العدد  الثامن - صيف 2009م

   
 

سؤال العدد
 

العوامل التي أدت إلى ظهور المجلات الأبية واختفائها! (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

شهد الوطن العربي منذ بداية القرن العشرين ظهور عدد من المجلات الأدبية التي استقطبت أقلام كبار الكُتّاب والمبدعين، ثم أختفت، كما ظهر في بلادنا عدد منها ولم يختلف حظها عن تلك المجلات. وفي هذا العدد تطرح «غيمان» سؤال الكتابة عن العوامل التي أدت إلى ظهور تلك المجلات واختفائها

 

* الأجواء السياسية... والخيبات الاقتصادية
شاكر خصباك

لا ريب في أن المجلات الثقافية كانت أكثر عدداً ومساحة في مطلع القرن العشرين ولغاية الربع الأخير منه؛ ليس في بلد معيaن من البلدان العربية، وإن كانت مصر أغناها بالفعل في هذا النوع من المجلات، بل في عموم الدول العربية، كلينان وسورية والعراق وغيرها.

 فمنذ بداية القرن العشرين برزت في مصر مجلتان مهمتان جداً، هما «المقتطف» و»الهلال»، وكانتا حافلتين بالأفكار العلمية المتقدمة، بل كانت كل منهما تناقش أحدث النظريات العلمية وأعظمها جرأة يومذاك، كنظرية التطور لدارون مثلاً. وفي مقتبل الثلاثينيات من القرن الماضي ظهرت في مصر أيضاً ثلاث مجلات كانت مناراً للثقافة الأدبية، هي: «الرسالة»، و»الثقافة»، و»الرواية». وكانت هذه المجلات ميداناً لنشر الإبداعات العربية عموماً وليس الإبداعات المصرية فحسب. ثم ظهرت في أوائل الأربعينيات مجلة «الأديب» اللبنانية واحتلت مكانة مرموقة في عالم الأدب، فقد أفسحت صدرها لنتاج الشباب، الشعري والقصصي، بما يحمل من تجديد في الأساليب والمفاهيم. وكانت حاضنة للعديد من الشعراء الشباب الذين صاروا من كبار شعراء العالم العربي. والحقيقة أن عقد الأربعينيات من القرن الماضي في لبنان كان عقد ازدهار الثقافة، وقد ظهر العديد من المجلات الثقافية، من أمثال «الطريق» و»شهرزاد». ثم تواصل ظهور أمثال هذه المجلات في عقد الخمسينيات، من أمثال «الآداب» و»شعر». وكانت هذه المجلات تتميز بتبشيرها بالأفكار والأساليب الجديدة في الشعر والأدب والثقافة عموماً، والتي استقطبت الأقلام الشابة على نحو الخصوص.

 هذا هو حال المجلات الأدبية والثقافية في بعض البلدان العربية. أما ما يخص بلدي (العراق) فأزعم أنه شهد وضعاً متفرداً في ميدان المجلات والصحف الثقافية. فمنذ أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي نال العراق فيها استقلاله من الهيمنة البريطانية وصار عضواً في عصبة الأمم، كان هناك تشجيع حكومي وشعبي للثقافة. واللافت للنظر أن الرغبة في إصدار المجلات الأدبية والثقافية لم تكن مقتصرة على عاصمة البلاد، كما هو الشأن عادة، بل كانت هناك منافسة من المدن الإقليمية، مثل الموصل والبصرة والنجف والحلة والناصرية. وكانت مدينة النجف على نحو الخصوص مدينة ثقافية بمعنى الكلمة، وكانت تعج بالشعراء والأدباء وعلماء الدين. ففي ميدان الأدب مثلاً ظهرت فيها منذ أواسط الثلاثينيات مجلة احتلت الصدارة في ميدان الأدب، هي مجلة «الهاتف». وقد حملت «الهاتف» راية القصة عالياً، وتَخَرّج على صفحاتها عدد من القصصيين الرواد؛ ولا عجب فمؤسسها (جعفر الخليلي) كان من القصصيين الرواد. وأنا شخصياً أدين بالكثير لهذه المجلة، فقد احتضنت إنتاجي المبكر منذ أواسط الأربعينيات. ولا أدري إن كنت مبالغاً أو متحيزاً لو قلت إن العراق قد حظي منذ ثلاثينيات القرن الماضي بأكبر عدد من المجلات الإقليمية، مقارنة بالبلاد العربية الأخرى. لكن المجلات العراقية لم يتسنّ لها الذيوع والانتشار خارج العراق شأن المجلات الثقافية المصرية واللبنانية. ولا أدري ما هو السبب. ومما لا شك فيه أن ظهور هذا العدد الكبير من المجلات الثقافية في العراق في تلك الفترة مؤشر حقيقي إلى إقبال الناس على القراءة. وقد حظي الشعر بالنصيب الأكبر من الإقبال. وهذا أمر ليس غريباً، فقد كان العراق دائماً وأخيراً الشعراء. ويكفي العراق فخراً أن ينبع فيه شيخ شعراء العربية: أبو الطيب المتنبي، وأن ينبغ فيه في الزمن الحاضر: الجواهري والسياب ونازك والبياتي وسعدي يوسف.

 وأعود إلى صلب السؤال المطروح: «ما العوامل التي أدت إلى ظهور تلك المجلات واختفائها؟». وابتداءً لا بد من القول إن أمثال تلك المجلات الثقافية قد انحسر ظلها منذ السبعينيات من القرن الماضي في عموم البلاد العربية، ولاسيما في العراق. وأستطيع التحدث عن هذه الظاهرة في بلدي: العراق، ولا أدعي لنفسي حق التحدث عن البلدان العربية الأخرى؛ ولكن أحسب أنني إذا تحدثت عن العراق فلن أكون بعيداً عن أجواء الدول العربية الأخرى.

 وبإمكاني القول إن العامل الأساسي في انحسار الإقبال على قراءة المجلات الثقافية هو الأجواء السياسية التي طغت على البلاد منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي والتي أثرت على الطلاب والشباب والمعلمين (وهم غالبية السكان المتعلمين)، وشغلتهم عن أي نشاط ثقافي محايد. وهذا التوجه السياسي من قبل السلطة لم يعد يتيح لأولئك الذين لا يؤمنون بطروحات السلطة أن يصدروا مجلات ثقافية مستقلة أو حتى إمكانية الحصول عليها. وكان هذا التوجه السلطوي تجاه الثقافة قاصم الظهر للمجلات الثقافية.

