العدد الرابع - شتاء  2008م

   
 

نصوص سردية
 

عارضة الأزياء (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

          
                                                             علي القاسمي
                                                                                                 كاتب عراقي مقيم في الرباط- المغرب.

 أفقتُ (أو ربما استعدتُ وعيي) على وقع أصواتٍ بدت أولَ وهلة لغطاً بعيداً، ثم أخذتْ تقترب رويداً رويدا، حتى بانت مقاطعها واتضحت دلالاتها.

 أردتُ أن أفتح عينيّ، كما انفتحت أذناي؛ ولكنهما لم تطاوعاني، أو بالأحرى لم أستطع تحريك أجفاني، فقد أطبقتْ عصابة على عينيّ، فلم تعودا طوع إرادتي. حاولت أن أتحسس تلك العصابة بيديّ، فلم أقدر على تحريك أيٍّ منهما، إذ كانت ذراعي اليمنى مربوطة إلى السرير ربطاً محكماً، وذراعي اليسرى مشدودة هي الأخرى وقد انغرست في وريدها إبرة تحقنه بسائل أو مصل ما.

وعندما انتقل إحساسي إلى ساقيّ أدركتُ أن وضعهما ليس بأفضل من وضع ذراعيّ. فقد كانت ساقي اليسرى معلقة بكُلاّب كما تُعلق أفخاذ النعاج المسلوخة في مجزرة. وأما الساق اليمنى فكانت أثقل من أن تحركها رافعات الميناء. كانت مغلفة بجبيرة من الجبس أو ما أشبهه. كنت قد فقدتُ القدرة على التحكم بأطرافي، وكأنها انفصلت عن جسدي وأمست خارج كياني.

حسبتُ في البداية أن الأمر يتعلق بكابوس جديد من الكوابيس التي طفقتْ مؤخراً تطارد نومي بإصرار وعناد فريدين. وكنت وأنا تحت سطوة تلك الكوابيس أصدّقها تمام التصديق، وتداهمني الحيرة في كيفية الخلاص من المواقف العسيرة التي ألفي نفسي فيها، فلا أجد مخرجاً. كنت أراني مرة هارباً بأقصى سرعتي أمام ضبع جائع هائج، وينتهي بي المطاف محشوراً في قفص مغلق وقد تقطعت أنفاسي من الجري، وغرز الضبع مخالبه في خناقي، وكشّر عن أنياب مدببة مثل منشار دائري. وأجدني تارة أخرى في قعر البحر بعد أن أسَرَني أخطبوط هائل ولفَّ أذرعه اللزجة حول رقبتي وأطرافي فقيّدها، وتعذر تنفسي تحت الماء. وأجدني تارة ثالثة مستلقياً على ظهري في بادية قفر وقد برك جَمَلٌ حقود على رأسي فمنع تنفسي، وأنا أرفس بقدميّ مختنقاً...

كانت الكوابيس تتفنن في تعذيبي بوسائل غريبة وطرائق متعددة لا تخطر على بال. ولا تنتهي تلك المواقف المرعبة إلا بعد أن أستيقظ وأتبين أنها مجرد أحلام مزعجة، فأشعر بشيء من الارتياح، وأحمد الله على سلامتي. لم أدرِ كيف أتخلص من تلك الكوابيس. نصحني أحد الأصدقاء قائلاً:

- نمْ خفيفاً وسترى!

- خفيفاً؟!

- نعم، خفيفاً. لا تتناول أية وجبة دسمة في المساء!

وهكذا توقفت عن تناول الأطعمة الثقيلة في العشاء. بل أكثر من ذلك تخليت عن وجبة العشاء بالمرة. ولكن ذلك لم يُجْدِ.

وقال صديق آخر: «كوابيسك نتيجة طبيعية لمشاهدة أفلام الرعب». فقاطعتُ السينما والتلفزة، وتجنبتُ قراءة القصص الكافكاوية وما يطلق عليه بعضهم «أدب ما بعد الحداثة» ويفهمه على أنه أدب الشذوذ والرعب. ومع ذلك فإن كوابيسي ظلّت مصرّة على التسلل إلى غرفتي بلا استئذان، وإرهابي وسلب النوم من عينيّ.

