العدد  الخامس - صيف 2008م

   
 

سؤال العدد
 

تعثر المسرح في اليمن!!  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

في الوقت الذي تشهد اليمن نهوضاً واضحاً وتقدماً مطّرداً في الفنون المختلفة: شعراً وسرداً وتشكيلاً، يعاني المسرح أزمة خانقة لا تخفى مظاهرها وأسبابها وتداعياتها على المتابعين والمهتمين.   ولتفحص تلك الأزمة ومعالجاتها تكرس "غيمان" سؤال هذا العدد لما يعانيه المسرح من مشكلات ومعوقات، سواء اتصلت بالكتابة للمسرح أم بالأداء والتمثيل والدراسة المسرحية والمسارح نفسها.

 

 

لا مبررات لاختفاء المسرح
محمد الشرفي

لم أجد أي مبرر معقول، أو سبب مقبول لتخلف المسرح في بلادنا، أو موته، ولم أسمع أحداً ممن يهمهم الأمر يقول أن لا فائدة ولا جدوى من المسرح، وكأن الجميع ينتظر قراراً سياسياً، وأوامر من القيادة السياسية بتنشيط المسرح، وإخراجه من دهاليز موته أو مواته، ومسح الغبار عن وجهه وإردافه، وإعادة الحياة إليه.

الكوادر المسرحية من مخرجين ومهندسي ديكور وإضاءة ومكياج وممثلين وممثلات، وكتَّاب مسرحيين ونصوص مسرحية كلها موجودة وبالعشرات خاصة بعد الوحدة المباركة، وكذلك الجمهور المشاهد موجود، وأكد وجوده في تجاربنا المسرحية السابقة وكذلك الإمكانيات المادية موجودة أكثر بكثير مما كانت في الماضي، واعتقد أن القيادة السياسية لن تبخل في توفير أي إمكانيات مالية أو مادية لإنشاء مسارح وطنية، أو صالات عرض مسرحية مثلما أنها لم تبخل في إنشاء مدارس ابتدائية، ومتوسطة وثانوية وجامعات ومعاهد، وهي تعلم أن المسرح لا يقل أهمية من المدرسة، والجامعة والمعهد، ومراكز الأيتام. وكلنا يدري، ويعرف أن الدول المتقدمة في مختلف أنحاء العالم صانعة وسائل الاتصالات وآليات الفرجة الحديثة من سينما وتلفزيون، وفيديو، وانترنت لم تقل لا فائدة من المسرح ولم تلغه، ولم تتهاون به، بل شجعته أو ظلت تشجعه حتى اليوم، لأنه يظل هو اللقاء الحميمي الدافئ بين الجمهور والفكر، وبين الممثل من لحم ودم والمشاهد دون حواجز ولا موانع.

ولا أعتقد أن فكرة أهمية المسرح غائبة أو غابت عن أذهان المسؤولين في وزارة الثقافة والإعلام وإدارة الإذاعة والتلفزيون لأنه –أي المسرح- سيكون الرافد الأول والأهم بإعادة الدرامية إما بشكل مسرحي غنائي، أو أوبرا أو أوبريت، وسوف يخفف من الاعتماد على المواد الدرامية المستوردة التي قد لا تلائم أو تتلائم مع الإطار العام للسياسة الثقافية العامة، أو لا تعالج مشاكل محلية.

والكل يعرف ويعلم علم اليقين أن المجتمع في بلادنا يحتاج إلى كثير من وسائل التثقيف والترفيه والمتعة يملأ بها فراغ ساعاته الطويلة التي قد يقضيها فيما لا فائدة منها أو جدوى، أو فيما قد تستهلكه جسداً ومالاً، وتضيعه أحلاماً ومستقبلاً.

إن مناقشة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية عن طريق الفن، والأدب المسرحي الملتزم بقوانين الكتابة الدرامية الجادة، لهي أفضل وأجمل من مناقشتها على صفحات الصحف الحزبية والأهلية، وأعمق أثراً وتأثيراً.

إن المسرحية التراجيدية والكوميدية لدى الكاتب المسرحي الجاد تقدم للناس فكراً وأدباً ومتعة، وتخلق مجتمعاً مع الزمن متماسكاً في سلوكه، وعمله، وأخلاقياته. واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

 

ليست العلة في المسرحيين
 عمر عبدالله صالح

إن اليمن، كبقية شقيقاتها البلدان العربية، لم تتعرف على المسرح ذي الطابع الأوروبي إلاَّ في بداية القرن العشرين. وهي ما زالت تعيش مرحلة تكوين مسرحها الوطني المحترف.

ويعتبر المسرح اليمني الجديد جزءاً لا يتجزأ من المسرح العربي، الذي لم يتكون من فراغ، وإنما ساعد على بلورته توفر عناصره في الأدب العربي العظيم، وفلكلوره الفني المتمثل بالأساطير والحكايات الشعبية، والنكات، والأمثال، والألغاز، والاحتفالات الشعبية بالمناسبات المختلفة، والأهازيج، والزوامل، والموسيقى المتنوعة، وفنون المحاكاة، والحكواتي (الراوي)، والكوميديا الشعبية المرتجلة، ومسرح خيال الظل، والعرائس، وكل ما تحفل به البلدان العربية من فنون شعبية.

ومن المعروف أن الحضارة اليمنية تزخر بتراث ثقافي وفكري عميق، وهذا مما يبرهن على أن الإنسان اليمني يمتلك كنـزاً من الملكات الروحية والفكرية التي تمتد جذورها من أغوار تاريخنا الإنساني وتتواصل معه وبه مدى الحياة.

فمنذ أن عرفت اليمن فن المسرح في عام 1904، عندما قدمت فرقة هندية برئاسة جملت شاه، عرضاً مسرحياً في مدينة عدن، ومن لحظة تفهم المدرسين التربويين الأوائل لأهمية المسرح في النشاط الثقافي المدرسي، بدأوا بتفعيله في عام 1910 منبعثاً من ولعهم وشغفهم به آنذاك... ومنذ أن وجد المسرح لذاته مساحة في البرامج التلفزيونية اليمنية، وكان يتواصل مع جمهوره من خلال مسرح التلفزيون الذي كانت تقدمه الفرق الأهلية مباشرة، وبدون أي تسجيل مسبق ابتداءً من 11سبتمبر 1964.