 طبعاً هناك أسباب ثانوية أخرى لانحسار نفوذ المجلات الثقافية في زمننا الحاضر، وتشارك البلاد العربية كافة في هذه الأسباب؛ فالضياع الذي يعانيه الشباب، والخيبة التي تتملكهم في إمكانية تحسن الأوضاع السياسية والاقتصادية في بلدانهم، قد صرفهم عن الاهتمام بالثقافة. ونحن نعلم أن معدل البطالة في بلداننا العربية، وخصوصاً بين الشباب، مرتفع جداً، قياساً بمعدلات البطالة في الدول المتقدمة، فإذا لم يكن يتيسر للشاب لقمة العيش، فكيف يمكن أن يفكر بالثقافة؟

 وهناك عاملان آخران أضعفا الإقبال على قراءة المجلات والصحف الثقافية في العالم أجمع، وهما التلفزيون، ومؤخراً الانترنت؛ فالساعات التي بات ينفقها الفرد أمام التلفزيون قد استهلكت الوقت الذي كان ينفقه في القراءة. فإذا كان الفرد الأمريكي ينفق أمام التلفزيون حوالي ثماني ساعات يومياً، حسب إحصاء إحدى المؤسسات المتخصصة، فكم ساعة ينفق الفرد العربي يا ترى؟ وبالتالي، كم يتبقى لديه من ساعات ينفقها في قراءة المجلات الثقافية؟

 أما ما يخص الانترنت -وأمره على أية حال أهون من التلفزيون، لأنه يشتمل على مواد ثقافية قد تعوض عما هو موجود في المجلات- فقد أصبح المنافس الأول للمجلات الثقافية، بل بات المهدد الخطير لوجودها؛ ففي بلد متقدم مثل الولايات المتحدة الأمريكية انخفضت مبيعات الصحف اليومية الكبرى والمجلات الثقافية انخفاضاً عظيماً، مما اضطرها إلى الاستغناء عن عدد كبير من العاملين فيها، ولولا اعتياشها على الإعلانات التجارية لاضطر الكثير منها إلى الاحتجاب.

 وهكذا نرى أن احتجاب الكثير من المجلات الثقافية في بلداننا أو توقفها عن الصدور بعد أعداد قليلة أمر طبيعي لا يستدعي الاستغراب. وأعتقد أن السنين القادمة ستشهد انحساراً أعظم لها.

إذا كان المسرح هو أبا الفنون فإن السينما هي أم الفنون، وراجع الصدى عندها غير مباشر، أما المسرح فراجع الصدى عنده مباشر. وجزء من البنية التحتية للسينما والمسرح، هو التعريف بأهمية هذه البنية للمجتمع، وقد نحتاج إلى التبسيط حتى يصل مفهوم ما تقوم به السينما والمسرح للمجتمع. وعند الحديث عن البنية التحتية للسينما والمسرح يجب معرفة عنصر واحد على الأقل قبل التنفيذ، وهو الحكاية أو القصة أو الموضوع الذي تتناوله السينما أو المسرح.
 

* الاستغناء عن الحافز
 
حاتم الصكر

كثيراً ما أرى في حياة الإنسان -جنيناً ووليداً وطفلاً وصبياً وفتياً وشيخاً- أمثولة لحياة المجلة الأدبية منذ تخلقها فكرة، ووجودها حقيقةً في تلك الأعداد الصفرية التي تسبق انطلاقتها، حتى استوائها ورسوخها ثم ذبولها وموتها.

 وكما ترتبط  قوة الوليد ومواجهته الحياة بما يتلقاه جنيناً من رعاية وعناية، وبما يحيط به من ظروفٍ وأسبابِ حياة، يكون للمجلة الأدبية هذا الوجود الغني والمليء والحيوي، ما يكسبها الديمومة، ويضمن لها الأثر في سياقها.

 ومن خلال تجربة العمل، وقبل ذلك القراءة والكتابة، في المجلات الثقافية عامة والأدبية خاصة، وجدت أن التخطيط الجيد المسبق، والرؤية التي تربط المطبوع بالمحيط، هما اللذان يكسبان المجلة حضورها وأثرها وفاعليتها.

 لقد دأَبنا -شأن عاداتنا العربية في السياسة والمجتمع- أن نعلل ضعف الدور الثقافي للمجلات اليوم بما هو خارجها، وكأنها لا تعاني مشكلات جوهرية تتعلق بهويتها وأدائها وخططها، وصلتها بالكتّاب والقراء، وقبل ذلك بقضايا عصرها وشؤونه القائمة. فرحنا -مثلاً- نلقي أسباب انتكاس المطبوع على مزاحمة الوسائل والوسائط المجاورة له، كالتلفزيون والإنترنت. وهذا ما تدحضه الوقائع؛ فالغرب الذي سبقنا إلى تلك الهبة التكنولوجية وجنون الشبكة العنكبوتية وحمّاها لم تختف مجلاته العريقة أو ملاحقه الثقافية الهامة. كما أن صلتنا بالوسيط الإلكتروني المنافس للمطبوع الورقي لم يرق إلى الدرجة المخيفة والخطيرة، لا في كمه ولا في نوعه.

 المشكلة -إذاً- في عزوف المجلة عن تصدر اهتمامات الكتاب والقراء. وتراجع أولويتها في برنامج القراءة والتثقف يعود لأسباب أخرى، تجعلنا غالباً -كما هو شأننا العربي المعاصر- نتغنى بماضي مجلاتنا ونتساءل مثلاً: أين لنا بمجلة كـ"الرسالة" تجمع الكُتّاب والقراء العرب في أقطارهم المشتتة؟ وأين لنا بمجلة واضحة الهدف والأثر كـ"الآداب"، وطليعة في التجديد والحداثة كـ"الأقلام"، ومحيطة بالأدب الغربي كـ"الآداب الأجنبية"؟ بل نتساءل حتى عن تلك المجلات التي لم تتوقف بالموت أو تتجمد بتعثر الإصدار وتذبذب المستوى، وجدوى حضورها الإسمي دون أثر.

 لا شك أن العاملين على إصدار المطبوع، لاسيما الرسمي المدعوم من الدول والهيئات الثقافية المكرسة، يتسرب إلى نفوس بعضهم كسل وراحة مبعثهما ضمان الموقع، والاستغناء عن الحافز، فلا تجد دأباً أو حرصاً على التطوير. فالمجلة لا تعدو أن تكون تجميعاً لنص من هنا وآخر من هناك، تجتمع ليصدر بها عدد لا يضيف إلاَّ رقماً لسلسلة الإصدار، الذي لا يحرص على انتظامه القيمون على المجلات، ولا يربطهم بقارئهم موعد محدد، كما كان شأن المجلات الثقافية شهرية الإصدار والتي تصل إلى أيدي قرائها في موعد ثابت، متحدية ظروف الإرسال والبريد والشحن والرقابة أيضا.

 وغياب التخطيط علة أخرى في أزمة المجلة الثقافية خاصة، فلا تجد محاور أو ملفات محددة مسبقاً تحاول استيفاء القائم من مشكلات الكتابة والثقافة، ما يجعل المجلة في قلب المشهد، لا على هامشه أو في حواشيه.

 لا شك أننا كنا نعمل في تحرير المجلات الثقافية في عصورها الذهبية، حيث التواصل العربي ممكن، والمراسلين منتشرون في العواصم، والكتاب يتسابقون إلى  الاستجابة للاستكتاب والكتابة والمساهمة. وكانت الأحداث كلها حاضرة في صلب مواد المجلة. وفضلاً عن ذلك كان للمجلات -ومازلنا في حيز الفعل الماضي!-  دور أخلاقي، فهي تقدم ما ينمي لدى الكاتب والقارئ الإحساس بالواجب الأخلاقي، وقيم الحوار البناء والمبادئ السليمة في التعامل الثقافي، بلا تشنُّج أو مهاترة أو تزوير وتدليس... وكانت المجلات العربية تتخطى القُطْرية الضيقة، وتنجز حصتها في المشروع الثقافي الواحد، وتجلي جانبه الإنساني أيضاً، عبر توثيق الصلة بالثقافة الإنسانية.

