العدد  السادس - شتاء 2008م

   
 

سؤال العدد
 

واقع الفن التشكيلي المعاصر في اليمن...
ومواكبته للتيارات الحديثة
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

تواصل «غيمان» سؤال الكتابة حول قضايا الفن والأدب. وفي هذا العدد تطرح سؤال الفن التشكيلي في اليمن الذي شهد في الآونة الأخيرة تطوراً لن انتباه النقاد، ليس في داخل اليمن فحسب، بل في بقية الأقطار العربية. ويجيب عن السؤال عدد من الفنانين التشكيليين والمهتمين بهذا الفن الجميل.

 

الفن نتاج لاحتياجاتنا الجمالية
 طلال النجار  

ليس بالضرورة مقارنة مسيرة ونمو وتطور الفن بين بلد وآخر، أو ثقافة وأخرى. وليس بالضرورة ما ينتج من إبداعات فنية في بلد آخر أن ينتج هنا أيضاً بالمثل. فإذا قام الفنانون في بلدان أخرى بلم القمامة أو الجثث الآدمية وعرضها بقاعة المعرض، فليس بالضرورة أن نقوم نحن أيضاً بلم القمامة أو عرض الجثث عندنا؛ لأن كرامة الميت دفنه. قد يجدون عندهم معنى ما،  أو احتياجاً من عمل ذلك، أما احتياجاتنا نحن فهي مختلفة. الفكرة هنا أن الإبداع الفني هو نتاج لاحتياجاتنا الجمالية والروحية والنفسية والاجتماعية لكل مجتمع بذاته. والمجتمعات تختلف، وبالتالي تختلف الاحتياجات الفنية.

وإذا استطاع الفنانون معرفة هذه الاحتياجات وكيفية التعبير عنها من خلال الإبداع الفني، فإن هذا الفن لن يكون متخلفاً أو متقدماً عن الفن في البلدان الأخرى. ولكن المشكلة هنا، في اليمن، أن معظم التجارب الفنية لا تلبي هذا الطلب، وإنما تستنتج تجارب وأعمال فنانين آخرين، أحياء وأموات، من أوروبا وأمريكا والبلدان الأخرى. إنهم ينظرون لما تم إنتاجه وفق احتياجات جمالية لمجتمعات أخرى، لذلك تأتي أعمالهم الفنية غريبة، معزولة، لا يربطها شيء على الإطلاق بمجتمعهم وثقافتهم التي ينتمون إليها. 

 

تشكيل البهاء وعمارة القلوب اليمانية
 
د. عمر عبد العزيز

مواكبة التشكيل اليمني لتيارات التشكيل العربي والعالمي سياق جبري لتفاعل الفنون. لكن هذا السياق محكوم وإلى حد كبير بمكانة الفنون البصرية الأكاديمية في الثقافة العامة السائدة في اليمن كما في كل البلدان العربية. ومن هذه الزاوية يمكنني التلميح إلى أن التشكيل العصري بدأ يطل بملامحه الجنينية أثناء الوجود الانجليزي بمدينة عدن. يومها كان للاستشراق الفني الأوروبي أثر مؤكد في بعض التجارب المتناثرة التي لم تؤسس لتيار فني تشكيلي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ولا أود هنا استذكار بعض الأسماء، لأن عنايتها بالتشكيل لم يتجاوز حدود الانخطاف المُنفعل، كما كان حال الشاعر الوجداني لطفي جعفر أمان. والشاهد أن التفاعل المندهش بمرئيات النصوص البصرية الاستشراقية التي كان للانجليز فيها دور محدود ومؤكد كان أيضاً الصفة السائدة عند المتأثرين بالجمالية الهيلينية للتشكيل المائي والزيتي. ولعل أغلب المستشرقين الذين رسموا ملامح مدينة عدن وسواحلها الخلابة كانوا في زيارات عابرة، الأمر الذي ابتعد عن التأصيل الأكاديمي المدرسي للفنون التصويرية بالألوان. تالياً، يمكنني الإشارة إلى محطة مدرسية هامة تبلورت من خلال الرسام المصري الراحل مصطفى درويش الذي انتدبته دولة الكويت للإشراف على المرسم الحر بوزارة الثقافة في عدن. وأزعم أن مصطفى درويش كان الفنان الأكاديمي الذي خرج من معطفه كوكبة من خير التشكيليين اليمنيين، وأذكر منهم مثالاً لا حصراً: عدنان جمن، وكمال المقرمي، ومحمد جعفر، وأبوبكر باخريصة، وجمال داود. وقد تشرّفت حينها بتدريس مادة "علم الجمال"، ومن حسن الحظ أن جل هذه المجموعة ذهبت لمواصلة الدراسة الفنية الأكاديمية في الاتحاد السوفييتي، وقد تصادف ترافق الدراسات الاكاديمية التشكيلية الروسية للموفدين من صنعاء وعدن حتى تكاد البصمة المدرسية الروسية العتيدة ظاهرة في أعمال جل التشكيليين اليمنيين، ومنهم مثالاً لا حصراً: آمنة النصيري وأحمد بامدهف، وعباس عيدروس، وطلال النجار، وعبدالله الأمين. وقد شكّل هؤلاء وآخرون مشروعاً للعطاء البصري الموصول بصرامة التصوير الروسي الأكاديمي، مع إبحارات متتالية في فضاء المشهدية البصرية اليمانية الموصولة بعناصر الضوء والظل في تراتب البهاء اليماني، وكذا المروج والمدرجات الخضر، وعمارة القلوب المستأنسة بالنور واللامتناهي في جمالية الطبيعة مما نراه بسطوع في أعمال عبدالجبار نعمان ومظهر نزار. كل هذه العناصر شكّلت في جملتها حضوراً يمانياً فريداً في التصوير الواقعي الذي فاض بمرئياته ليتحول تباعاً إلى نوع من التعبيرية اللصيقة بكنه الوجود ونواميسه.

