العدد الخامس - صيف  2008م

   
 

نصوص سردية
 

الأزهار تعرش فوق أصابع صاحبي  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                 محمد عبدالوكيل جازم
                                                    قاص وروائي من اليمن.

 

تداخل هو في عتمات متحركة لا يدري أين يذهب. عيونه تمسح اللاشيء، وأقدامه تسير في اللامكان... في اللاأمام وفي اللاخلف منذ زمن وهو يبحث عن ذكريات لدنه كانت بالأمس قريبة منه، ذكريات عبرت في الصبح أو مرت في المساء. ولكن لا فائدة. منذ زمن مجنون، والجبال تبوح بأحزانها وهو لا يدري كيف خسر الكلام، وكيف خسر الشعر، وكيف خسر الكتابة والصراخ والأغاني، والأحضان الدافئة والأوجاع النبيلة خسرها أيضاً... يا الله! حتى الأوجاع النبيلة صارت عصية، الوجع الذي كان بالأمس مثل عينين فاتنتين ومثل غزالتين شاردتين ومثل طفلتين ضاحكتين، ومثل وردتين، هو -أيضاً- صار بعيداً. والأصدقاء أينهم؟ بل أين انخابهم؟ لا... لم يموتوا... إنهم يتصارعون في حلبة لا ترى أين، إنهم يعيشون في المنطقة الفاصلة بين الحلم واللاحلم، بين الضوء والظلام بين الظل والشجرة، بين الصوت والمفردة، بين الذاكرة واللاذاكرة، وفي المناطق المحرمة عادة.

                        * * *

 توابيت الأيام ترى، ولا شيء يتساقط سوى الأعقاب. لم يتبق من الدموع سوى خطوط سيرها، ولم يتبق من النزيف سوى الفتات، ولم يتبق من الماء سوى السراب الدائم في المسافات الطويلة.

 أي ثورٍ هائج هذا الذي فقأ بقرنيه فرحة الصمت! أي ثعبان مشوه هذا الذي يقف بين الخطوة وشقيقتها، بين خطوط الأزمان المستهلكة، وخيوط الجغرافيا المترنحة! أي مارٍّ هذا الذي كلما شعر بفتوّته ذهب للنيل من أمه وأقاربه وأشقائه! أي كائن هذا الذي يهيج ويزمجر ويتراكض بقدميه من أجل الفراغ!

                         * * *

 تحول صديقي إلى كائن جنيني يتكوم في الزوايا ويقتفي أثر الجراحات الناغلة. إلى أين تقوده قدميه؟ والطفولة التي شكلته تنحاز إلى اليوم، إلى الليل الواقف والحاضر المتهاوي. ذهب صديقي إلى المقهى، وهناك طلب كأساً من الشاي، ثم استقام ذاهباً إلى المرآة الناشبة في جدار الحزن، فوجدها سانحة، قال لوجهه: "قوتي في طفولتي"... نعم، في طفولتي التي صوتت ضد النوم، وضد اليقظة وضد السكون. لماذا لا أعود إلى طفولتي ومنها أمارس جنوني اللذيذ!؟ طفولتي التي تحركت، دون أن تدري وتدري، في الأمكنة المسكونة بالجن والشياطين. طفولتي التي اكتسحت بيوت الخلوات المهروسة بأشباحها ثم نزلت إلى آبار الرعب وصرخت في وجه المرض، طفولتي التي عاشتني وعشتها... إنها ترفض شيخوختي المبكرة.

 هل حقاً أنا اليوم ابن كفني!؟ كفني الملقب بمنقذي من الجنون، كفني الأبيض الذي ينتفخ ليصير أحياناً منطاداً يتحرك حول العالم ويتحول أحياناً إلى كونه لفائف وأحياناً إلى آهة تترك بقعاً صفراء في واجهات زجاج الدنيا.

 الفراغ يدكّ جدران أيامي، يفعل ما لا تفعله القنابل الذرية. لكني أقاومه بطفولتي، طفولتي أقوى من كل شيء، إنها أقوى من تلك القنبلة.

                         * * *

 خرجوا جميعاً إلى المساجد لصلاة الجمعة ولم يتبق سوى صديقي "م. ش" والشارع العام المفرغ من جلده. وجدها متعة... كان ينظر في الحقيقة إلى لافتة تحركها الكهرباء. احدودب... بدا ممسكاً بأصابع رجليه، ومن فمه تخرج المفردات: طعنة، طعنتان، ثلاث طعنات، عشر طعنات، خمسون طعنة، مائة طعنة... داخ صديقي، تبعثر جلده المائي في اتجاهات الرصيف. ثمة دويّ عالٍ، انفجار كوني، قاومه صديقي، وهو ينظر إلى جسده الممتد كالصليب، الجسد المرسوم على اللوحة الإلكترونية الآن، الجسد الطفولي الذي كأنه في يوم ما.

                         * * *

 كان صديقي بالأمس قيمة جمالية تعتمل في بطون الأزهار وعيون الأسماك، وتعاريش الأنسجة.

 كان صديقي موقد حب، ومجداف شمعدان، ونشوة أسلاف، تمر فوق سماء الجبال. كان صديقي شرفة تتطلع إلى جزر المجرات، شجرة حمراء تمد ضفائر جذورها للماء وتضحك إن مستها الأعماق. كان صديقي طيراً يغرد فوق رفوف القصيدة. كان غيولاً من البنفسج الذاهبة في طرقات الله كان طفلاً، كلما ظهر قوس قزح حاول الإمساك به.

 كان صديقي فرحاً مطرزاً بالتبغ، مطرزاً بالجوع، عطره رائحة الخبز، وعيده فرحة لا يراها أحد.

                         * * *

 قولوا لصاحبة صاحبي: ما من نجمٍ إلا وأشعلَ موقده في عين صديقي. ما من بحرٍ إلا واستلقى في قلب صديقي، ما من زهرٍ إلا وعرَّشَ فوق أصابعه.