 وعلى الصعيد النظري، كانت المجلات التي عملت في تحريرها لسنوات لا تكرس هويتها الأدبية بمعزل عن الفنون الأخرى. ففيالأقلاممثلاً، والتي كان عنوانها الجانبي يقدمها للقارئ كمجلة للأدب الحديث، لم نكن نغفل الفنون الأخرى، كالمسرح والتشكيل والسينما  والموسيقى والآثار، وحتى النشاط الأكاديمي والرسائل الجامعية، ونحاول -حين نختم العام دائماً بعدد خاص وضخم- أن نستوفي تلك الجوانب، ونصدر العدد مكرساً لواحد من تلك الفنون، بجانب الزوايا الشهرية التي ترصد النشاط في تلك الحقول وتنقده وتعرضه. كما كنا في الحوار واللقاءات نستوفي المبدعين في تلك الفنون المختلفة، فضلاً عن الاستيفاء الجغرافي العربي. فملفاتالأقلامقدمت للقارئ ولأول مرة المشهد التحديثي للقصيدة في السعودية منتصف الثمانينيات، وعرّفت بالتيارات الجديدة للشعر في المغرب، وكذلك العدد الخاص بالأدب اليمني والأسماء الفاعلة في تحديثه، وما تلاه من أعداد أو سبقه، حول الأدب في فلسطين وسواها من الأقطار العربية، وكذلك الأعداد النوعية المخصصة لقضايا ملحَّةٍ، كأدب المرأة وقصيدة النثر والقصة القصيرة جداً والسيرة الذاتية  وسواها. وأعتقد أن مثل هذه التجارب ممكنة اليوم، رغم الصعوبات اللوجستية وضعف التواصل، أو كثرة الموانع والمحددات؛ لكن بنا حاجة لإرساء الطابع الحضاري للمجلة الثقافية، وانتظام صدورها، وشمول موضوعاتها لجوانب الثقافة المختلفة، واعتماد المعايير السليمة في النشر، دون مجاملات أو تحيزات عاطفية أو متعاطفة لغرض أو مقصد أو معتقد.

 ولا أجد سبباً يبرر الضعف في المطبوع، لغةً وإخراجاً، فهما شيئان مكملان لهوية المجلة، التي يجب أن تكون واضحة في فكر مصدريها والعاملين فيها قبل الولادة والإصدار، وذلك يجعل هدفها واضحاً من بعد لكتَّابها وقرائها معاً، ويضمن أثرها في مجالها، ويهبها أسباب الديمومة، ويمنع عنها الجفاف والذبول.

 لقد كنا نعمل فريقاً واحداً يلتمّ حول المجلة كمشروع ثقافي، له هدف واستراتيجية وإجراءات ومبادئ، تترسخ حتى عند تغير المحررين؛ لأن فلسفة المطبوع وهويته كفيلان بضمان استمراره وتطويره وبقائه في الذاكرة، حتى إن حالت أسباب خارجية دون استمرار وصوله للأيدي التي ألفت تلقّيه في موعده، فما ينجز خالصاً للثقافة يبقى دون شفاعات أو إكراهات وادعاءات.

  

* الانترنت والفضائيات وحجب الدعم المادي
 
هشام علي بن علي

ما معنى إصدار مجلة أدبية في وقتنا الراهن؟ حيث تلفّ الشبكة العنكبوتية، بخيوطها الإلكترونية، أطراف المعمورة، وتبشر بثقافة عولمية كونية تطمس الهويات واللغات والعلامات الفارقة بين الثقافات، أو لنقُلْ: تهدد بنهاية التنوع الثقافي، بالطريقة ذاتها التي ادعت فيها نهاية التاريخ. وربما نجد في هذا الكلام تصريحاً هامساً بأهمية وضرورة وجود مجلات ثقافية وأدبية في كل بلد من بلدان العالم، تعبر عن آداب وثقافات شعوبها، وتترجم آداب العالم وثقافاته. أما إذا اختفت مثل هذه المجلات الوطنية، فإننا سنواجه ذلك اليوم الذي يقرؤ فيه أدباء العالم، العالم الثالث على نحو خاص، مجلات معينة مثل "نيويورك ريفيو بوك"، أو "لوموند ديبلو ماتيك"، أو "كرونيكل"، أو غيرها من المجلات الأدبية الثقافية التي تصدر في أمريكا وأوروبا وتستطيع المنافسة والبقاء، في ظل تحديات الكتاب الإلكتروني والمجلات المحملة على شبكة الانترنت. ولا بد هنا من الإشارة إلى الميزات التي تحملها هذه المجلات أو هذا الشكل من الكتابة والنشر الجديدين، اللذين يفرضان علينا تحديات عنيفة، ويفتحان أمامنا آفاقاً جديدة لحرية التعبير. فالمجلة المنشورة على الشبكة العنكبوتية تحررنا من سلطة الرقيب ومصادرته للأفكار والإبداع. وأذكر على سبيل المثال ما جرى في العام الماضي مع مجلة "إبداع" في مصر، التي تعرضت للمصادرة والتوقيف بسبب قصيدة "ليلى مراد" للشاعر حلمي سالم.

قامت مجلة "الكلمة"، التي يصدرها على الانترنت الناقد المصري الدكتور صبري حافظ، بنشر هذه القصيدة، محطمة بذلك سلطة الرقيب وحقه في مصادرة وعينا ووصايته على الفكر والإبداع.

إن حرية التعبير هي أجمل إنجاز يتحقق مع هذه الثقافة المحمولة على شبكة الانترنت. هناك صفات إيجابية أخرى كثيرة، لسنا بصدد ذكرها في هذا المقال؛ لكن العودة إلى السؤال المطروح في البداية: هل تغني الثقافة الافتراضية أو الشبكية عن الكتاب والمجلة بصورتها التقليدية الورقية؟ بديهي أن السؤال لا يحتمل إحدى الإجابتين، أي: الإيجاب أو السلب، بقدر ما يفتح أفقاً للتأمل والتفكير في مستقبل المجلات الثقافية. وهو ما يعيدنا إلى القضية الأساسية عن الحاجة إلى المجلة الثقافية أو الأدبية.

إن تتبع تاريخ المجلات الثقافية العربية البارزة، مثل: "المقتطف"، "الهلال"، "الكاتب المصري"، "أبوللو"، "الرسالة"، "الآداب" وغيرها، يبين لنا ارتباط هذه المجلات بمشاريع ثقافية وتاريخية، وباتجاهات وتيارات ثقافية وفكرية، ولقد لعبت دوراً فكرياً وثقافياً، كما أنها أسهمت بولادة وعي ثقافي وسياسي نهضوي، قومي وحداثي.

فمجلات مثل "الهلال" و"المقتطف" و"المنار" ارتبطت بالنهضة الفكرية والأدبية. وارتبطت مجلة "أبوللو" بالرومانسية العربية. بينما فتحت مجلة "حوار" أفقاً للحداثة الشعرية. واستطاعت مجلة "الرسالة" أن توجه رسالة حوار للأدباء العرب في كل الأقطار، وقد شارك في مناقشاتها وقضاياها عدد من الأدباء اليمنيين.