ولا أستطيع هنا تجاوز الرواد الثلاثة الأولين وهم: الفنان هاشم علي الذي استغور في استنطاق الذات والموضوع من خلال إقامته المديدة المتأملة في الإنسان والطبيعة، وكذا الفنان الجرافيكي المميز فؤاد الفتيح الذي بحث طويلاً في شيفرات وتمائم التاريخ القديم، تماماً كما فعلت آمنة النصيري في أفق أكثر ميلاً للانزياحات البصرية اللونية حد التجريد. كما يجدر هنا الإشارة إلى التجربة الحداثية المتقدمة زمنياً للفنان المهاجر علي غداف، وهي تجربة تذكرنا بما كان من أمر الشاعر عبدالرحمن فخري في السبعينيات، في توال دال ومهجوس بالحداثات الشعرية والبصرية.

مما سبق يمكن القول بأن التشكيل اليمني يواكب مجريات الحال في الزمنين الابداعيين العربي والعالمي، لكن فضاء التجربة والممارسة التشكيلية مازال فتياً ومُفعماً بالتجريب والتجارب والأُسلوبيات، مع بصمة أساسية للمنطق اللوني البارز في أساس البهاء والزرقة وأقواس قزح.

 

مقومات وبنى تحتية لا نملكها
حكيم العاقل

ظهر فن ما بعد اللوحة بعد الحرب العالمية الأولى، وتجسد أكثر بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة لخيبات الأمل لدى الفنانين، خاصة بعد الانكسار الروحي نتيجة للحروب وهجرات الفنانين بعيداً عن مواطنهم الأصلية؛ فكان في معظمه احتجاجاً على تحطيم الجمال والقيم الروحية التي اكتسبت عبر قرون، وفي لحظة تم تدمير كل شيء من قبل ما يسمى بصفوة العقول البشرية، وتمت عملية إحلال للعقل والوعي، لتكون الجيوش والقوة التي تحلم بالانتصارات وسحق الفكر.

ظهرت الاتجاهات الجديدة بمتوالية متسلسلة من الدادية بعد الحرب العالمية الأولى، بعدها بيان السريالية (1924)، على يد اندريه بريتون، الطبيب النفسي والشاعر الذي هرب إلى أمريكا في الفترة النازية، وتوالت هجرة الفنانين إلى أمريكا. ومن هذه العقول تشكلت حركات فنية أثرت البشرية إلى اليوم.

أما فن ما بعد اللوحة فقد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، كـالـ"بيرفورمنز" الأدائية، والـ"انستليشن" التنصيبات في الفراغ، ويدخل ضمن الاتجاه العام لفن "بست مودرنيزم"، أي فن ما بعد الحداثة. ولم تتخذ هذه الاتجاهات شرعيتها في أوروبا إلاَّ بعد عقود من الزمن. أما في الوطن العربي فلم تدخل هذه الاتجاهات إلا متأخرة، كتقليد أكثر منها كفكر.

تمثل: بينالي الإسكندرية لحوض البحر المتوسط، وبينالي القاهرة الدولي، وأخيراً بينالي الشارقة الدولي، هذه الاتجاهات التي أتت من الغرب أصلاً، إلى جانب بعض المحاولات الخليجية الضعيفة، وأتت التجارب العربية في مجالي الـ"نستليشن" والـ"بيرفورمنز"، حيث خصصت لها جوائز مالية ومراتب معنوية عالية.