وعلى الرغم من اهتمام الحكومة اليمنية بتأسيس قسم المسرح بمعهد الفنون الجميلة بعدن عام 1976، الذي أهّل كوادر مختلفة في مجال المسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، ولكنه للأسف الشديد والمؤلم توقف وانتهى نشاطه. وقيام الحكومة أيضاً بإصدار قرار تشكيل فرقتي المسرح الوطني في عدن وصنعاء في يوليو 1976 و31 مارس 1977.

وعند تتبع مجمل العروض المسرحية التي قدمت معظمها لمرة واحدة ولفترات زمنية متباعدة، والسير ببطء شديد وراء المهرجانات المسرحية التي كان أولها في 5 يناير 1974، ويتواصل نبضها الضعيف، ويتعثر حتى المهرجان الثالث للمسرح اليمني الذي أطلق عليه تسمية "مهرجانات علي أحمد باكثير" في 26 سبتمبر 1995.

وعند التأمل في الكم الكبير من المسرحيات التي قدمها المسرح اليمني ومشاركته النادرة في مهرجانات المسرح التجريبي، ومراجعة اللقاءات والندوات المسرحية للمهتمين بالمسرح اليمني، يتبين لنا أن اليمن لم تستطع أن تؤسس وتكوِّن مسرحاً له أصول وتقاليد يمنية.

لماذا؟... ليست العلة في المسرحيين، الذين اكتسبوا تخصصاتهم المسرحية في الدول العربية الشقيقة والدول الأجنبية الصديقة، فقد أهَّلتهم الدولة بمختلف التخصصات المسرحية، من إخراج، وتمثيل، وتأليف درامي وفني وتقني في مجال المسرح؛ لكنها -للأسف- لم توفر لهم خشبة مسرح تنتمي لهم وتدفعهم إلى ممارسة تخصصاتهم المسرحية بشكل دائم وبدون انقطاع؛ فهي (أقصد خشبة المسرح) الصومعة المقدسة التي تجمعهم في محراب الفن، وتنمي إبداعاتهم، وتخلق فيما بينهم التنافس الإبداعي الشريف الذي يرفع من مستوى نتاجاتهم الفنية، وكذا تعود المشاهد على ارتياد المسرح بشكل مستمر.

إذاً، السبب هو غياب مبنى المسرح وخشبته! وكما هو بديهي، ومعروف لدى الفنان والمثقف أن الفن المسرحي يختلف عن بقية الفنون المكتوبة والتعبيرية. فالأديب بإمكانه أن يكتب في خلوته وينشر إبداعاته. والرسام يستطيع أن يرسم بمفرده ويعرض لوحاته، وهذا ينطبق على تجسدها لوحدها؛ لكن الفن المسرحي لا يكتمل ولا يستوي إلاَّ بكل هذه الفنون، فهو يجمعها ويوحدها في عرضه المسرحي، لأنه فن جماعي، ولا يمكن إظهار وعرض هذا المولود الإبداعي المشترك إلاَّ على خشبة المسرح، التي يتواجد فيها العرض المسرحي المستقيم على عنصرين أساسيين وهما: الممثل، والجمهور.

فوراء الممثل يقف المؤلف المسرحي الذي يقدم صورته عن الحياة ورؤاه لها، في نص يحوي المقومات الدرامية العاطفية والفكرية والإنسانية، والمخرج الذي يقوم بتفسير وتجسيد العرض ونقل رؤيته الفكرية والفنية والجمالية بأسلوب ممتع وشيِّق من خلال النص والتقنيات المسرحية الفنية الأخرى.

ويقف وراء الممثل أيضاً الراقصون والموسيقيون والرسامون وفنيو الديكور والإضاءة والصوت والاكسسوار والملابس والمكياج، وكل التقنيات الضرورية واللازمة للعرض المسرحي.

أما الأساس الثاني للعرض المسرحي فهو: الفرجة أو المشاهدة، التي يكون قوامها الجمهور، الذي يجعل أداء العرض حياً ويدخله في صميم النشاط الإنساني، ويصبح المعبر عن حياة المجتمع، ويعكس همومه ومشكلاته وصعوباته وأحزانه وتقاليده وتراثه وأفراحه ومسراته...

فالمسرح -إذاً- هو تعبير اجتماعي حي. وهو مؤسسة ثقافية متجددة جامعة لكل أمة، ولسان حالها، وبه يتبين النهوض الفكري والثقافي والتقدم الاجتماعي والتحرر السياسي للمجتمع. لذا على الدولة أن توليه الدعم والرعاية، لاعتباره من أهم المنابع الثقافية لتوعية المجتمع، ودعمه مادياً ومعنوياً، مساواة بالوزارات الخدمية مثل: التربية والتعليم، والشباب والرياضة، ووزارة الصحة، وكذا الاهتمام به كالاهتمام بالصحف الوطنية مثل: "الثورة"، "14 أكتوبر"، "26سبتمبر"...

إن المسرح يعاني من هموم ومشاكل كثيرة تعرقل سير نشاطه، أهمها وأبرزها: عاملا البيروقراطية الإدارية، وعدم توفر الاعتماد المالي لخدمته. وللدلالة على ذلك فإن الميزانية العامة للدولة بالنسبة لوزارة الثقافة لا يوجد فيها بند للنشاط الثقافي والفني، الأمر الذي أدى إلى شح النشاط المسرحي، الذي ينبغي أن يلعب دوراً فعالاً في توظيف الفلكلور اليمني والعربي بشتى أنواعه المادية والمعنوية والعقلية والروحية في المسرحيات والدراما التلفزيونية.