أتوقف قليلاً عند مجلة "الآداب" التي تصدر عن دار الآداب في بيروت، ورَأَسَ تحريرها الأديب سهيل إدريس. هذه المجلة تحتل مكانة متميزة في الثقافة العربية المعاصرة؛ ليس بسبب استمرارها لأكثر من نصف قرن من الزمان، بل لارتباطها بالمشروع القومي التحرري العربي، ولتعبيرها الفكري والأدبي عن هذا المشروع. إن مجلة "الآداب"، في مسيرتها منذ 1953، ارتبطت بحركة القومية العربية المناهضة للاستعمار والصهيونية، وأبرزت فكر القومية العربية وأدبها، كما ظهر في صفحاتها كل التيارات الأدبية العربية والمواقف الأدبية وتحولات القصيدة العربية الحديثة. ويمكن القول إن مجلة "الآداب" مثلت مختبراً للإبداع العربي وللتعبير الحر. ونستطيع أن نتعرف على الاتجاهات الأدبية وأطوار صعودها وسقوطها من خلال مجلة "الآداب". فالاتجاه الوجودي مثلاً ظهرت تأثيراته العربية على صفحات مجلة "الآداب"، وقرأنا نقد الفلسفة الوجودية وأدبها في المجلة نفسها، وذلك في أعقاب هزيمة يونيو 1967. وهكذا الأمر مع التيارين الماركسي والبنيوي، وما بعدهما من اتجاهات وتيارات، شاهدنا حضورها وغيابها على صفحات هذه المجلة. وليس غريباً أن تكون مجلة "الآداب" أول المنابر الثقافية العربية التي يطالها الإرهاب الفكري المتزامن مع عودة الاستعمار والإمبريالية إلى المنطقة العربية. وقضية صاحب دار المدى مع رئيس تحرير "الآداب" لا تزال حاضرة في الأذهان. ففي زمن انهيار القومية العربية وحركتها التحررية، لا بد من تصفية الوعي القومي العربي وكل الوسائل التعبيرية المرتبطة بهذا التيار. هكذا نجد أنفسنا وجهاً لوجه، مرة ثانية، أمام السؤال الإشكالي عن أهمية المجلات الأدبية في وقتنا الراهن. ما جرى ويجري لمجلة "الآداب" ومحاولات إيقافها، يؤكد أهمية وضرورة وجود مجلات ثقافية وأدبية تعبر عن هويتنا الثقافية، وتعلن حضورنا التاريخي السياسي في هذا العالم الذي تحاول فيه القوى الكبرى الهيمنة على شعوبه وثقافاته.

ينبغي أن أشير أيضاً إلى التجربة الفريدة لمجلة "الطليعة" المصرية، التي رَأَسَ تحريرها لطفي الخولي، وكانت تصدر عن مؤسسة "الأهرام". لقد استطاعت هذه المجلة أن تجمع على صفحاتها عدداً من المفكرين والمثقفين الماركسيين المصريين، وأتاحت لهم مناخاً للتعبير الحر والفكر الناقد. ولا ننسى الدور الهام الذي لعبته هذه المجلة في أعقاب نكسة 1967، وفي التأسيس لفكر نقدي جديد، يتجاوز الأزمة ولا يكتفي بالوقوف أمام أطلال الهزيمة. وتجربة مجلة "الطليعة" تكشف لنا ما كان خلف إصدارها من مشروع وطني، ثقافي وسياسي، يدفع بجميع القوى والقيادات الوطنية للعمل والإبداع. وهذه صفة مهمة ينبغي احتسابها للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي كان يرأس مؤسسة "الأهرام" في ذلك الحين.

أرجع للحديث عن المجلات اليمنية، خاصة وأننا نحتفي بمجلة "غيمان"، التي تجاهد وتجتهد لإعلان حضورها وسط غيوم ملبَّدة تعاني فيها المشروعات الثقافية من صعوبات متعددة، ابتداءً من قلة المال إلى اختفاء روح المشاركة في أوساط المثقفين، إلى تحديات وتقنيات الصورة والانترنت والفضائيات التي تدفع المجلة الورقية إلى الاختفاء.

لعبت المجلات الثقافية والأدبية دوراً مهماً في الحياة الثقافية والإبداعية في بلادنا. أشير إلى الدور الرائد لمجلة "الحكمة" في طوريها: الأول: التنويري على يد الوريث وجماعته، والطور الثاني: الوحدوي على يد عمر الجاوي ورفاقه. ولن أتحدث كثيراً عن مجلة "الحكمة"، فقد تناولها كثيرون، وأنا منهم، بالدراسة والبحث.

أتوجه إلى مجلة غابت عن ذاكرتنا الثقافية، وكانت تحمل، في طيات حجمها البسيط، رسالة فكرية تنويرية واعية. إنها مجلة "المستقبل"، التي رَأسَ تحريرها فعلياً وفكرياً الأستاذ عبد الله باذيب، بينما حمل غلافها اسماً عريضاً: باسنيد، المدير المسؤول. وقد صدرت في الأربعينيات من القرن الماضي.

حملت مجلة "المستقبل" فكراً جديداً يتجه نحو المستقبل. وشارك في موضوعاتها نخبة من المثقفين والأدباء اليمنيين. وفي هذه المجلة ظهرت البذور الأولى للفكر الماركسي في اليمن. ومن أوساط محرريها ظهرت الخلفية الأولى المؤسسة لاتحاد القوى الشعبية.

من المهم أن أشير إلى مجلتي: "الثقافة الجديدة"، و"اليمن الجديد"، وقد صدرتا تباعاً في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عن وزارتي الثقافة والإعلام في الشطرين. لنلاحظ كلمة "جديد" التي لحقت باسمي المجلتين، وكان "الجديد" يعبر عن الاتجاه الثقافي السائد في السبعينيات، والذي حمل طابعاً ماركسياً في الثقافة العربية بشكل عام. كما نلاحظ أن السلطتين في الشطرين كانتا تتسابقان لاحتلال الفضاء الثقافي الواحد، واستقطاب المثقفين والمبدعين إلى صف كل منهما. وقد عبّرت المجلتان عن هذا الاتجاه الجديد في الثقافة والأدب، واستطاع المثقفون اليمنيون تكوين استراتيجية واحدة لاحتلال الفضاء الثقافي، دون أي استجابة لاستقطاب السلطة، في الشطرين، وتمكنوا من إعلان الانتماء لليمن الواحد وثقافته الواحدة.

وبعد تحقيق الوحدة في مايو 1990، حرصت وزارة الثقافة على استئناف المشروع الثقافي الوحدوي الذي حملته المجلتان. ولذلك استمرت المجلتان في الصدور لأكثر من عامين. وبعد أن اشتدت الأزمة المالية في أعقاب عودة المغتربين من المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية، كانت وزارة الثقافة أكثر الوزارات نصيباً من سياسات تخفيض الموازنة، وهو ما انعكس على المجلتين الثقافيتين، فكان قرار دمجهما في مجلة واحدة: مجلة "الثقافة"، وقد عانت المجلة من هذا الميراث، حيث اعتبرها كثير من المثقفين مسؤولة عن توقف المجلتين السابقتين، وبالتالي مسؤولة عن حجب جزء من ذاكرتهم الثقافية المرتبطة بالمجلتين. وهذه مشكلة لا نزال نعيش آثارها إلى اليوم في مجلة "الثقافة". ولعلها مناسبة للحديث عن هذه المشكلة، أو تقديم مقاربة أولية لبحثها؛ لأنها تتعلق بمستقبل الثقافة في اليمن، وبالحاجة إلى الانتماء للمستقبل، بدلاً من التمترس بحصون الماضي، مهما كانت قيمة ذكراها في نفوسنا. التأسيس لثقافة المستقبل وإبداع المستقبل هو الرهان والتحدي، وهذا ما نحاول عمله في مجلة "الثقافة".

