شهادات
شهادات نسوية عن السرد ()
تحرص «غيمان» في أعدادها المتوالية على تقديم الرؤى والتجارب الشخصية للمبدعين
والمبدعات، وفي هذا العدد نقدم مجموعة من التجارب النسوية مع فن الكتابة.
نحلة تناوش دمي
هدى العطاس
قاصة من اليمن
في
سبعينيات القرن المنفرط حضرت إلى الدنيا. كان عقدَ التغيير في اليمن. همهمات
العجائز تشي بامتعاضهن: "لقد تغير الوادي وانفلت الحال!".
وحينما
استطاع رأسي حمل نظرتي إلى أعلى، راقبت سماء الوادي حيث تتربع كقطعة حلوى،
وجباله المقدودة بعناية: أثداء منبسطة لمساقط السيل، شخب غزير من اللبن المنهمر
بجموح. هكذا تراءت لي. لم تكن أثداء الجبل تحتجب بساتر، بينما نساء وادي الحميم
يتسربلن السواد وإن كنَّ يطرِّزن سواد ملابسهن ببعض الزركشة، فأنى لهن زركشة
أعمارهن المسفوحة بانتظار الغائبين! الغياب كان قدرهن والانتظار الممض كان
الوسيلة القسرية لتزجية الحزن، وليزدردن اللحظات المهدورة في أعمارهن العاطفية،
الغائب في الغالب رجل سرقه المهجر، أباً أخاً زوجاً، أو وعداً طال انتظاره.
كان
عالم طفولتي نسوياً خالصاً، يحضر الرجل فيه كاستيهام محفوف بمتعة المجهول
والخوف منه. توارثت نساء العائلة -حد الاعتياد اللا مبالي- انتظار رجالهن
المهاجرين إلى القرن الأفريقي وشرق آسيا وشبه القارة الهندية، ومن ثم أضيفت
بلدان النفط العربية مهاجر جديدة.
عجائز
الوادي كنَّ يؤكدن أن الوادي وناسه قد عصف بهم التغيير. وأتذكرني طفلة تلصق
أذنها بالنافذة (المصكوكة) بعنف، أصيخ السمع إلى أهازيج الشعارات الثورية التي
تندد بالمنظومة التقليدية وعلى رأسها طبقة "السادة" التي أنحدر منها. أتذكر
برطمات أمي إثر غلقها المتوتر للنافذة. كان أحد رجال البروليتاريا، المحتدمة
كخطاب، يصرخ بملحمة أكل اللحم النيئ بعد أن عادت بهم "القلابات" (شاحنات النقل)
كما يطلق عليها في الوادي، عادت بهم من إحدى الانتفاضات الشعبية التي كانت تعم
البلاد وقتها، وخاصة في وادي حضرموت، معقل الفكر الرجعي كما كان يوصف في تدابير
المد الثوري.
كان
السبعينيات عقد المتغيرات الاجتماعية. الطفلة التي كنتُها لم تدرك أنه كان
انعطافاً مغايراً حتى على مستوى الأسرة، وإلاَّ لمـا احتلت رواية "موسم الهجرة
إلى الشمال" للروائي السوداني، الطيب صالح، أرفف والدتي، تجاور أدوات زينتها؛
الرواية الأكثر جرأة بمقاييس ذلك الزمان الشخصي، بمحمولاتها وجرعاتها المكثفة
من الجنس والنساء والصراع. وانفتح معها عالمي القرائي. كنت في السابعة لم
أفقهها. وبمثابرة نحلة تبحث عن رحيق يومها، كانت مكتبة أجدادي وروداً أفتح
بتلاتها. ولا أكتفي نبشاً في زوايا دار أخوالي الفسيحة المتشامخة، بحثاً عن ولو
مزقة من كتاب.
وفي
ركن قصي محجوب اخترت -بعناية- صومعة لعوالمي التي كنت ألجها بشغف شاهق، منغمسة
في سهوب الكتب.