بيد أني تأكدتُ هذه المرة أن المسألة لا تتعلق بكابوس ليلي، وإنما كنتُ أرقد فعلاً في سرير بأحد المستشفيات، ولكن تعسّر عليّ أن أدرك كيف انتهى بي الأمر إلى المستشفى ولماذا أرقد فيه، وما هي وضعيتي: هل إنني ما زلت على قيد الحياة، أم إنني في طريقي إلى الموت؟ هل كنت في غيبوبة وشفيت منها، أم إنني لا أزال فيها أسمع ما يدور حولي دون أن أتمكن من النطق، وأشعر دون أن أقدر على استخدام حواسي، وينبض قلبي دون أن يستطيع جسدي أن يتحرك أو يحرك الأشياء حولي، بحيث يتساوى وجودي مع العدم؟ وكم ستستمر حالتي على هذا النحو؟ كنت أحسب أن الموت حيف يصيب الآخرين فقط، ولا ينالني منه سوء. وها هو اليوم يحل بواديَّ وينساب إلى رحابي.

إذن، حياتكَ في الحقيقة كانت مجرد حلم يتكسر اليوم كزجاجة هشة على صخرة الواقع. حياتك بما تخللها من أفراح وأحزان، وانتصارات وانكسارات، وأمل ويأس، تختفي اليوم من الوجود، الوجود الفاعل، وتمسي ليس أكثر من كومة من العظام وكمية من اللحم على سرير من حديد لا فرق بينه وبين رمس من تراب. إذن ما كانت حياتك إلا وهماً واهياً. وما خبرتَه فيها، وما فعلته فيها، ما كان سوى عالم افتراضي يومض ويخفت، ويتشكل ويتلاشى، على شاشة حاسوب تتحكم فيه عن بُعد قوى خفية لا يدركها عقلك، بل إن عقلك ذاته من صنعها وطوع سلطانها.

ثم أخذتُ أستردُّ ذاكرتي شيئاً فشيئاً، بفضل المحادثة التي كانت تجري بالقرب من فراشي وتتسرب كلماتها إلى مسامعي.

تناهى إليّ قول أحدهم: «سائق... ماهر... سرعة...».

وأضاف آخر: «... طريق... صحراوي... قليلاً... مخلوق...».

وزاد ثالث بصوت يشبه صوت أخي الكبير، وبشيء من المباهاة: «... سيارة... ذكية... حاسوب... طوارئ...».

ثم سمعتُ صوت سيدة يرتعش بالحزن: «... الله... ولدي... سالماً...».

ورحتُ أتذكر كيف وقع الحادث. وأردت أن أروي لهم ما حصل، ولكن لساني لم يتحرك، بل بقي هامداً كقطعة جلد جافة. ولم تسمح لي الكمادات المطبقة على شفتي بأية نأمة. وهكذا أمسيتُ مثل متهم يقف في قفص الاتهام وهو يستمع إلى التهم يكيلها إليه المدعي العام ويقذفه بها الشهود، ولكنه مكمّم الفم، مكبّل اليدين والقدمين، لا يسعه الدفاع عن نفسه بكلمة ولا حتى بحرف.

كنتُ قد توجهت صباح ذلك اليوم الشتائي (أو ربما صباح يوم سابق) من الإسكندرية قاصداً القاهرة، لمشاهدة عرض جديد لأوبرا عايدة التي ألَّفها الموسيقار الإيطالي «فيردي» في القرن التاسع عشر بطلب من الخديوي إسماعيل لتكون فقرة في برنامج الاحتفالات بافتتاح قناة السويس.

أعترف قبل كل شيء أنني كنت في تلك الرحلة متعباً بعض الشيء، مرهقاً بعض الشيء، كدأبي أبداً، مشتت الذهن بعض الشيء كعادتي دوماً. غير أن ذلك كله لم يمنعني يوماً من قيادة السيارة بصورة طبيعية والوصول إلى مقصدي بأمان. ليس في سجلي المروري، الذي يربو عمره على العشرين عاماً، حادثة سير واحدة، بل ولا حتى مخالفة بسيطة. نعم، حدث أن اصطدمت دراجة هوائية بسيارتي من الخلف، ولكن الخطأ كان مصدره صاحب الدراجة، ولم يتضرر أحد، واعتذر مني بأدب.

كان الجو ذلك اليوم صحواً، والشمس ساطعة، وليس في السماء سوى بعض الغمائم البيضاء التي كانت تتجول في السماء على استحياء وبلا اهتداء. لم أنم نوماً عميقاً في الليلة السابقة، فعلى الرغم من تعودي على السفر وكثرة التنقلات، فإنني لا أزال أجد صعوبة في الاستغراق في النوم إذا كنت أعتزم السفر صباح اليوم التالي، تماماً مثلما حصل لي أول مرة في طفولتي عندما أخبرني أبي أنه سيصطحبني معه في رحلة له صباح الغد. لم أستطع النوم تلك الليلة.