 

* تعقيدات... وشاهد مرض وانكسار أمة
 
عبد الباري طاهر

تعتبر المجلة صحيفة عامة أو متخصصة في فن من الفنون، تتكون من عدة صفحات، تصدر دورياً بصورة منتظمة، وتحتوي على موضوعات متنوعة ومتعددة: مقالات، أشعار، قصص... إلخ، وقد تغطي قضايا راهنة، وتهتم بالقضايا: الاقتصادية، الاجتماعية، الأدبية، والثقافية. وغالباً ما تكون الثقافة والأدب ميزتها الأساس.

 وقد شهد الوطن العربي ظهور المجلات الفكرية منذ القرن الماضي. وقد ارتبط تاريخ المجلة بتاريخ الصحافة. والعلل والأمراض التي تصيب الصحافة تطال المجلات؛ فالمجلات كالصحافة، أو بالأحرى هي نوع من أنواعها، ينهض بنهوضها وينتكس بانتكاستها؛ مع العلم بأن للمجلة وظائف أكثر عمقاً وأقوى أثراً وبعداً؛ فالمجلة لها خصائص عديدة ومتنوعة، فهي من ناحية الحرية والمناخ الديمقراطي العام تتشارك مع الصحافة، ومن الناحية العلمية وازدهار المعرفة لا تختلف عن الكتاب والبحث العلمي. هاتان الميزتان تفرضان تعقيدات عديدة وكبيرة على المجلة؛ فهي بحاجة إلى حرية ومناخ الصحافة، وبالقدر نفسه بحاجة إلى إمكانات وقدرات علمية ومعرفية وإبداعية ومادية أكبر لا تتوفر للصحافة اليومية.

 تزدهر المجلة في مناخات الحرية والديمقراطية، واحترام المعرفة والعلم، ووجود توجه قومي عام لتوكيد الذات واكتشاف والتواصل مع الآخر. فهي كتاب وبحوث علمية وصحافة في آن. فالمجلة تعبير مكثف صادق وأمين عن عافية وصحة أمة أو شعب. وبالقدر نفسه هي شاهد مرض وانكسار الأمة أو الشعب. في القرن الماضي، والأمة العربية وشعوبها تتطلع للنهوض والتجديد وانتصار الإرادة وامتلاك ناصية العلم والتقدم والسيادة والتحرر، صدرت في مصر: "المقطم" و"الرسالة" و"الكاتب" و"تراث الإنسانية"، و"الفلكلور"، و"الهلال"، و"الفجر الجديد", وفيما بعد: "الطليعة" و"الكاتب" و"دراسات اشتراكية" و"الفكر المعاصر".

 أما في لبنان فقد صدرت: "الطريق"، و"الآداب"، و"الأديب"، و"دراسات عربية". وصدرت في العراق: "أقلام" و"آفاق عربية"، و"الطليعة الأدبية"، و"الثقافة الجديدة".

 وفي الكويت: "العربي" و"الآداب الأجنبية" و"عالم الفكر"، و"الكلمة" في البحرين، و"نزوى" و"التسامح" في عمان، والأخيرة صادرة عن وزارة الثقافة العمانية.

 ظهور المجلات الثقافية والأدبية ارتبط أشد الارتباط بالنهوض العربي. وفي حمى النضال من أجل التحرر ونيل الاستقلال، كان ظهور المجلات تعبيراً عن وعي بالذات، ونبش كنوز الذاكرة الجمعية لمواجهة تحديات: "نكون أولا نكون".

 كانت المجلات أداة ووسيلة؛ أداة لدعوات التغيير والتحديث والخروج من كهوف الجمود والتقليد، ووسيلة لإبراز الكنوز الدفينة وللتواصل مع الحياة والعصر.

 ولعبت هذه المجلات دوراً في الإحياء والتجديد، وتقديم رؤى وقراءات مغايرة ومختلفة، فكانت القابلة التي احتضنت الجديد، والبيئة الملائمة للتنشئة والإنارة.

 فمن رحم "الحكمة اليمانية" وفي أحضانها ولدت أول قصة قصيرة في المتوكلية اليمنية: "مملكة الموتى" كتسمية سلفاتور أبونتي. وولدت أيضاً أولى القراءات الإسلامية المستنيرة عند رئيس تحرير المجلة: أحمد بن عبد الوهاب الوريث، والمفتي باسلامة.

 وكانت أول حقل لزراعة شتلات النقد الأدبي الحديث -ذي البعد الاجتماعي- عند عبد الله العزب. قدمت المجلة البديل الأدبي، والبديل السياسي، والأفق المفتوح للتغيير. فكانت إرهاصاً وتبشيراً ووعداً آتياً.

 صدرت المجلة في الفترة 1938- 1941، ولم تمض إلا بضعة أعوام حتى تفجرت ثورة 1948 الدستورية، لتطرح مطالب الأحرار وميثاقهم المقدس المنتزع من الاتجاه الفكري والسياسي الذي اختطته المجلة الرائدة.

 وكان أغلب محرريها وقرائها من أنصار الثورة الدستورية ووقودها: محيي الدين العنسي، إبراهيم الحضراني، أحمد المروني، أحمد المعلمي، الحورش، البراق، وعلي ناصر العنسي. وكلهم من كتاب المجلة ومحرريها. وقد اعْتُقل الجميع بعد فشل الثورة، وأُعدم العديد منهم من دون محاكمة ولا سؤال.

 وفي الجنوب كانت "المستقبل" بداية الغيث. ومنذ الأعداد الأولى طرحت المجلة أسئلة العصر الحقيقية: أدباً وفكراً وثقافة، فقد تبنت الجديد على صعيد الإبداع في القصة والشعر والمسرح والنقد الأدبي والمواجهة مع الاتجاهات التقليدية. وكان المفكر الكبير عبدالله عبدالرزاق باذيب، والأديب القاص المبدع علي باذيب، وعبدالله فاضل فارع، ولطفي جعفر أمان، من أهم كتابها ومحرريها.

 اختطت المجلة نهجاً تقدمياً وحداثياً. وتصدت بشجاعة نادرة للاتجاهات التقليدية والسلفية. وكان عبدالله باذيب الدينامو المحرك، فكان يكتب ويحرر العديد من مواضيعها بأسماء مستعارة.

 وكانت المجلة منبراً للفكر العلمي، ومنارة للحداثة والتجديد. وقد تركت آثاراً عميقة في الحياة الفكرية والأدبية والسياسية، ولا تزال أفقاً مفتوحاً حتى اليوم. وقد واصلت "الطليعة" النهج ولكن بأفق سياسي أكبر.

 في مطلع السبعينيات، وبعد أن سكتت مدافع الحرب وانتصرت الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، شهدت الساحة نهوضاً عاماً انعكس في تفتح الحريات والاهتمام بالمعرفة والعلم والحداثة. فصدرت في فترات متقاربة: "الحكمة" الناطقة باسم اتحاد الأدباء والكتاب، و"اليمن الجديد" الصادرة عن وزارة الإعلام في صنعاء، و"الثقافة الجديدة" في الجنوب، و"التراث" عن مركز الدراسات في عدن، و"قضايا العصر". كما أصدر الأستاذ محمد عبدالجبار مجلة "الكلمة" في الحديدة. وصدرت "الجيش" و"الغد" في صنعاء، و"الرسالة" في تعز...