لم
تكن تلك الصدفة المكنونة، التي اخترت خلالها كيما أتصاعد في عوالم القراءة، سوى
غرفة المناحل. وقرب خلايا العسل كنت أتصادى والنحلات؛ تخلق أقراصها العسلية،
وأخلق أنا أقراص وعيي الذي سيصبح صورة عمري القادم، أشواقي تطلعاتي الإنسانية،
كامرأة قاطعتها الظروف ومجتمع لا يعتني بأشواقها وتطلعاتها بل يئدها بتدابيره
الظالمة.
في
أحد الأيام لم تطق النحلات ظلي الثقيل عليها، ربما، وعوالمي الضاجة اللامرئية.
ولعل شعوراً بالمنافسة داهمها فتولت إحداها السعي بحقد شديد. وعلى إثر صرخاتي
تداعت نساء العائلة إلى مكمني الحصين. فُضِحَ سري، ولم تنفعني شفاعة والدتي
لديهن، خبئتْ الكتب عني، ومرضتُ بالحنين إليها.
أيامها
كان والدي قد عاد في زيارة قصيرة من مهجره الطويل، ورأيت في عيونه التواطؤ.
بعدها تخلل همس مؤامرة تحاك لإجهاض عوالمي، وكانت مشروعاً لتزويجي يدار خفية،
ثم علناً.
فزّ
كياني الطفل، واختلجتُ مستنفرةً كل قاموس التمرد. وعطفاً على هذا التواطؤ
القاسي صدعت علاقتي بوالدي: الغائب الذي انتظرناه برفيف قلوبنا. كان مهجوساً -
على منوال مجتمعه الذكوري- بذبح تطلعات الفتاة قبل أن تشب عن الطوق، فكيف بي
ونترات التمرد تنضح من مساماتي!!؟ غير أن أمي التي سبقتني إلى عوالم الدهشة
والقراءة والحلم، وقادتني إليها، كانت لي أقوى معين، وكانت -ومازالت- التحالف
الأهم في عمري كله. وهكذا حدت بمصيري عن سهم اجتماعي كاد المجتمع الذكوري يصوبه
نحوي.
وفي
انسلال كخلاص كان القدر يواعدني بفضاء جديد ينتظرني: عدن، مدينة مفتوحة بعيون
على الأفق، بحر تتجاور على شاطئه المتناقضات، عالم المدينة التي لا تحد مفاجآته
القادمة من الريف مثلي. منحتني (عدن) ناصية ذاتي، كللت تطلعاتي بأدوات التمكين،
توسع عالم القراءة عندي بالمكتبات العامة ومكتبات الأصدقاء دونما رقيب، مقروناً
بمجتمع منفتح، وتعليم مختلط، يجاور فيه درجي درج زميلي؛ مما نزع رهاب الرجل
داخلي، وعالج علاقات الذكورة والأنوثة التي كرسها مجتمع الوادي. نافحتني عدن حد
التشيع لطموحاتي، وكانت فرصتي كيما أكون على قدم المساواة مع زملائي، والذهاب
في تجاوزهم والتغلب عليهم، ولو في لعبة تنس. أستخرج العذر لتطرفي؛ فسنين
التمييز السلبي ضدي كأنثى لا تغادر خواطري، وتلغم هواجسي دافعة بي إلى أقاصي
الحضور المبتغى.
في
عدن أيضاً حضرت السياسة، بوعيها التنظيمي، ومزايداتها الحزبية، والأجنحة
المتصارعة للإخوة الأعداء يقتتلون على ضفاف تكتلات المصالح والمناطق، والتشنج
الأيديولوجي، ودورات الدم تغذي شجرة "الأخوين" في ربوع ما كان يسمى "جنوباً"
قبل الوحدة، واستمر إلى بعد الوحدة، وكأنما دم الإخوة المسفوح بأيدي الإخوة
قَدَرُ اليمنيين، وتميمة بقاء الطغاة. راودتني التنظيمات الشبابية السياسية
يومها الانخراط فيها، غير أن وعيي كان قد أنجز قناعته؛ قررت عدم الانخراط في
تأطير سياسي. كنت ومازلت منفكة من تكلسات الأدلجة، أياًّ كان دثارها، وفضلت
مقعد مراقب يبدو محايداً.