إن المشاركة والتعايش الحي بين الممثل والجمهور، اللذين يشكلان العرض المسرحي، له أثره المباشر على عقول الناس وأفكارهم ونشاطهم ورؤاهم عن الحياة والواقع المعيشي وما يدور في العالم عن الهم السياسي والاقتصادي الوطني. وهذا دليل علمي يؤكد ضرورة المسرح كأداة تربوية تعليمية وثقافية يحتاج لها المجتمع اليمني ليتفاعل معها بكل مقوماتها لخلق الإنسان اليمني العربي الجديد القادر على تلبية متطلبات الحياة المعاصرة للقرن الواحد والعشرين في عصر العولمة والحوارات الثقافية بين الحضارات الإنسانية، والتطور التكنولوجي لشبكة الاتصالات. لذا ينبغي إيجاد خشبة مسرح للفنانين المسرحيين ليمارسوا إبداعاتهم فيها. فهي (أقصد خشبة المسرح) تشكل لهم ورشة دائمة لإجراء "بروفاتهم" وتدريباتهم المسرحية فيها باستمرار.

فدوام الفنان المسرحي يومياً مرتبط ارتباطاً وثيقاً بخشبة المسرح. فهو يستمد وظيفته ومهامه منها، ويبني عليها تطلعاته ونموه وتطوره، فهي له كالهواء وكالماء، لا يستطيع العيش والعمل إلاّ بها، فكيف يكون إذاً حال إبداعه بدونها؟! فهو بدونها يصبح عاطلاً، وبحرمانه منها تُنْحر في ذاته كل المهارات والملكات الإبداعية التي اكتسبها.

فوجود مسرح وخشبته يعني تعوُّد جمهور الممثل على ارتيادها بشكل دائم، ويعني أيضاً استمرارية العروض المسرحية وتنوع "ربورتوارها" (برنامج عروضها) بين النصوص المحلية، ونصوص الموروث الشعبي، ونصوص المسرح العربي والعالمي، بما يتفق مع التوجه الفكري العام للبيئة اليمنية العربية.

هذه الاستمرارية ستمنح الفنان المسرحي اليمني آفاقاً جديدة وقدرات فنية رائعة تمكنه من النهل من ينبوع الأدب العربي، وتفجير طاقاته للكشف عن مكنون الموروث الثقافي للشعب اليمني، ويمد خط التواصل بينه وبين جمهوره، ويصبح مشهوراً وموثوقاً لديه، لأنه يتواصل معه بسيل دافق من الفن والإبداع.

وستشجع استمرارية العروض المسرحية التأليف الدرامي وحركة النقد البنَّاء للأدب والمسرح، وستؤدي أيضاً إلى تراكم خبرات متينة ورصينة في التقنيات المسرحية، كفن الديكور والملابس والإضاءة والأكسسوار والمكياج، وما إلى ذلك. وستتيح للفنان المسرحي أيضاً أن يعرض تاريخ نشاطه المسرحي عبر تصاميم الأزياء التاريخية "والاكسكيزات" (تصاميم الديكورات)، والصور الفوتوغرافية وأشرطة الفيديو والسينما، والمطبوعات والمنشورات، وستخلق استمرارية العروض المسرحية اليمنية.

لذا حان الوقت لأن نفكر سوياً لإيجاد خشبات مسارح في المدن الكبيرة للجمهورية اليمنية لتنشيط حركة المسرح اليمني. ولن يتأتى ذلك إلاَّ متى اهتمت بها الدولة وساعدتها على النهوض.

فبدون وجود خشبة مسرح ثابتة للفنان المسرحي لا يمكن خلق حركة مسرحية دائمة ومستمرة، وبدونها لا يمكن أن تتراكم تقاليد وعادات مسرحية يمنية.

فهل تبادر الجهات المعنية في الدولة لإيجاد خشبة مسرح للفنان المسرحي اليمني؟  

 

المسرح حلم أو خيال
محمد عبدالوكيل جازم

ترد أقدم إشارة إلى وجود فن مسرحي يؤديه البشر في إحدى البلاد العربية (مصر) في كتاب الرحّالة كارستين نيبور، الذي وصل الإسكندرية في 6 سبتمبر 1761 ومكث في مصر سنوات طويلة يختلط بسكانها بين مصريين وأوربيين. وصف نيبور عروض الشوارع وصفاً لا بأس به من حيث الدقة. أشار أولاً إلى "فن الغواربي، ثم انتقل إلى فنيّ الأراجوز وخيال الظل". ما سبق ورد في كتاب علي الراعي، "المسرح في الوطن العربي". دخل المسرح إلى بلادنا في بداية القرن العشرين عبر فرقة هندية وصلت عدن في تلك الفترة. وتطور خلال عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات على أيدي العديد من الفرق. إلا أنه ومع حلول الثورة اليمنية أصبح المسرح مدرسياً، بالتحديد ظهر في مدارس أرياف تعز حيث نشط هناك، ثم انتقل إلى المدن الرئيسية: صنعاء، تعز، والحديدة. ومع التقلبات السياسية، التي حدثت بعد الثورة، بدأ يضمحل، ووصل به الأمر حدّ التلاشي في هذه الأثناء. كان المسرح يشكل النجم الساطع، والحدث الأكثر أهمية في حياة الجماهير. واكب المسرح قيام الثورة العربية، وقام بالتنفيس عن الشعوب، كما عبّر عن الحرية والأمل والمستقبل والحياة... والمسرح صورة حقيقية، واضحة، طازجة، يستطيع الشعب من خلالها معرفة: أين يقف من هذا العالم؟ أين يقف هو من قضاياه وقضايا العالم؟ إنه مجسّ دقيق لقراءة واقع الشعب. ولعل السلطات الطبيعية دائماً تعرف أخطاءها من "ترمومتر" المسرح، وكذلك قدرها وصورتها الحقيقية، ومقدار التطور ومقدار التدهور ومقدار الغضب والرضى... المسرح يحتضن الهموم الحقيقية ويعرضها فوق صدره مثلما يفعل الجريح بجروحه الخارجة على الجسد. يفعل المسرح ما يفعله النبي والقائد العظيم والولي الصالح... فهو يقود الناس إلى النصر، ويقودهم على الهزيمة إذا لم يكن ذا قضية.

