العدد الخامس - صيف  2008م

   
 

نصوص سردية
 

حكَّـــاء (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                 محمد الشلفي
                                                    شاعر وأديب من اليمن.

 

- السيرُ في البرد مفيدٌ. كما أن الأقدمين كانوا يحبُّون الوقوف في المطرِ. وكانوا لا يلْبِسون الكلام كما نفعلُ. وبالقليل يقدرون على رتق ثقوب تطرأ. 

- الذهابُ إلى العرَّافة يجيب: كنتُ أمسك بالعولمة في يدي كحمامةٍ، وكنت والبرد، والكلام المالحُ، والدخان!

 الحكاياتُ تلكَ التي صعدتْ منْ فؤادكَ مثلمَا تصعدُ الكحةُ المالحةْ...

والدخان يؤاخي الهواءْ،

والعلوم الحديثةْ ما خالفتنا البقاء.

الحكايات تلك: الدخانْ.

والعلوم الحديثةُ

ممزوجة بدمٍ يمسك الوقت، لكنها لا تجيء.

مفردات حرب

نفسُها المفردات إذ تمرَُّ علينا. لمَّا مات الإمام، ولمَّا ماتت الرعية. مات الإمام بكفٍّ، ومتنا بأكثرِ منها. الصديق العدوُ، والعدوُ الصديقُ، والعدو العدو. منْ يرسم الخارطةَ ويدخل إلينا عبر ثقوب توارثناها؟

اخـرجِ الآن إني أجيء إليك وعند البيوت بكاءٌ طويل.

وعندي احتجاج على كل من يتناسى مواقيتنا

وعندي نداءٌ لقلبك...                                                                              

هل نحن بيتٌ أم البيت نحن؟!

وعندي جراحٌ تجددها الريحُ،

والجند،

واللحظاتُ التي تبعثُ الارتباك.

نفسها الطعنات إذا سـدِّدت! والغريبُ والقريب أتوا. سُددت من مكانٍ مسجَّى.

ربي...

لمَ يسقطُ قلبي بين الفينةِ والأخرى؟

لمَ يتوزعُ رأسي بين جميعِ الخلقْ؟

لمَ يهربُ مني وطني ودمي؟

لمَ يبدو الفجرُ ضَلالاً عندي؟

لمَ تبدو أوردتي مدمنة لدموعي؟

لمَ يا ربي أغفو حين يريدون ولا أغفو حين أريد؟

لمَ يتلبسني الموتُ،

جنوباً؟

لمَ يا ربي يوثقني الحلم بعيداً مني؟

لمَ لا أذكر ما أخطأني؟

الفتاة لا تأبه لجمالها!

تجلسُ غافلةً وضامةً يديها: هل سيأتي بخاتم ذهبي وبخيل يمررني إلى بقعة مأمونة؟ لست بأنف حادةٍ، ولا بعيون مكحَّلة، ولا بشفاة مدغمة. شَعري لا يشبه الليلَ، وأصابعي شاردةٌ. ويسقطُ طفل مارٌّ في الشارع أمامها، تفزع الفتاة، وتنحدر على خدها دمعة!

 بدونك هذا الصباح ضَلال الغريبِ...

تجيئين فيه مزينة بالنقوش القديمةِ

مطوية بحكايا مخبأة في بطون السنين.

بدونك هذا المساء يمد يديه إلى أول العابرين.

من بداياتهم

تنكرُ العاشقاتُ أسرارهن، فلا أحد يعلمُها. والغرباءُ يتداعون فارغي الأيدي. سربهم باردٌ، وأصواتهم هاربة من صداها. يدربُون الجرح فيتسعُ، ويصبحُ بمقاس الموتِ. ثم من نهاياتهم يندبهمُ الآخرون.

 كان يباباً فتحدته الريحُ

وكان سراباً فتحداه الظلُ

وكان يموءُ، تحداه الصوتُ، تحداه الموت.

تنام على النص

كان البردُ يشي بالفصلِ إليها. تخرجُ كي تبحث عن كوبٍ ساخنٍ يدفع عنها ما تطرقه الذاكرةُ وما يُعاد من الماضي. تمرُّ بقرب الذين يهربون من الشتاءِ بالدخانِ. أهملها البعضُ، وقلـَّب البعض أيديهم. وجاء هو ليبرر بحثها عن شيء يذيب الشتاء في قلبها. أجلسها في كرسي مثلما يفعل الجالسون. تركها ومشروباً ساخناً، وحذاء جديداً. فانكفأت:

«كانوا عزائي بهذي البلاد التي لم تعد ترتوي بالعبور".

وكنتُ أنا في الشتاءِ القديمِ ألملمُ أطرافيَ الميتات، وأنشر من ريحةِ الأهلِ في كل زاوية من فؤادي. وكان الغروبُ يكفِّنُ جسمي ويرسلني نحو"كبدٍ" أليف. وكنت أمدُّ ذراعي لكي أحتويهم فأكبرُ، لحظتها، كسماءٍ تغربل حاجات من أخذوها، وهم يمرقون أمامي صلاة تُخلِّصني من عيونٍ تجيد اقتناص الخطايا، تُغلف رجلي الشوارعُ أنَّى ذهبتُ، تعاتبُ فيَّ الحضور المفاجئ للرمل والوردِ والعتبات الصغار.