على
حين غرة داهمتني الكتابة. لم أؤثث حياتي لمتوالياتها. منفكةً من وعود تقليدية
وشوشتها نفسي، جرتني الكتابة إلى عوالمها. أغوتني النشوة الخالصة حينما أفرغ من
نصٍّ أكتبه، تجليات المعاني محمولةٌ على مفردات خاصتي، زفرات التعبير المحشورة
داخلي وهي تنضو عن نفسها غلاف المسكوت، العناد المتصاعد بين دفتي النص لتاريخ
المحظور الاجتماعي. وأهمس لكم سراً: تبهجني انفراجة عيون قارئ لا يُخفي دهشته
حينما يقرأ لي. كنتُ أكتبُ وكأنما أنتقمُ من تاريخ إقصائي وتهميشي كامرأة. أكتب
وفي رأسي كل نساء المعمورة، على امتداد التاريخ. أكتب بحزن رجعي لكل بنات جنسي،
تصطخب معاناتهن داخلي. تحضرني جداتي الحكاءات المحزونات. تنفلق الكتابة عن ذوات
تأبى التغييب...
مع
الانخراط والاستغراق في التجربة الكتابية، خفَّ الهاجس السالف. لا أقول استرخى
النزق الكتابي لديَّ؛ لأن الكتابة في ذاتها قرين النزق وصنوه، ولكنه خف ربما
نزوعاً إلى تضاريس نص أقل نتوءاً وحدية وحدة...
هل
الكتابة فعل تغيير اجتماعي بيقينية؟ هي كذلك بالتأكيد. وإن لم تكن فعل تغيير
مباشر فهي اندراج في تغيير عام يختضم به المجتمع. الكتابة تبتدر الأسئلة وتتوسل
أجوبة، ولو بدت خجولة أحياناً. يقفز السؤال مني إليَّ قبلاً: هل شارك نصي في
تغيير ولو يسير؟ لا أرى تجربتي ناجزة كما أصبو، لذا لن أتنطع بحكم يهزم طموحي،
غير أنني أستشهد بعقد من الكاتبات، السرديات على الأخص، انتظم في العقد
التسعيني وما بعده، شكل فارقة وتمييزاً إيجابياً رافق متغيرات الواقع الاجتماعي
والسياسي والاقتصادي اليمني والعربي والدولي، التي طفت في السنوات التسعينية
وإلى الآن، وكان حضورهن النصي القوي دوال لمقابلات التغيير في المجتمع، ومعبراً
عنه ومبشراً به أحياناً. فنبيلة الزبير، وأروى عبده عثمان، ومها ناجي صلاح،
ونادية الكوكباني، ومنى باشراحيل، وريا أحمد، ونورة زيلع، وهند هيثم... وغيرهن
أخريات لسن أقل إجادةً وتميزاً، تألقنَ وما زلن في المشهد الإبداعي والثقافي
اليمني، حضوراً نوعياً ومتنوعاً وتنويعاً على ثيمات المتغير الواقعي، ودفعاً
بحضور نسوي مائز يواكبه، نشداناً لحضور فاعل للمرأة في كل مفاصل الفعل
الاجتماعي، يفتت ما ترسب من "تغريبة" التهميش الطويلة، وإن كان المدى مفازة لا
يُستهان بشراكها، غير أن للتجلي اجتراح المعجزات.
عندما «تجابه» الكاتبة القبيلة...
وترفض النشر بإسم مستعار
هدى النعيمي
قاصة من قطر.
لم
يكن سهلاً قرار أن أُقدِّم نفسي للقارئ كاتبةَ قصة، فأنا باحثة في العلوم
الطبيعية، الفيزياء هي مجال دراستي الأكاديمية، وهي مجال عملي وانشغالي.
والكتابة بالنسبة إليَّ هي ثوب العيد الذي أرتديه عندما أفرح، وهي أيضاً
الشريان الذي يقطع نفسه ليسيل منه حزني الدفين، هي دنياي التي لا يدري بها إلا
الأقربون، لا يدري بهواها إلا الأحبة. لم يكن سهلاً أن أعلن أني مغرمة بعالم
الكتابة والعزف على أوتار الكلمة. مولعة أنا منذ حين بتسطير القصة في قالب فني
اصطلح على تسميته قصصاً قصيرة. ومع اتخاذ القرار، كان لزاماً أن أختار ما بين
اسم مستعار أستتر به، وأحتمي به من ثورة القبيلة عندما تثور، أو أن أعلن مَنْ
أكون منذ القصة الأولى. وكان الاختيار الثاني اختياري؛ فأن أملك ما أقول فعليّ
أن أرفع صوتي الذي ليس بعورة، وعليّ أن أبوح بكينونتي ككاتبة قصة. ومن أقاصيصي
سأخبركم من أنتم.