بعد تناول الفطور في مقهى يطل على شاطئ البحر، انطلقتُ بمفردي بالسيارة سالكاً الطريق الصحراوي في اتجاه القاهرة. لم أشأ أن أصطحب أحداً من أفراد العائلة أو الأصدقاء معي في تلك الرحلة، فكثيراً ما أشعر بالحاجة إلى الابتعاد عن الآخرين، إلى التحرر منهم، إلى الاختلاء بنفسي؛ فالوحدة تهبني إحساساً بالحرية والانطلاق مثل عصفور يطير مغرداً منفرداً في بستان فسيح. وكانت روحي في ذلك الصباح ترقص على أنغام الوحدة وإيقاع العزلة. عندما أغادر الآخرين وأنفرد بنفسي يمتد بساط الصمت والسكون على أنقاض الفوضى والصخب، وتكشف الطبيعة لي عن مكنوناتها، وتبوح لي الأشياء بأسرارها، تناجي روحي وتناغيها، ويدور بيننا حوار صامت. عندما أكون وحيداً تتطلع عيناي إلى السماء فتبدو لي نجومها أكثر لمعاناً، وأحس بضوئها يقطع ملايين الأميال ليقبِّل عينيّ ويهمس لي بأحلى الألحان، فأخترق جوف الزمن خارج أقانيم الوجود، محلقاً على أجنحة الأحلام. في العزلة تعثر روحي المضطربة القلقة على نقطة ارتكازها وتوازنها واستقرارها.

ولهذا كله فضّلت الطريق الصحراوي على الطريق الزراعي في تلك الرحلة، إذ تقل وسائط النقل التي ترتاده، ويندر وجود القرى على جانبيه. ومن أجل ذلك أيضاً أغلقت مذياع السيارة ليكثّف السكون والصمت من شعوري بالعزلة والوحدة.

كانت الطريق خالية تماماً، على عكس الشاطئ الذي شاهدته ذلك الصباح وأنا أتناول فطوري، فقد كان غاصاً بمراكب صيادي الأسماك وطيور البحر الطالعة الهابطة على سطح الماء. أما هنا فلم أرَ قدامي سوى الطريق السيّار الطويل الذي كان يتلوى مثل حبل أسود متين بين قوافل الكثبان الرملية الصفراء. وبعد ساعة أو أكثر ضغطت على أحد الأزرار بجانبي لأفتح نافذة السيارة وأملأ رئتي من هواء الصحراء الجاف لعله يطرد جحافل النعاس التي أخذت تعسكر على أجفاني بسبب قلة نومي المُنغَّص بالكوابيس منذ مدة.

كانت الطريق مقفرة تماماً، خالية من أي مخلوق أو نبات، حتى من أشواك الغضا أو شجيرات الصبّير التي نصادفها أحياناً في بعض الطرق الصحراوية. وبعد ساعتين تقريباً من السير في تلك الطريق المقفرة أخذت تنتابني الرغبة في مشاهدة الناس، رغبة الالتقاء بهم والتحدث إليهم. وندمت على أني لم أصطحب رفيقاً يسليني في الطريق وأسليه. أسفت لأنني لم أسلك الطريق الزراعي، حيث يمكنني التوقف في القرى المنتشرة على جانبيه وتناول فنجان من القهوة في أحد المقاهي، ومشاهدة المزارع والترع وبيوت الفلاحين والماشية والنخيل (في حقيقة الأمر كنت متردداً في الصباح بشأن الطريق الذي كنت أود أن أسلكه ومتردداً بشأن السفر وحيداً أو اصطحاب رفيق معي. فعندما كنت أتناول فطوري في المقهى على شاطئ البحر بالإسكندرية ذلك الصباح، لم أعرف بالضبط الحالة النفسية التي كنت فيها، الاجتماعية أم الانعزالية. كنت أتأرجح مثل كفتي ميزان، وأخيراً رجحت الكفة الثانية).

