العدد الثالث - خريف 2007م

   
 

نصوص سردية
 

حالة (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                                     عاطف عواد
                                                                      
 قاص من مصر
 

همس يقول: هناك. ومنذ وقع وارتطم، كان لا يزال ببقعته إيّاها، غير قادر على إدراك شيءٍ بها ومنها، أو أن يعرف من أمره شيئاً: متى سقط ووقع؟ وكيف ارتطم وتبدد؟!

تلاشت يقينياته منذئذٍ. كما وتبددت الثوابت التي كانت به وله قبل أن يهوي ويسقط من قطار القرية، وحين أن كان القطار في سرعته الجنونية والعبثية. فما استطاع أن يعرف بأي أرض وقع، وعلى هذا النحو المزري والمبدد!

وهناك، حيث سقط ووقع، ما كانت له القدرة على التخلص من حالته تلك، ولا أن يتملَّص قيد أنملة. فبقي سجيناً حبيساً مقطوعاً بالمرة عما خارجه وحوله.

فقط فيما تُحدِّث له نفسه به، فكان يحدثها، وكانا يتحدثان، هناك حيث كان، وبما كانت تبديه له نفسه، كبرقٍ صاعقٍ، وطيفٍ مارقٍ، ومما ترهقه به منها. فكان الهمس بينهما، وحديث الشك والتوهم.

فيسأل كذلك نفسه: أكنا في كوكب كابوسيٍّ، شيطاني، ولم يزل في فكرة ما قبل البدء والتكوين، ولترهق وتروع وللإرهاب المخيف، ما زلنا في رحم تلك الفكرة، وما هو قبل بدء الأكوان والأشياء؟!

وكان هناك، سجين تلك الحالة والتي سكنته وسكنها منذ ألقى به السائق ذات ليلةٍ مظلمة سوداءٍ!

تماماً مثلما اتفقنا، أنا وسائق القطار، وكما عقدنا العهد والحلف معاً، وفي الخفاء بعيداً عن عيون وأسماع أهل قريتنا.

الناس في قريتنا طيبون. وبالبسطاء المسالمين لا تكف قريتنا عن إملاء وإشباع الأمكنة بهم، وجيلاً من بعد جيل، وبالفلاحين، والبنائين، والصيادين، وبمن على بوابات النهر الأبنوسي، يحرسونها ويحرسون القرية: مطمع اللصوص وقطاع الطرق أبداً، وممن من أهل القرية يريدون بقطارها شراً، وبالركاب المسافرين إلى محطة الولادات المباركة، فيقودونهم وبذلك يطمعون. لأجل ذلك، من القرية مَنْ يستعين ويستقوي بالغرباء الأعداء لقريتنا، فيجدون الحراس بالقرية لهم يواجهونهم أيضاً.

ولكن حراس قريتنا أيضاً طيبون، وبسطاء مثل أهل قريتنا أجمعين.

قاطعته هامسةً: ولماذا أنت هناك وبعيداً عنّي يا زوجي؟!

كانت زوجته حسناء طاغية الأنوثة والخصوبة، وقد اختارته لها خليلاً وزوجاً من دون فتية القرية وشبابها أجمعين، ولما عاهدها عليه والتزم، فوثقت به، منذ كانا في القرية بمقتبل العمر.

كان زوجها بعيداً، هناك، حيث كان خصمه وعدوه اللدود، كما كان، ومن حيث كان، يجيبها همساً، ويصف لها أمر خصمه، في بقعته، وعما رآه بنفسه كأنه من زوجته وتسأله سبب هجرها.

واصل الزوج همسه لخليلته الزوجة، من هناك، من نفس بقعة عدوه.  ولكي يشهد فناءه، ولشفاء غليله، وقع معه من قطار القرية. ومن هناك واصل بنفسه همسه، ومجيباً، كما ظن، زوجته التي سمعها من نفسه، ولنفسه، وسيلة الوصل وتواصلهما، كما رأى بظنه. راح يواصل قوله هامساً:

ولأن الناس بقريتنا طيبون، مسالمون، ولأن العهد مع من سوف يخلِّصني من عدوي الجار اللدود، يستلزم أن يقنع الناس به فيختارونه السائق لقطار القرية، ولن يكون له ذلك، فيتمكن حينها من وفائه لي، إلاّ إن رفض الناس سائق قطارنا الذي بقي لعقدين تقريباً.

وعلى ذلك عملنا، في القرية وبين الناس، وبأن السائق الذي نريده خلفاً لقطارنا ليس مغامراً مقامراً، فيقود ركاب القرية وأهلها من حادثة إلى كارثة ونكسة وديون وفقر مدقع. وبذلك صدقونا نحن الحلف الذي كان لكل منا في سائقنا الجديد مصلحته الخاصة، والعهد السري، وللسائق نفسه كذلك المصلحة والحلف مع الغرباء المترصدين بالقرية دائماً.

قاطعته نفسه مجدداً، وعاودت الزوجة سؤالها له ومن خلال نفسه كذلك: كيف لك أن تمكن حليفك، هذا الخائن الفاجر، منّي، وترمي بي في قبضته ووصياً عليّ وآمراً، فيطاردني ليغتصبني السافل، وللمرابين الزناة فيبيعني؟! لماذا أنت هناك، وميت؟! قال: أما أخبرتكِ، يا غالية، أننا جارين في جسد واحد، وبنفس البدن الواحد نسكن، وخصمان، عدوان لدودان، وكلانا يتبع الآخر، وبنفسه راح كل منا يكيد لصاحبه كيداً وانتقاماً!؟