على
غلاف المجموعة القصصية الأولى، كتبت اسمي الصريح، ورسمت على الغلاف مِكْحَلة،
وهي -كما تعلمون- أداة لزينة المرأة في معظم الأحوال، ثم جئت بالكتاب لأبي الذي
لم يُعلق، وجئت به لأمي ففرحت لاسمي المطبوع على غلاف كتاب ملون، ثم جئت به
لأختي -رحمها الله- فقبّلت وجْنتي، وكانت القُبلة زادي للكتابة ولا تزال.
دارت
المجموعة دورتها الإعلامية، وكان لها الترحيب في محيط النقد والضوء الإعلامي
الجميل. والقبيلة لم تعترض ولم تحاكمني. كل المخاوف الأولى كانت وهماً صنعته
سنوات من الخوف من إعلان اسم الأنثى ولو من الظهور في بطاقة عُرسها، فما بالك
على غلاف يحكي أقاصيصها؟
المجموعة
القصصية الثانية سمّيتها "أنثى"، وكانت تدور حول أحاسيس أنثى تتحرك عند
اقترابها من رجل يعني لها المعنى، أو تتجمد عندما يقترب منها رجل لا يعني لها
سوى اللا معنى. خرجت "أنثى" (المجموعة) بصوت أكثر حدة من سابقتها وأيضاً لاقت
من الأصداء الجميلة ما لاقت.
القبيلة
لم تغضب، والمجتمع لم يعاقبني؛ لأنني تحدثت عن رجل يُعدد الزوجات، لأن الشريعة
قد أحلت له ذلك. ولم أعاقب، لأنني تحدثت عن رجل المال يتزوج من ابنة السابعة
عشرة من دون رضاها، فتفرح القبيلة وتموت هي. لم أُرْفَض، لأنني كتبت عن رجل
يطالب بحقوقه الزوجية من امرأة لا ترى نفسها في المرآة إلا مهشمة وخائفة من
لعنات المجتمع.
تقبّل
المجتمع أقاصيصي في مجموعاتها الأولى والثانية والثالثة. وكان الاحتفاء من
الوسط الأدبي والأهلي مفاجأة حلوة، صرت بعدها في عداد كاتبات القصة في بلدي،
ولم يعترضني حقل ألغام سوى محاولة الإعلام تسليط الضوء على ذات الكاتبة من دون
كتابتها. وأزعم أن ذلك أدى ويؤدي إلى خروج كاتباتنا ومبدعاتنا في المنطقة من
الساحة الأدبية؛ وذلك رغبة في الأمن والسلامة، ورغبة في عدم الإضرار بالأحبة،
من الذكور خصوصاً؛ وهم الذين يتفاعلون مع المجتمع الذكوري بشكل مباشر ومتواصل.
أما
أنا، فقد كان عليّ أن أفصل ذاتي عن ذات الكاتبة. وعندما تحترق الكلمات على
سطوري، كان لزاماً أن أخفي آثار الحريق على أطراف أصابعي.
وهكذا
ضمنت لنفسي الاستمرار في الكتابة، دونما الحاجة إلى اسم مستعار. وكثيراً ما
سألت نفسي: هل نبالغ في تقدير رفض مجتمعاتنا الشرقية والخليجية لصوت المرأة
وكتابتها؟ أم أنني فقط ذات حظ كبير فجاءت كتاباتي برداً وسلاماً على القبيلة!
