء عدا ما هو مطلوب منها.