ونحن في هذه البقعة من الأرض لا ندرس ماذا يعني المسرح، الذي بدأ حوالي 490 ق. م، حيث مثلت أقدم مسرحية بقيت لنا، وهي "الضارعات" لأسخيلوس، أمام جمع من المواطنين الأثينيين. إنه شيء من الحلم، شيء من الخيال الذي نتوق إليه إلى أن يصبح واقعاً. وصلنا إلى محطة لم نعد نمتلك فيها نصاً مسرحياً ولا خشبة مسرح ولا ممثليين ولا جمهوراً.

إن أهم العوامل التي أحبطت دور المسرح هو عدم ارتباطه بالمسرح المدرسي؛ هذا المسرح الذي يعد النواة الحقيقية للمسرح العام والحركة المسرحية ويجدر بي أن أشير هنا إلى أن تعثر التعليم سبب في تعثر المسرح. وأود القول هنا إن وجود المسرح المدرسي كان تعبيراً عن وجود حركة تعليمية، وأن الكثيرين اليوم يتذكرون مسرح المدرسة في الريف اليمني، حين كانت المدرسة أداة تنوير فاعلة، يتفاعل معها أولياء الأمور من الفلاحين والعمال وغيرهم. ما زلت أتذكر حتى هذه الساعة تلك الخلايا المسرحية المثابرة في أريافنا إلى الحد الذي انشغل فيه كل الطلاب وكل المعلمين وكل الإداريين، كان المسرح يومها يحتل أول الاهتمامات والمناشط، وذلك استمر إلى وقت قريب في ثمانينيات القرن الماضي. ومن هناك يتخرج الطالب الموهوب ممثلاً نبيهاً. ومن هناك يتخرج الطالب عليماً بمسائل الإخراج ومسائل التأليف، وجميعهم لا يحتاجون إلا للنـزر اليسير من التأهيل الذي يمكنهم من الاستمرار والمتابعة.

كان ذلك في الستينيات والسبعينيات. بعدها انتكس المسرح، قليلاً قليلاً، ثم تلاشى كأنه السراب.

أزعم اليوم أن بلادنا مليئة بالمؤلفين والممثلين والمخرجين المسرحيين، الذي ينامون تحت أغطية الغبار، وإن حاول بعضهم التأليف أو الإخراج فإن عمله يأتي باهتاً؛ لأنه ليس في إطار حركة مسرحية قوية، وليس في إطار مجتمع مدجن بالثقافة العالية، المتكاملة. من المسؤول إذاً عن غياب مسرح التلفزيون والمسرح المدرسي والمسرح العسكري ومسرح الشارع...؟ ثم لماذا لا تقوم المؤسسات العامة بدورها في عمل بنية تحتية تؤسس لقيام مسرح حديث؛ مسرح مجهز بصالات جديدة، صالات متحركة ومصممة على أحدث التقنيات والصوتيات والإضاءات؟ وإذا كانت المؤسسات العامة لا تستطيع عمل ذلك فلماذا لا تستعين بالقطاعات الخاصة من أجل تنشيط هذا الجنس الأدبي الهام؟ متى سنلبي مثل هذه الصرخة: "أوجدوا لنا صالة حتى في الربع الخالي"، وهي صرخة أطلقها أحد المسرحيين عبر مجلة "رؤى"؟

إن التراجع الكبير، الذي تزامن مع العرض المسرحي، صاحبه تراجع ملحوظ على مستوى إنتاج النص. فهل الأزمة أزمة نص أم أزمة عرض أم أزمة ثقة وعدم انسجام بين المؤسسات المعنية والمتلقي؟

إن كل ذلك يصح على المسرح اليمني، قد يقول قائل: ولكن النص موجود!! هناك المئات من المؤلفين اليمنيين الذين يقدرون على تسويد الملايين من الصفحات!! من أين نجيء بالدعم الوطني للأعمال العظيمة؟ أستطيع الإجابة على ذلك بأن النص الفاعل لا يأتي إلا من خلال عدة أعمال، مئات الأعمال، من خلال حركة دؤوبة متنامية صاعدة ترتقي بالنص المسرحي والإخراج المسرحي والممثل. إذاً فلا مناص من تنشيط الحركة المسرحية برمتها، والحفاظ على سياقها التاريخي دون تراجع، أو انقطاع. عندها فقط نستطيع القول إن لدينا نصاً مسرحياً أو خشبة مسرحية أو... إلخ. ويمكنني الإضافة هنا أن ما يُنتج –إن وجد- ليس مسرحاً بل شبه مسرح. أحياناً تقيم جهة ما مسرحية عادية جداً وليست ذات قضية، لا تحمل بناءً جديداً في الرؤية التجريبية، لأن التجريب حسب بول شاؤول "عملية يتم عبرها تحويل المادة قيد الصوغ إلى عجينة لكل الاحتمالات والتشاكيل". من هنا نجد أنه لا سقف يعلو فوق سقف التجريب؛ "التجريب هو فعل حرية مشعة لا تقنن إلا من خلال مفهوم بنائي أو تشكيلي مسرحي". وإذا كان الأمر كذلك، فإنه ليس لدينا تجريب ولا شيء من ذلك. وإن ما نعتقده مسرحاً سوف يتساقط مع الزمن، لأنه خارج السياق الطبيعي لمسرحية التجريب.

 

إشكالية تدهور المسرح اليمني وسبل التصدي
عبدالعزيز عباس

لم يشهد المسرح اليمني منذ انطلاقته الأولى ركوداً بهذا القدر الذي يعيشه اليوم. بل ويمكن القول إنه شهد تطوراً ملحوظاً في السنوات الثلاثين أو الخمس والثلاثين الماضية، وحتى قيام المهرجان الثالث في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما كان الفهم لدور المسرح موجوداً، وكذلك الاهتمام الواضح بتطويره وتعزيز مكانته في المجتمع، وذلك من خلال البعثات التي كانت ترسل باستمرار إلى الخارج لدراسة الفنون المسرحية المختلفة، إخراجاً وتمثيلاً ونقداً وديكوراً، والتي توقفت تماماً في السنوات الماضية، وسنأتي على ذكر ذلك في السياق. وخلال السنوات العشر المنصرمة بدأ المسرح اليمني ينحو منحى مخيفاً نحو التردي والانحسار المؤلم، رغم أن الكثير منا من المختصين بالشأن المسرحي والمهتمين قد حاول مراراً ومنذ وقت مبكر قرع ناقوس الخطر كي يلفت اهتمام القيادة إلى الإسراع بتدارك المشكلة قبل استفحالها؛ ولكن لا حياة لمن تنادي.