ولم تنصب لي المحاكم ولم تُخرجني من جناتها!؟
فإذا
كان يوم دُعيت فيه لشهادة -كهذه الشهادة- في جامعة قطر، فتحدثت كما أتحدث
اليوم، ثم فُتح باب النقاش للطالبات، وكنَّ قد قرأن مجموعاتي القصصية بأمر
مباشر من أستاذ المادة. إحداهن فضلت أن تكتب السؤال على ورقة صغيرة، ولا تنطق
به. أرسلت الورقة عبر أخرى وأخرى حتى وصلت أمامي. في الورقة سؤال يقول: "كيف
جرؤت على الاعتراف بأنك قد فكرت في رجلٍ ليس من ذوي القربى؟ كيف يزورك رجل في
الخيال؟ ثم تكتُبين ذلك وتنشُرينه؟". وددت في حينها لو أنظر إلى وجه الفتاة
صاحبة السؤال! وددت أن أقرأ، هل هو الغضب أم الدهشة المحرك وراء السؤال؟! ولكن
أكثر من نصف اللواتي في قاعة الدرس كُنَّ من المنقبات، فلم أتبين الدافع لهذا
السؤال البريء والقاسي في الوقت ذاته.
لكني
أجبت وأنا أوجه نظري نحو كل واحدة من الحاضرات: نعم يا فتاتي! هذا صحيح، ربما
لأنني لم أذهب لأبعد من ذلك. وكان قد مضى على زمن نشر تلك القصة عشر سنوات،
وكُنت قد أصبت بالطمأنينة على أن من يقرأ الآن يعلم أن هذه السطور ليست الكاتبة
ذاتها بالضرورة، ولكن بعد هذه الحادثة الصغيرة، علمت أن اللجوء إلى الاسم
المستعار، أو الابتعاد كلياً عن شخص الكاتبة، قد يكون حلاًّ أسلم ولو إلى حين،
ولكنني في الوقت نفسه أيقنت بأن قراري الأول بالإعلان عن هويتي، هو قرار صائب،
وربما كان القرار الأصوب؛ فها هي فتاة عشرينية تناوش الكتابة وتبدأ في طرح
الأسئلة، أو ليس هذا ما نبغيه من فعل الكتابة؟
باتجاه أكثر استدارة
نادية
الكوكباني
قاصة من اليمن
مدخل
لم
يكن سهلاً عليَّ خوض تجربة الكتابة في مجتمعي؛ وإن بدت هذه الجملة صادمة
لادعاءاته بالمساهمة والمساندة والتشجيع. وكما كان عليّ أن أتجاوز -أنا أولاً-
عوائق التربية والنشأة الأولى في كوني امرأة محاذيرها كثيرة، كان عليّ أيضاً أن
أتجاوز النظرة المحدودة والضيقة والتلصصية جداً في ربط كتاباتي بحياتي الخاصة،
دون أن أجد نفسي أبرر وأشرح وأفسر وأنفي؛ لكن أتجاوز! وهذا جُلُّ ما قدرت عليه
للتعبير عن ممارسة حريتي في حدود سلطتي على ذاتي، ليس إلا!
كتابتي
عن المشاعر هي فضح («نشر غسيل»، كما قيل لي ذات مرة) وكتابتي عن السياسة خطر،
وكتابتي عن المجتمع تطفُّل، وكتابتي عن الحب عيب ومؤخراً حرام!... عماذا أكتب
إذاً، إذا غضضت الطرف عن كل هذا ومضيت باتجاه أكثر استدارة لاحتواء مفردات حياة
شاملة نعيشها: تعريتها، تفكيكها، تغييرها، تثبيتها؛ لنفهم بها -وربما من
خلالها- ذواتنا، والآخرين من حولنا...؟!
وإذا
كانت كتاباتي نضحت للسطح بعزيمة وإصرار حروفها لتحريضي على الاستمرار، فإنه في
كل درج مغلق لكل أنثى في مجتمعي أوراق حياتها المكتوبة بألمها ومعاناتها، تفوق
ما كتبت وما سأكتب!
(1)
أن
تفكر منذ البداية في نشر ما تكتب بسم مستعار، دون أن تفكر في نعيم رؤية اسمك
مذيلاً على ما كتبت، مثل كبار الكتاب وكما كنت تحلم؛ فهذا يعني أنك تخشى شيئاً!