وأخيراً ظهر فن الـ"ميديا آرت" مكتسحاً بقوة، ومواكباً لما يدور في العالم نتيجة للتطور المعلوماتي وظهور أنظمة الحاسوب والكاميرات الرقمية المتطورة التي ساعدت في تقديم رؤى وأفكار جديدة تختلط فيها نوعية التصوير وتوظيف الموسيقي وتكنيك الإضاءة واستعمال كل ما هو ممكن لخدمة الفكرة التي تشكل أساس فن الـ"فيديو أرت". ولم يكن هذا الفن حكراً على الفنانين فقط، بل أصبح بإمكان أي محترف وتقني إنجاز مثل هذه المشاريع.

نجد أن فن الفيديو حاضر الآن في جميع التظاهرات العربية، يوازي ما يجري الآن في أوروبا. وقد كان بينالي القاهرة وبينالي الشارقة الآخر يكادان يكونا مخصصين لهذا الفن.

أما في اليمن فما زال اللون مسيطراً من خلال اللوحة التقليدية المتعارف عليها. حتى الفن التجريدي ما زال تجربة محصورة على بعض الفنانين، ولم تدخل مثل هذه التجارب إلى الآن، وهذا ليس سيئاً؛ لأن فن ما بعد اللوحة مغامرة تحتاج إلى مقومات لا نمتلكها في اليمن من حيث البنى التحتية، وإلى الآن لا نمتلك صالة خاصة لعرض الأعمال (جاليري)، إلى جانب أن مثل هذه الأعمال تحتاج إلى أموال، لأنها لا تباع مثل اللوحة التي تعمل خصيصاً لنيل الجوائز والدخول في المسابقات.

لن يتمكن الفن اليمني من الدخول إلى فن ما بعد اللوحة، إلا من خلال المشاهدة لمثل هذه الأعمال، من خلال التظاهرات الفنية والمشاركة فيها؛ والآن نعد الدورة الثانية لملتقى صنعاء الدولي للفنون البصرية، والتي ستشارك فيها مجموعة من الدول الأوروبية إلى جانب الدول العربية؛ فمن خلال الاحتكاك المباشر ومشاهدة أعمال الغير وإلى أين وصلت؛ فمثل هذه التجارب التي تتجدد يومياً في العالم، وانعقاد عدة دورات سنوية للملتقى الدولي؛ يدخل الفن التشكيلي اليمني بكل خصوصيته في المحترف العربي والعالمي إلى جانب المشاركات العربية والعالمية للفنانين في التظاهرات الفنية، خاصة وأن مصطلح الفن التشكيلي أصبح الآن يشمل الفنون البصرية، نتيجة للتغيرات العلمية والتقنية وثورة المعلومات التي تضخ لنا حزمة هائلة من التطورات المعرفية والتقنية.

 

حالة من الانتعاش تحتاج إلى تشجيع حقيقي
 محمد أحمد إبراهيم

إن نظرة متأنية إلى واقع الفن التشكيلي في بلادنا تكشف حالة من التطور المتفاوت في إنجازات مبدعي هذا الفن الذي ظل -كشأن التصوير الفوتغرافي- محرماً ومنبوذاً إلى ما بعد النصف الأول من القرن العشرين، وبتعبير أدق: إلى ما بعد قيام الثورة اليمنية (سبتمبر - أكتوبر).

ولا جدال في أن هذا الفن يشهد في الآونة الأخيرة حالة من الانتعاش. ويرجع الفضل في ذلك إلى مجموعة من الأسباب، منها خروج البلاد من كهف التخلف، وانتصار الأفكار المتقدمة التي منحت الفنون والآداب حرية الإبداع ومكنت المواهب الدفينة من التعرف على أصول العالم وإبداعاته.

وينبغي الاعتراف بأن الفنان الكبير هاشم علي كان وما يزال هو الفنان الأبرز منذ بداياته الأولى وحتى هذه اللحظة؛ فقد كان رائعاً، وبقي فريداً في أسلوبه وفي نماذجه الرائعة، وإلى جواره بعض المبدعين الذين لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، ممن يشكلون ظاهرة فنية تشكيلية تلفت الأنظار.