ولعل تحول فهمنا لمدى أهمية المسرح في حياتنا، واهتمامنا بدوره ومكانته، قد أثر تأثيراً مباشراً في ركوده وخفوت دوره.

لقد كانت المهرجانات السنوية التي أقيمت في مطلع تسعينيات القرن الماضي أحد أهم العوامل التي ترتقي بالمسرح إلى مصافٍ أعلى في التقدم والتطور، الذي توقف تماماً منذ آخر مهرجان أُقيم في منتصف التسعينيات. إلى جانب عدد آخر من العوامل الهامة والتي يأتي كل واحد منها مكملاً للآخر، تماماً مثلما هي شرايين الدم؛ فإذا توقفت تلك الشرايين عن ضخ الدم للجسم فحتماً مصيره الموت المحقق. فما هي تلك العوامل؟ وما هو مصيرها؟ وكيف تتم إعادة الروح إليه وتطويره؟! هذا ما سنحاول الحديث عنه باختصار شديد.

فإن كنا قد اتفقنا على ذلك التشبيه بشرايين الدم، نذكر أن القلب، وهو المركز والركيزة الأساسية لضخ وتوزيع الدم إلى الجسم، فإن الفهم والإدراك لأهمية دور ومكانة المسرح في حياتنا، ومن خلاله يأتي اهتمامنا الجاد بتعزيز مكانته ودوره وتطويره من خلال البحث المستمر للثغرات وسدها في وقتها وترميم ما يمكن ترميمه... فهمنا وإدراكنا واهتمامنا هو القلب؛ هكذا يمكننا أن نسميه. وإرسال البعثات إلى الخارج لدراسة الفنون المسرحية بمختلف عناوينها يعتبر أحد العوامل المهمة؛ فهو شريان إذاً! إذاً كيف يمكننا أن نواصل رفد قوام المسرح بهذه التخصصات لتحل محل من نفقده عند الوفاة أو التقاعد أو الشيخوخة أو لأي سبب آخر، وهي كوادر ضرورية لا يمكن العمل بدونها. إذاً، فلماذا توقفنا ولم نعد نرسل تلك البعثات؟!

وعامل آخر لا يقل أهمية عن تلك التي ذكرت: وعي الفرق المسرحية الأهلية، فهي تعتبر شرياناً، أليس كذلك؟! هناك عدد كبير من الفرق المسرحية توقف نشاطها لأسباب كثيرة. فبعد حرب صيف 1994 المؤلمة توقف عدد كبير من الفِرَق المسرحية في المحافظات الجنوبية، وخاصة في محافظة عدن، قلب اليمن النابض. وكانت قبل ذلك تصول وتجول في تنافس مثير للفخر والاعتزاز، ولم تكتف بتقديم أعمالها في الداخل وحسب، بل كانت تمثل اليمن في المهرجانات الخارجية المختلفة، وكانت تنافس الكثير من الفرق المسرحية العربية. توقفت بسبب سطو بعض الجهات على مقراتها؛ تلك المقرات التي كانت كخلايا نحل؛ يجتمعون فيها ويعملون ويتدربون على أعمالهم الفنية المختلفة، قبل انتقالهم إلى المسرح لتقديم عروضهم. وبفقدانها مقراتها تفرق أعضاؤها وتوقف نشاطها. ومن تلك العوامل أيضاً يأتي الاهتمام بمعهد جميل غانم للفنون الجميلة. فغياب ذلك الاهتمام أثر سلباً على مخرجاته ونشاطه العام. وعندما كان الاهتمام منصباً على هذا الصرح، كان عدد الطلبة في تزايد. فعندما ينهي الطالب دراسته، وخاصة في قسم المسرح، يتم توظيفه مباشرة. ولعل تلك الميزة قد جعلت هذا المعهد قبلة للطلبة في الالتحاق. وكان المعهد يرسل أوائل الطلبة إلى الخارج ليكونوا بعد إتمام دراساتهم العليا رافداً لقوام هيئة التدريس كدماء جديدة. إذاً فمعهد الفنون، كما المسرح، يواصل نزيف كوادره الواحد بعد الآخر، دون وجود البديل، فقل نشاط المعهد كثيراً في سنواته الأخيرة. وتلك الكوادر التي كانت ترفد لجسم الحركة الفنية أصبحت تعاني من البطالة بعد التخرج، مثلهم كمثل غيرهم من خريجي كليات الجامعات اليمنية. ونكتفي بهذا القدر من العوامل.

إذاً كيف نعيد الروح إلى تلك الهياكل التي سقطت؟ وكيف يمكننا أن نسرع بترميم ما يمكن ترميمه من تشققات وثغرات في جسم من يسير متعثراً...؟ الأمر في غاية البساطة. ولا أقصد هنا أن يتم إصلاح كل ذلك خلال يوم أو أسبوع أو شهر أو حتى سنة. يمكننا أن ننظر بجدية إلى ما وصلت إليه الحركة المسرحية، وتتبع مسارها جيداً، ثم نبدأ السير نحو الإصلاح خطوة إثر خطوة، لإنقاذ حركتنا المسرحية في نهاية المطاف من المصير الذي نجهل كيف يكون. وما أسوأ أن نصل بمسرحنا إلى ذلك المصير ونحن نملك بأيدينا كل المقومات لإنقاذه أولاً ثم ثباته ثانياً، فتطويره ثالثاً وعاشراً، إذا ما وجدت النية الصادقة وتحويل القول إلى فعل نلمسه ويأتي بنتيجة نلتف جميعاً حولها! والله من وراء المقصد.   