لا يمكن لأحد تحديده أو معرفته غيره! لذلك عليك أن تسأل نفسك: لماذا...؟
وهذا
ما فعلته، ليس بسؤال واحد فقط! لكن بوابل من الأسئلة التي نهشت عقلي الصغير
وأنا لم أتجاوز الثالثة عشرة بعد! ولما لم أجد إجابات شافية قررت إلغاء الفكرة
برمتها، والاحتفاظ بكل ما أدوّنه في أجندتي التي لن أجد أكثر حميمية من احتواء
صفحاتها لكلماتي المتخبطة في تلك الفترة.
بعد
عامين بدا لي أن تلك الأسئلة قررت أن تهاجمني وبضراوة من ركنها الهادئ، وأن
تحاصرني لأجيب عليها بروية وتأنٍّ تلاشت عندها كل ثقتي بنفسي، كما يقول الآخرون
عني. ووجدت أن هناك إجابة واحدة لا غير لكل تلك الأسئلة تقول إنني أخشى أن
يقرأني الجميع، أنني أخشى (رغم البيئة المتقدمة نوعاً ما التي نشأت فيها) أن
يقال إن هذه هي نادية، وهذه مشاعرها، وهي قد مرت بتجارب كل شخصيات كتاباتها
و... و...
إذاً،
الاسم المستعار هو الحل، لأقول ما أريد وأكتب كل ما يخطر على بالي، دون خوف من
تلك النظرة الضيقة التي قد لا تهتم بي ككاتبة وتتجاهل إبداعي وتهتم بتأويل
السطور وما وراء السطور.
ومع
أني لم أكتب في السياسة ولم أنتقد الأوضاع المتردية في البلاد، لم أستخدم
كلماتي لوخز شخص لا أتفق معه، لم ألمح بإشارات دالة عليه، ولم أكن أيضاً جريئة
لحد فضح خبايا تلك الأحاسيس والمشاعر الجديدة، التي أمر بها لأول مرة، مع الآخر
على مقاعد الدراسة وفي الحي وفي الوسط العائلي وأولاً وأخيراً في أحلامي؛ إلا
أن محرر صفحة بريد القراء في تلك الصحيفة رفض نشر خواطري بحجة أنها بسم مستعار.
قوقعت
كل ما كتبته بعد ذلك في درج مكتبي وتحت مخدتي، وكأن رفض المحرر جاء منقذاً لي
من كثرة التفكير في ضرورة نشر ما أكتبه، ومؤكداً في الوقت نفسه مخاوفي من تذييل
اسمي لنصوص قد تؤثر سلباً على رؤية الآخرين لي، سأبدو من خلالها فتاة «متحررة
وجريئة» إن لم يضيفوا إليها أيضاً و»متمردة» تكتب عن الحب والحياة والأمنيات
المستحيلة...! كنت أفضل فتاة «مثالية ومتفوقة وذكية...».
لم
أنشر، لكني لم أتوقف عن الكتابة، وأصبحت متأكدة ألاَّ عين ثالثة ستقرأ ما
أكتبه، لذلك فضفضت بإخلاص، ودونت -بمحبة- تناقضاتي وتساؤلاتي وأحلامي... وآخر
كل مساء أدفن كل ذلك في درج مكتب موحش ومظلم! ورغم شعوري بقسوة ما أفعله
بحروفي، لم أهتم! كانت كفة فتاة «مثالية ومتفوقة وذكية» هي الرابحة دائماً. حتى
وأنا واقعة في حيرة مجال تخصصي الجامعي حال انتهائي من الثانوية العامة مالت
كفة «مهندسة معمارية» على كفة «صحفية» أو «كاتبة».
ألتهم
في الإجازات كماً هائلاً من الكتب المختلفة، أكتب يومياتي باستمرار ، وأعكف
بقية العام على المواد المقررة. لم يكن التفوق سهلاً، خاصة إذا وجدت لك منافساً
قوياً للوصول إلى المركز الأول من بين أربعين طالباً! كنت أمزح دائماً وأقول:
لن أحصل على الشهادة في الهندسة المعمارية إلاَّ وقد أصبت بانحناء في العمود
الفقري ودوالي في الساقين وضعف في البصر...!
