العدد الثامن - صيف 2009م

   
 

نصوص سردية
 

هروب زعيم ميت (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                                       زيد الفقيه
                                                                        قاص
من اليمن.

"إذا الشمس كُوِّرت...،...
            
وإذا الوحوش حُشّرت"(1)
                            
وإذا القيم بُدِّدَتْ،
                                    
والأموال عُبدت،
                                                 
والصلاة جُمّدت
                                                              
والسلطة أُلهِّت.
                                            
فأما بعد:

فقد كان من رجالات (الدولة،) كما هو معهود عند بقية الزعماء. واتكأ على تاريخ أسرته المشهورة بسحل الفقراء... وضم ممتلكات المرحوم -بعد موته- بالوراثة.

ثمة مرحلةٌ باردةٌ في حياته السياسية... حين رأى أن التيارات الدينية المتطرفة تُقَوِّي وجودها السياسي، راودته نفسه بتزعمها على الرغم من أفكاره اليسارية.

اتخذته زعيماً لها وافق ذلك هوى نفسه، وصار زعيماً دستورياً كبيراً؛ فجأة أفلتْ روحه مع انطفاء قرص القمر. إثر توقف قلبه عن الخفقان -وهو يمارس صلاحياته الدستورية تحت قبة زعامته- أُعْلِنَت حالة الحداد في البلاد، ونُكِّستْ الأعلامُ، ونامت الشمسُ، وأفاق الأنام.

أسرع الجانب الرسمي بدفنه تطبيقاً للمقولة: "إكرام الميت دفنه".

حضر الزعماء للدفن خلال ست ساعات. انطلق موكب الجنازة -حمولة فوق عربة مرصَّعة بالمعادن النفيسة- عابراً الشوارع المؤدية إلى المقبرة، ورتلٌ من جنود المراسم يمشون الخطوة البطيئة دون  أصوات الموسيقى  الحزينة.  

آلاف المرافقين للجنازة يسيرون خلفها، تظللهم غيمهٌ من الغبار المتطاير فوق جوقة القبيلة المحتشدة والمنافقين. وصلت الجنازة إلى مُبْتَغاها. دُفن الزعيمُ ونادى المنادي بجموع الناس: العزاء في (...) لمدة ثلاثة أيام

اصطفت الحاشية لاستقبال العزاء، ينقصها الزعيم  المنتظر. تهامس بعض الخبثاء من المعزين عن سبب غيابه. قال أحدهم: لم يستطع تحمل هذا الموقف! قال الآخر: "الأمر ليس كذلك لقد ذهب لترتيب أمور استلام الزعامة". قطع حديثهما أحد  المعزّين حين طلب إليهم التقدم بالطابور...

انتهت مراسم الدفن واستلام العزاء، وعاد الزعماء إلى مقار إقامتهم، البعض يستعد لعودته إلى بلده، والبعض الآخر لأخذ قسط من الراحة بعد يومٍ مشهود لجنازة في مخيِّلة الكاتب!!

كان المجلس النيابي منعقداً حين غياب الابن الأكبر عن استلام العزاء. بعد لُحَيْظات فقط من انتهاء الدفن أعلن المجلس تنصيب الزعيم الجديد بطريقة ديمقراطية حرة نزيهة.

ألقى خطبته العصماء، وانصرف مطمئناً تحفه مواكب الحراسة.

مرت الساعات، وصلت إلى 24. استيقظ الأب في قبره بعد مرور الساعات المفترضة للسكتة القلبية. كان رابط الجأش في قبره، مؤمناً بقضاء الله وقدره، لولا تَذَكُّرهِ للخطب المتوحشة التي كان يلقيها على مسامعه زعماء القيادات الدينية المغالية، وهم يتعمدون وضع الله مكان الجلاد.

ترك القبر وفرَّ هارباً بكفنه، مكشوف الرأس، حافي القدمين. خرج من باب المقبرة والأطفال يصرخون: "ميِّت! ميِّت! ميِّت!...".

حين عبر الشوارع كان البعض يراه مجنوناً حداثياً ممن يجيدون فن تمثيل الجنون. والبعض الآخر كان يفرُّ هارباً وهو ينادي: "ميِّت! ميِّت!...".

اتجه مباشرةً إلى مقر حكمه، حيث يتواجد أنصاره. عند وصوله المدخل الرئيس لـ"البيت الأبيض" لم يقف له بتعظيم السلام غير الجنود البسطاء! وفي البهو تعرَّض له الجنرالات محاولين طرده. صعد السلم بعد جوقة البهو. وصل إلى مكتبه. وجد ابنه قد جلس على عرش الحكم. أعلن رفضه لذلك؛ لكن الابن أجهز عليه بالضرب بغية إعادته  إلى قبره. إلا أن تدخل القبيلة، ووساطة بعض أعوانه بالتحكيم لحل القضية، أفضيا (بتلك اللوثة) إلى أن يواصل الابن زعامته ويظل الأب...  

 النـزهـة، 12/2/2004