ومما ينبغي الإشارة إليه أن الحركة الفنية التشكيلية في البلاد تعاني من مشكلتين عامتين، الأولى ذاتية، والأخرى موضوعية. وتتمثل المشكلة الأولى في تسرّع غالبية الفنانين التشكيليين من الشباب في إنجاز أعمالهم والإكثار منها على حساب الجودة، وإرهاق الكثير من الحبر والقماش بدلاً من التأني، والمعاناة في إنجاز لوحاتهم. وفي رأي نقاد هذا الفن أن أي فنان أصيل يتمكن من إنجاز لوحة أو لوحتين في العام يدخل بهما التاريخ، ويكون ذلك كافياً لوضعه في مكانه اللائق، بدلاً من هذا السيل من اللوحات المكرورة والمقلدة وكما هو معروف فإن الفنان الحقيقي ليس آلة دائمة الإنتاج، وإنما هو مبدعٌ يحتاج إلى وقت طويل للتأمل والتفكير.

ومعظم الفنانين الكبار في العالم، أمثال بيكاسو، لم يكونوا ينتجون -كما يفعل البعض- لوحة في كل يوم أو بضعة أيام. وهذه المشكلة جديرة بأن يقف الفنانون التشكيليون في بلادنا أمامها بجرأة وصدق مع النفس، حتى يتسنى لهم إبداع لوحات فنية راقية يدخلون بها تاريخ هذا الفن من أوسع أبوابه.

أما المشكلة الثانية فهي أن كثيراً من هذه المواهب الشابة والمتميزة لا تجد أي نوع من التشجيع الحقيقي وإعداد المراسم اللائقة بالفن التشكيلي كما ينبغي أن يكون. وفي صنعاء العاصمة، كما في بقية مدن اليمن، يعيش الفنانون حالة تهميش لا يستحقونها. وفي "باب اليمن" منزل قديم يتكدس فيه الفنانون كما تتكدس أعمالهم دون أن تجد أي اهتمام رسمي أو شعبي. ولو قد تساءلنا: كم عدد المسؤولين الكبار الذين زاروا هذا المرسم؟ أو كم عدد التجار القادرين على شراء لوحات يزينون بها بيوتهم الفخمة؟ لكان الرد بالنفي.

لا ننكر أن هناك مواهب، وثمة تجربة في التجاوز؛ لكن مع قصور الإمكانات يبقى هذا الفن وأبناؤه يراوحون في مكان واحد.

وعلى الرغم من اتساع كمِّ المبدعين، وكثرة المعارض التي أُقيمت خلال السنوات الأربع الأخيرة، فما تزال الحصيلة الجيدة قليلة، وما نزال في انتظار فنانين يتمثلون مفهوم الحداثة قبل أن ينتقلوا مع تطورات الأحداث إلى مفهوم "ما بعد الحداثة".

 

في بداية الطريق
 رهام الحمدي

ما شهدته السنوات الأخيرة في اليمن من ظهور تجارب جديدة وحديثة للفن التشكيلي وظهور تيارات ومدارس مختلفة عما كان موجود سابقاً، أو بالأصح ما يعرف بالمدرسة الكلاسيكية الواقعية، كان نتيجة لعدة أسباب من أهمها تجربة الفنان نفسه ومروره بمراحل عدة في مشوار الفن - تبدأ بالكلاسيكية ومن ثم تتطور إلى مراحل أخرى كالانطباعية والسريالية والتجريدية وما إلى ذلك من مدارس فنية حديثة. السبب الثاني هو انفتاح العالم وامكانية معرفة كل مايدور به عبر قنوات الاتصال المختلفة، كالفضائيات والانترنت، كل ذلك مكّن الفنان اليمني من الاطلاع على تجارب الآخرين في أرجاء العالم والاستفادة من هذه التجارب، وبالتالي انعكاسها على أعمال الفنان فأصبحنا نرى العديد من الاعمال الفنية التشكيلية ذات الطابع الحديث. والأجمل أنها تحمل بصمة يمنية جميلة.

يمكن القول أن التجربة اليمنية في مجال الفن التشكيلي الحديث والمدارس المعاصرة مازالت في بداية الطريق، وأنها تحتاج لوقت أطول حتى تواكب التيارات الحديثة والأحدث، وإن كان هناك بعضاً من الفنانين اليمنيين ممن لهم تجربة وماضي طويل في الفن التشكيلي قد بدأوا خوض هذه التجربة وإنتاج أعمال متميزة تحمل طابع يمني متميز.

ولكن حتى تواكب التجربة اليمنية التيارات الحديثة وما يعرف بفن ما بعد اللوحة يجب على كل فنان، هاوياً كان أم محترفاً، أن يبذل الكثير من الجهد لتطوير عمله من خلال التجربة الذاتية والاطلاع الموسع على تجارب الفنانين الآخرين في كل أنحاء العالم ليستفيد من تجاربهم لكي ينعكس ذلك على أعماله... وما يتبع ذلك من انعكاس على تجربة الفن التشكيلي في مجال التيارات الحديثة وما بعدها.