العدد السابع - ربيع 2009م

   
 

نصوص سردية
 

مليون عصفور يسكنني (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                            نضال الإرياني
                                              قاصة من اليمن.

    تجنح بي عصافيري الملونة بألوان قوس قزح، عاااالياً في عنان السماء. يتربص بها واقعي، الذي يُنصّب نفسه -عنوة- حكماً بيننا ولا يرضيه انطلاقها أو حتى مجرد امتلاكها لأجنحة تمكنها من الخلاص من قبضته الخانقة، هادفاً إلى اقتناصها عصفوراً تلو عصفور. أحاول قدر طاقتي التفاهم مع عصافيري على أن يتم تحليقها بهدوء بعيداً عن إثارة أي ضوضاء قد تستفز عفونة واقعي، التي يتقوقع حولها في أعماق سقر ومنذ غابر العصور، إلى درجة ألف عندها التنفس في اللاهواء، وألف في الوقت نفسه التمويه عن عفونته، بالتربص بأسراب عصافيري النافرة، النازعة دوماً صوب المساحات الخضراء وحدائق الجمال الوردية المشرعة على رحاب الحب والعدل والسلام، في محاولة منه الانتصار لألسنة لهبه المستعرة، ولهف فرص الحياة المتجددة أمام عصافيري، والممتدة بامتداد صفحة السماء وآفاقها اللامتناهية. أنجح أحياناً في تدجين عصافيري العنيدة الصعبة المراس، حتى لا تلهفها ألسنة ذلك الجحيم الدائم الاستعار، كما تلهف النار الفراش الراقصة حولها، وأعدها أن أحقق أحلامها المشروعة في الانطلاق  بفضائها الواسع الرحيب، عبر مراحل لا دفعة واحدة. غير أن مجهودي العظيم، الذي لا يعلم قدر عظمته غير عصافيري وأنا، يواجه بأفواه بنادق واقعي الصدئة المصوبة صوبها، تصب عليها وابل نيرانها العمياء، غير مفرقة بين صغارها وكبارها، ولا معترفة بعامل الزمن والعمر الافتراضي الذي يُفترض أن تُمنح عصافيري كامل إرادتها وحريتها فيه. ولكم هو مؤلم أن أجدها تتساقط تباعاً ليستمر سقوطي مع كل واحد منها، مضرجة بدموعها ودمي! فأنا لا أحتمل أبداً أن أرى عصفوراً من ملايين عصافيري الجميلة يهوي ويسقط، لا ليموت ويستريح وأستريح معه وله، بل ليسجن مكسور الجناح والساق في قفص من جحيم إلى الأبد، يظل يستمد دواء جروحه من نخاعي ودمي، عبر تغاريده الحزينة التي يرسلها من خلف القضبان اللاهبة، متوسلة للنجدة والغوث. فعصافيري لم تخلق لتموت، لأنها الحياة عينها. وهنا تكمن مشكلتي معها ومع واقعي المتحجر العقلية، الذي يقع دائماً -رغم التنازلات الكثيرة- في مواجهة عنيفة معها، إلى درجة أفقد عندها توازني وقدرتي على التوفيق بين النقيضين ؛ بسبب استمرار تجاهله لحشرجات عصافيري المخنوقة وتوسلاتها المستجدية لحقها المشروع في الوجود والحياة والتنفس بسلام.

  يتساءل كثيرون عن سبب ظهور ملامح النحول المرسومة على جسدي، التي تظهرني كما لو كنت طفلة صغيرة. بدوري أستغرب سؤالهم كثيراً، خاصة أولئك الذين يدّعون معرفتهم بي، لأنهم لو كانوا يعرفونني حقاً، لما استغربوا هزال جسدي. لا أجيبهم، وأتجاهل سؤالهم غير المشروع أصلاً، لكنني في الوقت نفسه أسأل نفسي: هل هم بلا أرواح حالمة، حتى يسقطون عليّ ذلك ويرونني محض جسد؟! أم أن الأنانية والأثرة استحكمت بنفوسهم الجدباء والمعدمة إلى درجة ينكرون عندها حقي في الانتماء إلى عالم الإنسان وتمتعي بكامل صحتي وعافيتي، وحق عصافيري في الحياة الحرة الكريمة والتغريد في الفضاء الرحب الملوّن والجميل!!

حقيقة لا أعلم حتى الآن إجابة  لتساؤلي السابق، وإن كانت بوادر الإجابة عن تساؤلهم تلمع في مخيلتي؛ فمن أين لجسد سلبت منه حواسه ومنعت حقها الطبيعي في الأخذ والعطاء، وحيل بينه وبين عقله بسياج مكهرب منيع، أن ينمو ويزدهر؟! فمنذ أن وعيت وأنا أجدني مسلوبة الحواس والعقل، شُيدت على مساحتهما حواس أخرى عاطلة وأفكار عقيمة لا تنتمي لأيّ من دمي أو دم عصافيري. وكلما سلبت مني حواسي وعقلي هزل جسدي، حتى وقف نموه تماماً، ليصبح مثل: "حنظلة" ناجي العلي، مضرباً عن النمو والازدهار حتى يستعيد حريته واستقلاله. وإن كانت عصافيري -في المقابل- تزداد نمواً وتنوعاً -رغم توقف نمو جسدي- حتى أوشكت على أن تجنح بي وأجنح معها في رحلة مؤبدة خالدة، نرفل معاً في عالمنا الحر الطليق، الذي سنمتلك فيه حريتنا في التنفس والاختيار، بعد أن تحررنا من متاهة: واقعي، جسدي، حواسي، عصافيري... تلك المعادلة الصعبة غير القابلة للحل في المستقبل المنظور والبعيد على حد سواء.