 

 لا نصنع لأنفسنا مواعيد للحوار
 عبدالرقيب الوصابي

المسرح هو الوجه الأخصب من بين بقية وجوه الفنون الأخرى، بل يُعَد في الآن ذاته أنضج الفنون وأولَّها ظهوراً منذ عهد الإغريق، وبالمسرح يقاس مدى رقي المجتمعات أو تعثرها، وأساس المسرح "الحوار" لا السرد أو الغنائية... وعند حديثنا عن المسرح العربي يطل علينا السؤال الأهم، هل ثمة حوارٌ حقيقي في العالم العربي؟

الجواب بالتأكيد لا... ذلك لأن العربي لا يتقن الحوار، وليس مرئياً له، وهو بطبعه متأهبٌ للنـزال مستمتعٌ بالضجيج، وهذا انعكاس لما يتلاءم مع أجواء الحرب والصحراء، والمسرح لا ينمو في الصحراء...

والمسرح من شأنه الاعتناء بتفعيل الحوار بين الشخصيات فهي (تتحاور/ تتلقى) فيما بينها بقصد إيجاد الوسائط المتعددة للتواصل مع الآخر بينما العقليَّة العربية تأبى الحوار والتلقي وترى فيهما قيمتين سلبيتين لهما صلة بالأنثى باعتبارها إناء لتلقِّي ماء الذكر ومحاورة أعضائه الضامرة.

وحينئذ لم نكن يوماً مضطرين لاختراع مواعيد للحوار وذلك لأن البشر لا يكفون عن الكلام، عن تكليم بعضهم بعضاً، هم يتكلمون من الصباح إلى الليل في كل يومٍ من أيام الحياة، ولكنهم لا يتحاورون إلاَّ في الظاهر فقط، أما في الحقيقية فكل منهم يكلِّم نفسه ويستمع لصوته، إذا استعمل اللغة فهو لا يستعملها ليتحاور مع الغير ولكن ليعبِّر بها عن أفكاره ورغباته ونوازعه، وإن أقدمَ على فعلٍ فهو لا يُقْدم عليه من أجل الغير ولكن من أجل نفسه، ولو كرّسوا التحاور بينهم -وهذا ما يسعى المسرح إلى فرضه- وسَمِعَ بعضهم بعضاً لتفاهموا وفهمَ بعضهم بعضاً ولاختفى نشاز الحياة.

والحوار لا يكون حواراً إلاَّ إذا كان بين اثنين فأكثر، وهذا هو أوّل شرط من شروط الحوار. وحتى المسرحيات التي يحاور فيها الإنسان نفسه فإنما نفترض أن شخصية البطل المسائل روحه قد انقسمت شخصيتين؛ شخصيَّة تسأل، وشخصية تجيب.  

ولكن لماذا تعثر المسرح العربي؟

ببساطة لأننا مغرورون كفاية، لا نصنع لأنفسنا مواعيد للحوار، ولأننا لم نعد نلتقي مع الآخر أو نتلقاه. وعندما حاول كتَّاب المسرح العرب خوض غمار الكتابة المسرحيّة طَغَت على نصوصهم اللغةُ الشاعرية والتعبير الغنائي، وجاءت مسرحياتهم كأنما هي قصائد مطوّلة منسوجة بالصور الشعرية ومؤداة بلغة الشعر...

ومن زاوية أخرى فالمسرح تقاليد وتقنيات (عقدة، حدث، حكاية) لها بداية ووسط ونهاية، بحسب ما جرى العرف بين الأدباء. ولأن حياة العربي وأحداثها ليس لها بداية وليس لها وسط وليس لها نهاية أكثر من مهترئة!! أكثر من متلهلهة!! فهذا بدوره انعكس على المسرح العربي.

 

 واقع... أسئلة... إشكالات
 جميل أحمد الحبري

إن من يتابع الحركة السردية في اليمن، ويرصد تحركاتها وعوامل سيرورتها، يلحظ مدى التغير الطفيف، الذي لا يكاد يشكِّل ظاهرةً بارزةً، إذا ما قارنّاها بالتجربة الشعرية اليمنية المزدهرة، والمواكبة لحركة الشعر العربي، من جهة، وإذا ما قارناها بالحركة السردية العربية من جهة أخرى. لكن ذلك لا يمنع أن نشير إلى ظهور عدد من الأعمال الإبداعية السردية الجديرة بالاهتمام والدرس النقدي، سواءً على المستوى الروائي أم على المستوى القصصي؛ خصوصاً في العقد الأخير من القرن الماضي، وما تلاه من عقدنا هذا: الأول من الألفية الثالثة.

لكنَّ السؤال الذي يطرحُ نفسه: لماذا لم يُسجّل المسرح اليمني حضوراً فاعلاً عند الحديث عن الحركة السردية في اليمن؟! بل إنَّ بعضهم يتساءلُ: هل ثمة مسرحٌ في اليمن؟ وإذا كان هناك بعض الأعمال المسرحية، فلماذا لا تشكّلُ ظاهرةً بارزة في الأدب اليمني؟ ومن المسؤول عن تدهور الأدب المسرحي في اليمن؟ هل هم المبدعون أنفسهم، أم الحركة النقدية؟ ومن الذي انعكست سلبيته على الثاني؟! أم أنَّ الأمر يعودُ إلى غياب الدور المؤسسي الفاعل، سواءً على مستوى وزارة الثقافة أم الإعلام أم الحكومة أم...؟! على الرغم من ظهور أعمالٍ مسرحية يمنية مبكرة، لعلي أحمد باكثير، مثلاً!! بل إنَّ بعضهم يذهب إلى التساؤل: هل هناك أعمالٌ مسرحية يمنية؟! أضف إلى ذلك، أنَّه لا وجود لذكر المسرح اليمني، إلا فيما ندر، سواءً في كتب النقد على وجه الخصوص، بوصفها الوجه الآخر، المعبّر عنه، حيث لا دراسات عنه، ولا إثارة قضايا تُسلطُ الضوء على أسباب تدهوره وتعثره عن اللحاق بحركة الأدب المسرحي في الجزيرة العربية على وجه الخصوص، سواءً في الكويت أم في البحرين أم في الإمارات، أو ركب الأدب المسرحي في الوطن العربي بشكلٍ عام؛ أم في الدور المؤسسي الخامل عن الذكر هو الآخر، الذي لم يُفعّل دوره، سواءً في إنشاء المسارح، أم في إثراء الجانب الثقافي وإجراء العديد من الدراسات التي تناقش هذا الجانب، والتي تثري أو تُسهم في معالجة مشكلات تدهوره، ومناقشة سبل تخطي عثرات هذا الجمود والانغلاق، خصوصاً وأنَّ الأدب المسرحي له جذور في الأدب العربي القديم، الناتج عن تلاقح الحضارة العربية مع الحضارات الأخرى، الفارسية واليونانية والرومانية، في العصر العباسي، إزاء الترجمة وازدهار العِلْم، فيما عُرف بفن المقامات والكتابات النثرية والرسائل، وإجراء الفكاهة والقصص الظريفة على ألسنة الحيوانات، ووضع المدرجات أو المنصَّات في السوق العامة وحضور الناس وتجمعهم للمشاهدة والاستمتاع. وقد كان لها حضور سياسي، ودورٌ فاعل في الارتقاء بالترميزات والإسقاطات على ألسنة الحيوانات في شتم الحكام والتعريض بهم. وهذا كله ناتجٌ عن توفر الحريات والتعبير عن الأداء. إذ لم يحدث في أيّ عصر من العصور الإسلامية مناخ مزدهر مفتوح، مثلما حدث في العصر العباسي من حرية الفكر، وظهور الحركات الإسلامية وطوائفها، وازدهار فنون أدبية كثيرة مثل: الكتابة النثرية والرسائل والمقامات وما إلى ذلك، وتطور الترجمة، وازدهار الحضارة الإسلامية في شتى العلوم والمعارف، وظهور علماء ومفكرين وفلاسفة وأطباء مسلمين كُثُر، أسهموا في الارتقاء بالحضارة الإسلامية، وأثّروا في تطور النهضة الأوروبية، واعترفت لهم الحضارة الغربية قبل الشرقية، وما زالت تدين لهم بالفضل، وتُكِنُّ لهم عظيم الاحترام.