ولكنني –كما قلت- شعرت بعد ساعتين من السير في ذلك الطريق المقفر بأنني كنت مهيأً نفسياً للتوقف والتقاط مسافر من نوع «خذني معك!»، على الرغم من أنني قطعت عهداً على نفسي منذ أيام الدراسة الجامعية في فرنسا أن لا أتوقف في الطريق لمسافر من هذا النوع، بعد أن سمعت في الأخبار ذات يوم أن أحدهم قتل صاحب السيارة الذي أحسن إليه، وأخذ نقوده ورماه على قارعة الطريق، ثم هرب بسيارته. ولكن مع ذلك كله، فقد كان أي ظهور مرتقب لبدوية جميلة في تلك الطريق ساعتئذ كفيلاً بأن ينسيني ما قطعته على نفسي من عهد، والوقوف لها ومساعدتها على بلوغ مقصدها، لقاء بضع كلمات بريئة أتبادلها معها. غير أن تلك الأوهام أو الهلوسات سرعان ما تطايرت بمجرد إلقاء نظرة فاحصة على جانبي الطريق: لا شيء هناك سوى الفراغ والصمت. لا شيء هناك سوى الكثبان الرملية الصفراء التي تلمع تحت أشعة الشمس الساطعة. لا شيء في الطريق، ولا شيء على جانبي الطريق. لا شيء سوى الأصفر الشاحب الذي يسربل الرمال، والأسود الفاحم الذي يغطي الطريق السيار. وكأن ألوان العالم قد اختزلت في هذين اللونين، أو أنني أُصبت بعمى الألوان فلا أرى سواهما. ولهذا كانت دهشتي كبيرة عندما لاح لي، عن بُعْد، شيء أبيض على جانب الطريق الأيمن.

وخفّضت سرعة السيارة وأنا أقترب من ذلك الشيء المبهم الذي أخذ يبدو لي مثل إنسان ممدد على الأرض. ثم أوقفت السيارة بجانبه وترجلت. وما إن ألقيت نظرة سريعة حتى كانت المفاجأة كبيرة والدهشة عارمة، فشهقت قائلاً بصوت مسموع: يا إلهي! إنها فتاة في ربيع العمر!

أول ما جذب انتباهي هو طولها الفارع ونحولها الزائد. كانت مثل غصن أهيف، وقد أغمضت عينيها وأطبقت شفتيها على ابتسامة غامضة، وأسدلت يديها إلى جانبيها، وارتدت فستاناً حريرياً أبيض التصق على جسدها الناحل الطويل فبدت مثل عارضة أزياء عالمية تمثل دور الجميلة النائمة في رائعة تشايكوفسكي الموسيقية.

ثم رحت أتساءل في نفسي دون أن أتفوه بكلام مسموع، كأني أخشى إيقاظها: يا إلهي! أهي نائمة؟ أم هي فاقدة الوعي؟ أم فارقت الحياة؟ انحنيت عليها. وضعت يدي على جبينها. أحسست بدفئها. نقلت أناملي إلى معصمها أجس نبضها. شعرت به يتواصل مع نبض قلبي. ثم أمررت أصابعي على فستانها الحريري الأبيض (أو بالأحرى على جسدها، فقد كان الفستان شديد الالتصاق به وكأنه امتداد له أو جزء منه)، فألفيته أملس، ناعماً في منتهى النعومة، رخواً في غاية الارتخاء، جميلاً لا يشوب بياضه إلا بقايا خطوط أفقية بيضاء باهتة، مثل حراشف سمكة خرجت لتوها من الماس.

وقفتُ أتأملها وهلة، بل لعلّي تأملتها طويلاً! كانت ساكنة بلا حراك. وكانت ابتسامة حلوة جذّابة تغفو بوداعة على فمها الدقيق. شيء ما استوقف عيني وفكري على شفتيها. شيء ما في ابتسامتها حيرني وألقى ظلالاً من القلق في زوايا نفسي. فقد كانت انفراجة ثغرها تلك تحمل معاني متضاربة، فيها الإغراء بكل تأكيد، ولكن، في الوقت ذاته، فيها شيء من السخرية أو الاستهزاء أو التهكم أو... لا أدري ما هو، لا أعرف ماذا بالضبط. كانت ابتسامتها تجمع بين الحَمَل والذئب في قارب واحد ينحدر مسرعاً في رحلة خفية إلى أغوار نفسي، فيثير انفعالات متعاكسة سرعان ما تنزاح لتفسح الطريق أمام أسئلة ظلت تلحّ على عقلي: مَن تكون يا ترى؟ ومن أين أتت؟ وما دهاها؟ وماذا ينبغي أن أفعل؟