 وفي التسعينيات لمعت مجلة "أصوات" في سماء الحياة الأدبية والإبداعية في اليمن. كانت هذه المجلة الحائزة من أكثر المجلات اليمنية احتفاءً واهتماماً بالإبداع. وحققت مكانة يمنية وعربية مرموقة. وكتب أدباء ومفكرون ومبدعون كبار أمثال الدكتور كمال أديب والشاعر الكبير أدونيس، وحاتم الصكر، والعلاق. وكانت إحدى أهم الأصوات روعة وإبداعاً وكان أستاذنا الجليل الدكتور عبدالعزيز المقالح هو الضمير الفاعل والحي في إبداعها. كانت المجلات تعبيراً عن انتصار الإرادة الوطنية في دحر الرجعية والاستعمار. وهما (انتصار الإرادة الوطنية، ودحر الرجعية والاستعمار) الهدفان العظيمان، أو إن شئنا الدقة فهما "الهدف العظيم"؛ فهما مثلاً زمان تلازم الجسد والروح، وقد ربطت بينهما نضالات الطبقة العمالية في عدن ورابطة الطلاب في القاهرة والأحزاب الحديثة: البعث والقوميين العرب والماركسيين، ورفع اتحاد الشعب الديمقراطي شعار: "من أجل يمن ديمقراطي موحد" منذ التأسيس 1961.

 فهذه المجلات ثمرة من ثمار الثورة في مدها وازدهار الحياة الاقتصادية الاجتماعية والثقافية في الشطرين. وما إن بدأ الصراع يحتدم داخل بلدان الثورات القومية، في ظل غياب الحريات العامة والديمقراطية، وتزايد التضييق على الحريات الصحفية في مصر والعراق وسورية واليمن؛ حتى بدأ الانكسار في الحياة بشكل عام، لينعكس سلباً على الحريات الصحفية، وتصاب المجلات في مقتل. ففي مصر تراجعت "الكاتب" ثم أوقفت، وتحولت "الطليعة" إلى مجلة علمية ثم أوقفت، وتوقفت "دراسات اشتراكية". كما أصيبت مجلات أخرى بالضمور أو ماتت بالسكتة القلبية. وتراجعت "المعرفة" في سورية، و"الأقلام" و"آفاق عربية" في العراق.

 أما في اليمن فمع احتدام الصراع بين الشطرين، وداخل كل شطر على حدة، فقد غطى صراع الإخوة الأعداء، أو بالأحرى ساعد على قمع التطور السياسي والفكري والإبداعي. ومهد إخراج زبانية التحريم والتكفير والتخوين من أجداثهم. ولعبت المدرسة والمعهد والمسجد والخطاب الرسمي دور البطولة في حملات التجريم والتفسيق والتكفير. كُفِّرَتْ هيئة تحرير "اليمن الجديد" كاملاً شاملاً، وكُفِّرَ الدكتور عبدالعزيز المقالح والرازحي والعودي ورضية إحسان الله وأمة العليم السوسوة ورؤوفة حسن. وشجعت الدولة الموجة السلفية، لتنتهي إلى وأد الحريات واغتيال المجلات وإهالة التراب على دعوات الحرية والتجديد والإبداع.

 

* سؤال النقد.. سؤال الحرية
 قادري أحمد حيدر

 إن من أهم خصائص وسمات المجلة الثقافية، أن تكون نصاً ثقافياً فكرياً إبداعياً مفتوحاً نسبياً على ما حوله من واقع ثقافي (داخلي، وخارجي)، وقادرة على التقاط الهم الثقافي الإبداعي الأساسي في تمثلاته وتجلياته المختلفة. فالمجلة الثقافية تعني مشروعاً ثقافياً إبداعياً، وتعني تركيزاً عميقاً على فكرة سؤال الحرية، كمدخل لسؤال الكتابة، وتعني دفاعاً عن قضايا الإنسان الكبرى، ورافعة للإبداع والاستنارة العقلية والحداثة. فالمجلة الثقافية إذا لم تكن منبراً لحرية الفكر، وإذا لم تؤسس ذاتها ووجودها على قضية نقد الواقع الثقافي، فإنها لا تعدو أن تكون تنويعاً بسيطاً على الأصل الثقافي المتعفن السائد، ولن يبقى منها كمجلة سوى العنوان، وأسماء هيئة التحرير، مهما علا شأنهم.

 ومن هنا يأتي القول: "إن المجلة تشكل مؤشراً متحركاً في الخط البياني لثقافة كل شعب، وهي، في ولادتها واستمرارها، تحقق طموحات الكُتَّاب والقُرَّاء، في تطوير حياتهم، وتعبر عن خصوصية هذه الحياة ونبضها وخياراتها وقدراتها على التواصل مع تراثها وحاضرها، ومع ثقافات كل الشعوب الأخرى في العالم"(1). وهذه حقيقة ما جسدته ومثلته المجلات الثقافية اليمنية طيلة الحقبة 1970-1990.