لعلَّ ما أشرنا إليه قد يسهم في استكناه والتماس أسباب تدهور المسرح، اليمني على وجه الخصوص، والعربي بوجهٍ عام. لا شك أنّ انعدام الحريات وظهور الأنظمة القمعية المتجبِّرة المتسلطة، هو السبب وراء انتكاس المسرح وتدهوره في أيِّ مكانٍ من العالم. لكن من يتابع الأوضاع السياسية في اليمن على مدى العقود الماضية، يُدرك مدى انعكاسها السلبي على حركة المسرح بوجه خاص والسرد بشكل عام في اليمن. فما عانته اليمن تحت نظامي الحكم الإمامي في الشمال والاستعماري في الجنوب؛ ليس بالأمر الهيّن، ناهيك عن عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فمنذ قيام الثورتين المباركتين 26 سبتمبر 1962، و14 أكتوبر 1963، ودحر المستعمر في 1967، واليمن في حالة فوضى وحروب عصبية، لم يُكتب لها الاستقرار إلا في ظل الوحدة المباركة عام 1990. فالحروب والمآزق والاضطرابات الداخلية هي السبب الرئيس وراء تدهور المسرح في اليمن، سواءً فيما عرف بالشطر الشمالي أم في الشطر الجنوبي، وقس عليه ما شئت في بقية الأقطار العربية.

لكن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة: لماذا ظلَّ المسرح اليمني خامل الذكر على المستوى الإبداعي، ولم تظهر تجارب إبداعية مسرحية، خلا ما يعد بالأصابع، رغم نشوء الجامعات، وانفتاح المثقف اليمني على تجارب مسرحية عربية، وظهور العديد من ترجمات المسرح العالمي، على الرغم من أنَّ ما عانته اليمن من ظروف صعبة، وأزمات عصيبة، يُسهم كثيراً في ظهور أعمال إبداعية لا بأس بها، ذلك لما للنص المسرحي الإبداعي من سمة بارزة يختص بها عن غيره من الأعمال السردية الأخرى، كالإسقاطات الترميزية، والتصويرات الكاريكاتيرية الإيحائية ذات الحس الفكاهي الساخر، ومن تجسيد للأدوار وتقمص للشخصيات، والبراعة في تمثيل الدور ومحاكاة الواقع، وتسليط الضوء على الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعاني منها المجتمع وتؤرق أبناءه وتقض مضاجعهم؟! ذلك أنّ الروائي، كما يرى جورج سنتيانا، "قد يرى الأحداث عن طريق أذهان الآخرين، في حين إنَّ المسرحي ينتج لنا رؤية أذهان الآخرين عن طريق الأحداث"(1). إذ أنَّ الدراما ليست الأحداث بحدِّ ذاتها. إنَّ الدراما تتطلب عين المشاهد، "فرؤية الدراما في شيء ما، تعني تبين عناصر صراع فيه، والاستجابة عاطفياً في عناصر الصراع هذه. وتتألف هذه الاستجابة العاطفية من كوننا نُثار بالصراع، وندهش له"(2)، ناهيك عن أنَّ الدراما أخشن من الشعر الغنائي والرواية في أنها لا تخفي صلتها بالعناصر الفظة التي تثير فينا متعة "لا مسؤولة"، وهذا يُفسر الحقيقة المعروفة في أن المسرحية الجيّدة يمكن التمتع بها على تباين من قبل المشاهدين متفاوتي الرهافة والثقافة"(3).

إن فن الكتابة المسرحية فنٌ رفيع، مثله مثل سائر فنون القول، كالشعر والرواية وغيرهما. إلاَّ أن ما يميز النص المسرحي عن غيره من الأجناس الأدبية، هو أنَّه يقوم على الحدث، الذي يتم خلقه عن طريق الحوار، في زمنٍ مسرحي معين، لا يزيد في الغالب على ثلاث ساعات. "ولذلك فإن عنصر الزمن في الدراما، يحتم على الكاتب المسرحي أن يعالج الماضي والمستقبل بطريقة خاصة، وأن يجعل هذه الأزمنة جميعاً تصبُّ في الزمن الحاضر، وتتجسد في سلوك الشخصيات، أثناء فترة العرض، وذلك عن طريق تصارع إرادتها، وتصارع الشخصية الواحدة داخل نفسها. والحوار هو وسيلة الكاتب في التجسيد"(4).