(2)
ماذا
بعد؟ لم يكن سهلاً هذا السؤال وأنا أواجه به نفسي بعد حصولي على الوظيفة التي
حلمت بها في الجامعة كعضو هيئة تدريس، وأيضاً بعد الاستقرار العائلي مع الزوج
والأطفال.
ماذا
بعد؟ وأنا أسترخي في اللاشيء، بحجة أنني تعبت كثيراً وسهرت كثيراً وبحاجة ماسة
للراحة. ماذا بعد؟ وأنا أسير في دائرة مغلقة لتفاهات النفاق الاجتماعي السطحية.
ماذا
بعد؟ وأنا أرى على شاشة التلفاز إحدى زميلاتي التي اختارت دراسة الأدب وأصبحت
شاعرة مرموقة تستضيفها شاشات التلفزيون وتتابع أخبارها بشغف! في تلك اللحظة
بالذات شيء ما ومض في أعماقي، كان مبهماً حد الحيرة، مستفزاً لكسلي واسترخائي
اللامبرر، محرضاً لثورة بدت لي مستحيلة وقد فات أوانها!
ولما
كان القلم أولى أدوات تنفيذها، تجاهلته، لم أعد أمسك به. ولما كان الدُّرْج
المظلم، بما يحويه، ثانية أدواتها، أضعت مفتاحه. ولما كانت القراءة ثالثة
أدواتها، تكاسلت حتى عن قراءة عناوين الصحف.
ولما
لم أستطع الاستمرار في كل ذلك، كنت أكتب على جدار جمجمتي نصوصاً حفظتها عن ظهر
قلب. وكل ما كنت أحتاجه هو فقط اقتناص لحظة أحرر فيها كل ذلك المخزون من أسره،
وقد كانت أقرب مما تصورت. وجدتني في لحظة زيارتي لقريتي (كوكبان) أسترجع حادث
وفاة جدي، أستمع -بحزن لا حدود- له لكل ما تداوله المقربون منه عن تلك اللحظات
التي سبقت الرحيل. شعرت لحظتها كم أنا مشتاقة لجدي! وكم أنا بحاجة لتخليد تلك
اللحظة القدرية التي لا مفر منها!
هذه
المرة لم يرفض محرر الصفحة الثقافية نشر قصتي القصيرة حتى لو بسم مستعار؛ لكني
لم أفعل، بل كتبت اسمي كاملاً دون خوف؛ كنت أخشى أن يستمر هاجس الكتابة في
ملاحقتي وقتاً طويلاً دون اصطياد لحظات لن تعود بقوتها وصدقها وصفائها نفسه مرة
أخرى، وتدخلني في دوامة الندم عليها. كانت قصة جدي بداية المشوار.
(3)
«الكوكباني
تقود زوجين للطلاق بسبب إحدى قصصها القصيرة». عنوان صارخ تمركز وسط الصفحة
الأخيرة الأكثر إثارة في أشهر صحيفة ثقافية في اليمن. مشاعر لا أستطيع وصفها
حتى اللحظة. الخبر كان مباغتاً لي حد الدهشة. ما زلت بعيدة عن الوسط الأدبي. ما
زلت هاوية فقط للكتابة، ولم أقرر اتخاذها حرفة. أكتب وأنشر كل ما يحرض فيَّ
ساكناً من حولي ليس إلا... ومع ذلك ينشر خبر كهذا!!! استقبل رئيس التحرير غضبي
وأنا أتساءل عن الغرض من نشر خبر كاذب كهذا دون الرجوع إلى سؤال، بأن معلومات
المحرر صحيحة ويمكنني مقاضاة الصحيفة لو أردت؛ هكذا بمنتهى الهدوء!!
كان
لديَّ خلفية كاملة عن أسباب نشره؛ أعرف تماماً من الذي تسبب في نشر خبر كهذا
بغرض الحصول على امتيازات لدى رئيس التحرير، الذي يهمه الفرقعة والإثارة في
أخبار الأدباء. تماماً كما أعرف أنني بالفعل كتبت قصتها التي لم تكن أبداً سبب
طلاقهما. وفيما عدا تشابه أسماء القصة وبعض ملامح حياتهما فيها، لم يكن ليعرف
أحد أنهما المقصودان. لكني تعلمت درساً جيداً فيما لو أردت أن تصل بهدفك إلى
غايته في الكتابة عليك أن تبدع في تخييلك الذي قد يتطابق مع واقعك دون أن يعرف
ذلك أحد.