 إن من أهم خصائص وسمات المجلة الثقافية الإبداعية المفتوحة -كذلك- أنها تتوجه إلى عموم القراء المهتمين والمشتغلين بالحقل الثقافي والإبداعي، بمختلف مشاربهم الفكرية والثقافية والإبداعية، وبمختلف ولاءاتهم السياسية، وانحداراتهم الاجتماعية والطبقية؛ لا تمييز لديها في رسالتها القرائية. وهي تختلف عن المجلة العلمية الأكاديمية المتخصصة (المحكَّمة). فالمجلة الثقافية مفتوحة لجميع القراء يبدو أن هناك نقصاً إلى مثقفين متمايزين، متغايرين. هكذا يجب أن تكون، وعلى ذلك تتحدد رسالتها الثقافية للقارئ دون تمييز. وعلى المجلة الثقافية الإبداعية أن تدرك بوعي عميق اتجاهات الوعي الثقافي ومكوناته في الواقع، وحاجاته. ومن ميزات المجلة الثقافية الناجعة، كما تؤكد التجربة التاريخية للمجلات في المنطقة العربية كلها، وفي اليمن خصوصاً، وجود إدارة ثقافية ناجحة (رئيس وهيئة تحرير)، مدركة للواقع الثقافي وتعقيداته ومكوناته واحتياجاته، وألاَّ تنحصر في بُعْد واحد من أبعاد الإنتاج الثقافي الإبداعي. ودائماً من المهم أن تحتل هيئة تحرير المجلة (خاصة رئاستها) مكانة رفيعة، ليس في الوسط الثقافي والإبداعي، بل وفي المجتمع (خاصة المجلات الثقافية الرسمية)، وأن تكون من الأسماء الثقافية المشتغلة في الحقل الثقافي والإبداعي، لا يأتي بها قرار سياسي، كما تعودنا في بعض المراحل السابقة. والأهم احترام المجلة الثقافية لاسمها ومعنى وجودها كمجلة ثقافية؛ وبذلك تكون قادرة على احترام قارئها (متلقيها)، وقادرة على التجديد والتغيير لمعنى وجودها كمجلة ثقافية؛ على ألا تنقطع صلتها بقرائها، الذين من المهم اتساع رقعتهم وزيادة عددهم باستمرار، من خلال علاقة المجلة بسوق توزيعها (المكتبة، الكشك) في الداخل والخارج. ولا أستطيع هنا إلاَّ توجيه تحية لمجلة "أدب ونقد" المصرية لدوام واستمرار إصدارها بانتظام لأكثر من عقدين ونصف، وبإمكانيات مادية محدودة جداً، في وقت تتوقف فيه مجلات رسمية ثقافية كبرى، في مصر وفي أقطار عربية أخرى، لأسباب مختلفة. وكل المنى لمجلة "نزوى" العمانية، الحكومية، وهي إضافة ثقافية ونقدية وإبداعية حقيقية لمعنى المجلة الثقافية العربية، تمكنت خلال فترة قصيرة من ترسيخ اسمها الثقافي العربي، ومن استقطاب أسماء ثقافية عربية كبيرة، وكذا تقديم مواهب إبداعية شابة من مختلف أقطار الوطن العربي. وكل التحية والتقدير لمجلة "العربي" الكويتية، لدورها الثقافي التنويري، ولاستمرار إصدارها دون انقطاع طيلة نيف ونصف قرن من الزمن الثقافي الإبداعي المتواصل. وما يزال الحكم على مجلة "غيمان" اليمنية مبكراً في ضوء ما قد تواجهه من تحديات مختلفة في طريق إصدارها. ولها التحية كذلك على استمرار إصدارها لأعداد ثمانية منتظمة حتى الآن. وللدكتور عبد العزيز المقالح كل التحية لهذا الوفاء للثقافة والإبداع، وكذا الأصدقاء في المجلة على مواصلة دأبهم في إتحافنا بهذه الملاحق والاستطلاعات الثقافية البديعة والهامة الداخلة في صُلب المهام الإبداعية المباشرة للمجلة، في متابعة الهمّ الثقافي في مستوياته المختلفة. لقد علمتني تجربة وخبرة الاشتغال في إدارة المجلة الثقافية "اليمن الجديد" لفترة قصيرة، ومجلة "الثقافة"، ومجلة "دراسات يمنية"، والأخيرة مجلة علمية أكاديمية محكّمة لم تقصر الاهتمام والتركيز على الهمِّ الثقافي الإبداعي النقدي الرصين بهذا القدر أو ذاك؛ علمتني خبرة العمل في تلك المجلات جميعاً ألاَّ قراءة خارج شرط حضور المجلة والكتاب، بصفة دائمة ودورية في يد القارئ. فالنص الموضوع للقراءة على صفحات المجلة أو الكتاب، هو النص الوحيد القابل للبحث والنقد والإضافة والتعديل والتصحيح والحذف، من قبل القارئ/ المتلقي. وهو النص الذي نعود إليه باستمرار لنرى من خلاله، صورتنا ورأس مال ذاكرتنا الثقافية التاريخية. والمجلة هي النص الثقافي والفكري والإبداعي الذي لا نكتشفه إلا من خلال القراءة أولاً، ومن خلال الرسالة والدور الثقافي الإصلاحي التنويري ثانياً. وحين يصبح الكتاب نادراً وغير متيسر، والمجلة الثقافية متوقفة أو متعثرة لأسباب ذاتية أو سياسية أو مالية أو خاصة، أو ليس لها دور ثقافي حقيقي في واقع حياة المجتمع والناس، فإن صلتها بالقارئ -حتى في حال استمرار إصدارها- تغدو ضعيفة، تفتقر إلى الدور وإلى صلة الوصل والود والحب بينها وبين القارئ. وكم نحن بحاجة إلى مجلة ثقافية إبداعية ذات رسالة ومعنى في حياتنا الثقافية، مجلة دائمة الحضور والفعل والتأثير في مجرى الفكرة، وفي صيرورة الإبداع!

 إن نخبة الطبقة الوسطى (الثقافية) تاريخياً، هم من أعطوا للمجلة الثقافية معناها واسمها ومكانتها، ومثلوا ضميرها الثقافي والوطني. وهم عملياً من كانوا يديرون المجلة الثقافية الرسمية والأهلية، في اليمن وفي بعض أقطار الوطن العربي. وهم في مجموعهم، على تنوع وتعدد مشاربهم الفكرية والثقافية والإبداعية، وفي انحداراتهم الاجتماعية الطبقية، هيئات تحريرها ومستشاروها وكتابها؛ لذلك جاءت المجلة الثقافية اليمنية وتحديداً في الفترة 1970-1990، مستوعبة صورة الوطن الثقافية، عاكسة روحيته الداخلية، ومجسدة همومه وتطلعاته، وحملت بذلك اسم ومعنى المجلة الثقافية الجديدة، رمز الحداثة والإصلاح الثقافي والتنوير الفكري والسياسي. فما أحوج المنطقة العربية اليوم إلى المجلة الثقافية الإبداعية، التي تعكس خيبات اللحظة وانكساراتها، وكذا تطلعاتنا المستقبلية والتاريخية، في هذه المواجهة المعرفية والفكرية والثقافية الشاملة مع المشروع الاستعماري العولمي الجديدالقديم. ولن يكون ذلك ممكناً إلا من خلال مشروع ثقافي استراتيجي عظيم، تقف خلفه إرادة سياسية وطنية وقومية تعي ماذا تريد. إن المجلة الثقافية والكتاب، هما من أدوات وآليات المواجهة الشاملة لمحاولات إخراجنا من العصر والتاريخ.

 فالمجلة الثقافية في صورتها التنافسية الجديدة مع المجلة الثقافية الالكترونية، ومع ما تفرزه ثورة وتقنية المعلومات والاتصالات من قدرات وإمكانيات مفتوحة، هي الفضاء الجديد لصورة المجلة الثقافية المنشودة، التي لا تتخلى عن دورها الرسالي، الإصلاحي، التنويري، والإبداعي، ولا تتجاهل الاستفادة المثلى من تقنية ثورة المعلومات في إيصال رسالتها وتفاعلها مع ما يجري من تعددية ثقافية ومن تحديات ثقافية تنافسية؛ المهم فسحة حقيقية من الحرية والديمقراطية، ودعم لا محدود للنهضة الثقافية المرجوة في صورة المجلة الثقافية، وإصرار لا يلين على ضرورة تحول الثقافة إلى مشروع استراتيجي كبير في كل المنطقة العربية. وحينها يمكن أن يتبلور مفهوم جديد لمعنى المجلة الثقافية.

  أن تكون عضواً في هيئة تحرير مجلة ثقافية، فكرية، أدبية، وإبداعية، يعني مسؤولية عظيمة... أخلاقية وثقافية، قبل أن تكون مسؤولية سياسية وإدارية. وهنا تكمن القيمة الكبيرة التي تعلمناها من الخبرة الذاتية في الاشتغال بالإدارة الثقافية للمجلة، حيث يأتي الشرط السياسي في آخر اهتماماتنا المباشرة؛ وخير لنا جميعاً ألاّ يأتي ذلك الشرط أبداً، فهو شرط تعويق وكبح، لا شرط نماء وتطوير وإبداع.