وإذا ما عدنا إلى التساؤل: لماذا لم يزخر المسرح اليمني، ولم يحدث له أيُّ حضور، على الأقل في العقد الثمانيني، وما تلاه، خاصةً وأنَّ تجارب عربية كثيرة تخطت هذا الجمود والانغلاق والعزلة، بل ظهرت تجارب في دول ليست أحسن شأناً من اليمن، كالسودان وليبيا والأردن وغيرها، خاصة بعد ظهور النوادي السينمائية، وظهور التلفزيون والراديو، وانفتاح اليمن على الأفلام والمسلسلات والمسرحيات العربية والعالمية، من هندية وأمريكية وما إلى ذلك، ناهيك عن الطفرة التكنولوجية الهائلة، وما صاحبها من ظهور القنوات الفضائية وربطها عبر الأقمار الصناعية، وظهور شبكة الاتصالات الدولية (الانترنت) حتى أصبح العالم كالقرية الواحدة؛ الأمر الذي انعكس سلباً إلى حدٍّ ما على المسرح وانحساره، ليس في اليمن -إن أخذناه بعين الاعتبار- فحسب، بل في الوطن العربي عموماً؟ ولعلَّ مما سبق نستطيع أن نخلص إلى عوامل تدهوره وتعثره في اليمن في الآتي:

1- غياب الدور المؤسساتي الفاعل في بعث هذا الجنس الأدبي وإحيائه، والمتمثل في إنشاء المسارح والنوادي والصالونات الأدبية والنوادي السينمائية والنوادي الترفيهية، وما إلى ذلك، والتي تستقطب الشباب، وتستثير فيهم الإبداع على كافة المستويات، من تمثيل وكتابة النص المسرحي والنص الإبداعي بشكلٍ عام، وما إلى ذلك، وتوقظ فيهم روعة الإحساس بالفن وقيمته ودوره في الرفع بالمستوى التعليمي والفني والذوقي لدى المتلقين.

2- ضعف الحركة النقدية في اليمن، التي تسهم في الرقي بمستوى الإبداع، وتشجيع المبدعين والأخذ بأيديهم، وتحفيزهم مادياً ومعنوياً. إذ أن رقي الحركة النقدية في أيِّ بلدٍ من العالم ينعكس على رقي الحركة الإبداعية والعكس صحيح؛ ذلك أنهما وجهان لعملة واحدة، يتعلق ازدهار أحدهما بازدهار الآخر، وانحساره بانحسار الآخر.

3- غياب الدور الإعلامي، ممثلاً في وزارة الإعلام بكافة مؤسساتها، في عدم تأهيل الكوادر والمبدعين في كافة القطاعات الإعلامية، من تمثيل وإخراج وصف وإضاءة وديكور وتصوير وإذاعة وتلفزيون... وما إلى ذلك.

4- غياب الدور التخطيطي والمنهجي في القطاعات والمؤسسات والوزارات المعنية بدراسة أسباب تدهور الإعلام والثقافة والتعليم بكافة مستوياته، الأكاديمي والثانوي، وما إلى ذلك، وعدم وضع أسس ومعايير لاحتياجات البلد ومتطلباته الأولوية، من اهتمام بإنشاء المعاهد الفنية، من تشكيلية وتلفزيونية وإعلامية وإذاعية وفنون جميلة وصحافة وما إلى ذلك، وتنمية قدرات المبدعين واحتضانهم وتشجيعهم كي يتسنى لهم صقل مواهبهم وتطويرها، لا أن تتجه سياسات المسيِّسين للتعليم إلى كبت الرغبات، ورفع المعدلات، ومحاربتهم، مما يحول بينهم وبين التعليم، الأمر الذي يؤدي بهم إلى تركه والتوجه إلى الأعمال الحرة العادية، مما يسهم في ضياع موهبتهم وتلاشيها.

5- ضعف العامل الاقتصادي، الذي يُسهم كثيراً في المؤول بين المبدعين والاستمرار في تنمية مواهبهم وصقلها وتطويرها، وبين مكافحة أعباء الحياة الاقتصادية التي تسوء يوماً بعد يوم، بل وبمعدلٍ خيالي لا يستطيع المرء أن يقف إزاءه إلا بالذهول والدهشة، خاصة وأن الظروف الاقتصادية، التي تعيشها البلاد، جعلت الشباب هم الفئة الأكثر تحملاً لأعباء الحياة المادية.

6- عدم استقطاب الشباب المبدعين في كافة المجالات واحتضانهم وتشجيعهم وإعطائهم مرتبات تعينهم على مكافحة أعباء الحياة من جهة، وصقل مواهبهم وتنمية قدراتهم من جهة أخرى.

7- العزلة التي تعوق حركة التأليف المسرحي الجاد، التي تحبس النصوص المسرحية الجديدة -إن وجدت- في قوالب نمطية. هذه العزلة التي تباعد بين الحركة المسرحية القومية والحركات الأجنبية المعاصرة، "ولا تسهم في محدودية القيمة الفنية فحسب، وإنما هي أيضاً محرومة من لمسات التجديد والاستنارة التي يمكن أن يُحدثها الاحتكاك التقني والفكري بالنصوص الغربية المعاصرة"(5).

لعلَّ هذه الأسباب هي بعض من أسباب كثيرة قد لا تُحيط بها هذه الدراسة، لكنها تحسب أنها إذا ما أُخذت بعين الاعتبار، فستسهم في الأخذ بيد الفن المسرحي وانتشاله من براثن الجمود والانغلاق والعزلة. ولا يقتصر هذا على الفن المسرحي فحسب، بل يشمل الفن الإبداعي بشكل عام، إلى آفاق التطور والتقدم والازدهار. 

 

الهـــوامـــــــش:

(1) اريك بنتلي: الحياة في الدراما، ت: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات، ط3، 1982، ص10- 14.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) د. سمير سرحان: دراسات في الأدب المسرحي، مكتبة غريب، د. ط. ت، ص23.
(5) د. محمد العبد: اللغة والإبداع الدلالي، دار الفكر، ط1، 1989، ص180.