وانتبهتُ إلى بلادة السؤال وبلاهته. ما معنى ماذا ينبغي أن أفعل؟! فالفتاة بحاجة واضحة إلى مَن ينجدها، بحاجة إلى من ينقلها إلى مستشفى لإنعاشها ومعالجتها، تماماً مثلما فعل ذلك المفتش التربوي الذي عثر عليّ في طفولتي مرمياً فاقد الوعي في الطريق إلى المدرسة بعد أن سقطتُ من دراجتي بسبب برودة الجو القاسية وبسبب الإنهاك الذي أصابني وأنا أركب دراجتي من القرية إلى مدرسة البلدة، فأوقف سيارته وحملني ودراجتي معه وأسرع بي إلى البلدة لإسعافي.

وتحركتُ بسرعة فوضعت يدي تحتها وحملتها بين ذراعي ضاماً إياها إلى صدري. وكان رأسها يتدلى من الجهة اليمنى، في حين راحت ساقاها، أو بعبارة أدق، نهاية فستانها الطويل الذي حجب ساقيها، تتدلى من الجهة اليسرى حتى تلامس الأرض. وأدهشتني خفة وزنها، بحيث إنني استطعت أن أحملها بيد واحدة وأفتح باب السيارة بيدي الأخرى، وأمددها على المقعد الخلفي. ووسدتها سترتي التي كنت قد خلعتها بعد تناول فطوري على شاطئ البحر في الإسكندرية ورميتها على المقعد الخلفي قبل الانطلاق في الرحلة.

إستأنفتُ قيادة السيارة في تلك الطريق وأنا أُلقي نظرة بين الفينة والأخرى على المرآة الصغيرة أمامي التي عدّلت وضعيتها قليلاً لتسمح لي برؤية المقعد الخلفي. فكنت ألمح وسط الفتاة النحيف ممدداً على المقعد. أما رأسها وقدماها فكانت خارج منظور المرآة فلم أكن أراها.

وبعد مرور بعض الوقت وتكرر نظراتي إلى المرآة، اعتدت على رؤية وسط الفتاة فلم أعد أنظر إليها. لا أقول إنني نسيتها تماماً، ولكن اهتمامي اتجه نحو مسألة أخرى، هي كيفية مقاومة النعاس الذي أخذ يغالبني ويثقل أجفاني وأنا أقود السيارة، بسبب قلة النوم الذي تطارده الكوابيس كل ليلة. ورحت أذكّر نفسي بضرورة إبقاء عينيّ مفتوحتين وفكري متيقظاً لئلا تقع لي حادثة سير، لا قدّر الله. فاستعنت بالآليات التي ألجأ إليها في مثل هذه الحالات: فتحت المذياع على إذاعة القاهرة، التي تبث نشرة إخبارية مفصّلة في الساعة الثانية عشرة زوالاً. وشرعتُ أعدّ الأرقام تنازلياً من المائة إلى الواحد بصوت مرتفع. ثم رحت أدير رقبتي يمنياً وشمالاً.

وبينما كنت أقوم بهذه الحركات لإبعاد شبح النعاس عن عيني، تناهى إلى أذني هسهسة مثل فحيح يصدر من الخلف. فاتجهت عيناي إلى المرآة أمامي. وما إن وقع نظري عليها حتى فاجأني وهالني وأرعبني ما رأيت: لقد انتصبت على المقعد الخلفي أفعى هائلة متأهبة للانقضاض واللدغ، واشرأبَّ رأسها بالقرب من رقبتي. لم أتبين نوعها بالضبط، ولكنها كانت بيضاء اللون شبيهة بالكوبرا الهندية القاتلة، ولها رأس مثلث كبير، وعينان واسعتان، ونابان بارزان، ولسان دقيق طويل أحمر خارج من بين فكيها الفاغرين وهو يتذبذب ذات اليمين وذات الشمال. أما الفتاة النائمة فلم يعد لها أي أثر. كان جسم الأفعى الملتوي على شكل مخروط كبير يحتل وسط المقعد الخلفي، وفي أعلاه رأس الأفعى الكبير المتوثب المتحفز لمهاجمتي.

وبحركة غريزية تلقائية مفاجأة، أبعدتُ عنقي عن رأس الأفعى، ولا أذكر أي شيء حصل لي بعد ذلك حتى أفقت (أو ربما عدت إلى وعيي) في غرفة المستشفى هذه على وقع أصوات مبهمة.