 إن سؤال الكتابة، سؤال المجلة الثقافية الإبداعية، يستدعي بالضرورة سؤال النقد، سؤال الحرية. إن ضرورة المعرفة تستدعي سؤالي: النقد، والحرية، وبدونهما تفرغ المجلة الثقافية من معنى وجودها ودورها كرسالة ومشروع ثقافي نهضوي للإصلاح والتغيير.

 

* بيم مساحة الحرية... والدعم المادي والمستقل
 جمال جبران

هل يمكننا قراءة أمر ظهور واختفاء المجلات الثقافية في الوطن العربي بمعزل عن التقلبات الدائمة وحالة اللاستقرار المتوفرة بكثرة، والتي تحكم الحركة في هذا الوطن الكبير؟ هل يمكن، والحال هذه، لهذه المجلات الثقافية بعد إصدارها، البقاء بعيدة عن تلك التأثيرات والمناخ العام الذي كان -وما يزال- يسود الحالة، اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً؟

بدايةً يمكننا، ونحن نخوض في بحر تساؤلات تقول بحال وأحوال المجلات الثقافية في العالم العربي، تقسيم حديثنا بحيث يأخذ لها مسارين: أولهما: مسار المجلات الثقافية العربية الرسمية، أو المدعومة بشكل أو بآخر من قبل جهات رسمية. وثانيهما: مسار المجلات الثقافية المبنية على جهود مؤسسات أهلية أو شخصية.

أولاً: عند التطرق لنتاج الكيانات الرسمية من مجلات ثقافية سنجد أننا نقف أمام أمثلة ونماذج تتفاوت في جودتها ومتانة المقدم على صفحاتها. ويعتمد ذلك على مدى توفر المساحة اللازمة من حرية الفكر والكتابة، بزيادة كانت أم بنقصان. على أن جميعها يقع في دائرة واحدة لا يمكن الخروج منها، والتي تذهب لحدود المساس بالسلطة السياسية العليا. وإن كان بعضها استطاع إيجاد مخارج له من هذه الوضعية المفروضة عليه (مجلة "نزوى" العمانية مثالاً)، وذلك بفتح الباب واسعاً أمام الأسئلة الكبرى التي تقول أو تضع أصابعها على إشكاليات الديمقراطية والكبت الفكري والقمع والاستبداد في المنطقة العربية. وكل ذلك عن طريق فتح صفحاتها لمساهمات ناضجة وواعية لفداحة الحالة القائمة على كافة مستوياتها. لكن لا يخلو الأمر من منغصات ومضايقات قد تهب بين الفينة والأخرى على طاقم تحرير هذه المجلة، وعلى رأسهم رئيس تحريرها الشاعر سيف الرحبي، على الرغم من كل ذلك الاحتراز الذي يبديه حيال الخطوط الحمراء. وتأتي تلك المنغصات عبر خلايا تقف وراء الصف الرسمي الحاكم ساهرة على بقاء حالة الرخاء على حالها؛ فلماذا إثارة الأسئلة طالما والفرد لا يود أكثر مما في يديه!؟

وينطبق هذا التناول -وإن بدرجة أقل- على مثال آخر، هو مجلة "العربي" الكويتية الحكومية، والتي تعرف منذ بدايتها نوعية المادة الثقافية التي يتوجب تقديمها لقارئ ممتد من الخليج إلى المحيط ينتظرها بتلهف بداية كل شهر. فالملاحظ أن "العربي" حرصت على تقديم مادة ثقافية سهلة تلامس اهتمامات القارئ البسيط والمتوسط، وإن كان ذلك عبر كتابات كبار الكتَّاب العرب. فلا نحتاج لجهد كبير كيما نضع أصابعنا على تلك المادة الثقافية مساحتها وحدودها ومدارها الذي لا ينبغي له الذهاب لأبعد منه.

وفي مقلب آخر ظهرت في السنوات الأخيرة نوعية من المجلات الثقافية المدعومة بشكل سخي ومسرف، يظهر في نوعية الورق والألوان التي لا تتناسب مع طبيعة المجلة الثقافية: مجلة "دبي" الثقافية مثالاً؛ حيث تخرج بحُلَّةٍ هي أشبه أو لنقل تطابق مجلات نسائية مثل: "سيدتي"، "زهرة الخليج"، و"الصدى". وتتشابه كل هذه المجلات في احتوائها إعلانات ذات مضمون واحد: استهلاكي وترفيهي بالدرجة الأولى. والفارق أنها تعتمد صفحاتها على أسماء ثقافية عربية كبيرة ولها صداها؛ لكن يبقى السقف أخفض من اللازم.

وعلى العموم لا خشية من توقف مثل هكذا مجلات، طالما واستمرت على حالها، محافظة على احترام خطوطها الحمراء، وطالما استمر الدعم المادي المقدم بسخاء وبذخ.

وما دمنا في خضم تطرقنا لحال المجلات الثقافية العربية المدعومة مادياً من قبل الكيانات الرسمية، لا يمكننا القفز على حالة المجلات الثقافية المصرية، والتي على صلابتها وتاريخها المديد إلاّ أنها محكومة -وإن بدرجة أقل- بتلك الخطوط الحمراء الموضوعة كدليل إرشادي أو كخطة عمل، هذا إضافة لعدم ثبات الدعم المادي الرسمي لها، والذي لطالما أدى لتخلف صدور بعضها أو لتعثره النهائي. والأمثلة عديدة، ومنها مجلات: "فصول"، "إبداع"، و"القاهرة". كما لا ننسى حالات الملاحقات القضائية التي كانت وما تزال تُرفع في وجه هذه المجلات، عبر قضايا حسبة يتولاها رجال دين وهواة شهرة، مثال ما جرى لمجلة "إبداع" إثر نشرها قصيدة "شرفة ليلى مراد" للشاعر حلمي سالم.

ما المسار الثاني فيتلخص في جملة مجلات ثقافية عربية ظهرت بمجهودات فردية أو جمعية بعيدة عن الدعم الرسمي، وهي مجلات في مجملها سعت للبحث في الأسئلة الكبرى دونما وضع اعتبار لأية حواجز أمام حرية الكتابة والفكر، فقدمت للقارئ مادة ثقافية رصينة وممتعة فتحت بصيرته على أسئلة ودلائل تقول بماهية وحقيقة الحالة القائمة سياسياً وفكرياً واجتماعياً. ولهذا ظل المحيط المتاح أمامها في البلدان العربية محدوداً أو محكوماً بعوامل كثيرة. ومن أبرز هذه المجلات التي طرحتني، بصفة شخصية، أمام أسس ومرتكزات أدت لوضعي
-على تواضع مداركي- في بداية الطريق، مجلات: "الناقد"، "أبواب"، "الكرمل"، "مواقف"، و"سطور". وللأسف فقد توقف صدور كل هذه المجلات باستثناء "سطور" التي بات توزيعها محدوداً ومحاصراً.

ختاماً: يمكن اختصار القول بشأن ظهور واختفاء المجلات الثقافية العربية في نقطتين محدودتين: أولاهما: الدعم المادي، وثانيتهما: شرط استقلالية هذه المجلات ومنحها المدى المفتوح الذي يمكِّنُها من تقديم رسالتها وواجبها على أكمل وجه. وهما نقطتان لا يمكن أن تتوافرا وحال البلاد العربية على ما هو عليه، حيث تغيب أو تُغّيب الأسئلة الكبرى أمام تفاهة السلطة التي تحكم وتسيطر على كل شيء، من المحيط إلى الخليج.