(4)
ساعة
صفاء بيني وبيني كانت كفيلة بالإجابة على كل ما أغلقت عليه في صندوق التساؤلات
المؤجلة إلى حين. كان أكثرها إلحاحاً: إلى متى تؤجلين كتابة الرواية التي
تحلمين بها؟ هل أنا بحاجة إلى أن تنضج تجربتي في القصة، كما أخبرتني صديقتي وهي
تسخر من مجرد مرور فكرة كتابة رواية في أحاديثنا؟ وكيف لي أن أنضج دون أن أجرب
وأحاول، كما قال أديسون، بل وأحاول ثانية إذا ما فشلت...؟!
وبشغف
لا حدود له، ومتعة لا يضاهيها شيء، وإخلاص طوعت لخدمته وقتي وقراءاتي وبحثي،
أصبح دوراني في فلك تلك الرواية يصيبني بدوخة لذيذة تزداد حدتها يوماً بعد يوم،
لتصبح لحظات الكتابة حالة غيبوبة تامة، تعي فيها كل حروفك، تنمق كلماتك، تتابع
خلالها شخصياتك، تتأكد فيها من معلوماتك، تبحث خلالها عن استرسال لا يوقفه شيء
وتفرُّد لا يحده حد.
حالة
غيبوبة تخصك وحدك، لا يعلم مداها غيرك، لذلك لا تقصِّر في واجباتك تجاه عائلتك
بحضورك المادي في ساعات واجباتك المنزلية التي يعمل فيها عقلك بتوازٍ مع جسدك،
لكن كلاًّ في اتجاه... جسدك يزيل أتربة الغبار ويعد أطباقاً شهية للأكل، وعقلك
يفكر ويتابع ويسترجع ما يجب أن تكون عليه شخصية روايتك الرئيسية. عقلك حائر في
كيفية كتابة المسكوت عنه، بطريقة ترضيك وترضي من حولك دون خطأ قد يحسن اصطياده.
عقلك عاجز عن الوصول إلى قرار في هذه النقطة بالذات؟
لم
يعد الاسم المستعار هو الحل كما ظننت منذ فترة. لن أعود للوراء إذاً، حتى لو
قالوا: هي هي، حتى لو أولوا: هي هي؛ حتى دوت في أعماقي صيحة مدوية: لا!! إنها
روايتك، حلمك الذي تريدين تحقيقه، جنينك الذي تتمنين مخاضه دون تشوهات تعوقه
مدى الحياة.
وكان
ما أردت. لم أفكر -وأنا أكتبها- في شيء عائق لكل ما تتطلبه من صدق. لم يكن في
أعماقي غير سلطة النص واحتياجاته والإخلاص له بكل محبة ووفاء. أوصدت -بقناعة
تامة- كل المقولات والاتهامات والتحولات التي قد تواجه فهم النص، التي قد
تتداخل فيها «نادية» الكاتبة مع «فرح» البطلة. لم أكن غير وسيلة تستجر كتابة
أحداث سنوات عديدة من المعاناة والألم والقبح، لتطبب جرحاً نازفاً لم يندمل
خلالهما بكل الحب.
(5)
ما
يفاجئك عند انتهائك من عمل تحبه حد العشق، أخلصت له وتفانيت، قضيت في إنجازه
شهوراً وربما أعواماً... هو تفاعل المحيطين بك في تلقيهم لهذا العمل. كان
أستاذي في الجامعة حال رؤيته لتصاميمي المعمارية ناجزة أمامه وأقرب لاكتمالها
-كما يقول- يسألني: «مين اللي اشتغل لك؟!». أعلم جيداً أنه يقولها من باب
المديح؛ لأن الفكرة تطورت ونمت على يديه خطوة خطوة... لكن شبه اكتمال الفكرة
مخرجة وملونة وجاهزة للتنافس، أوصلته حد الشك في قدراتي... لكن ما لا يعلمه هو
أنها جملة كانت -رغم إيجابيتها، كما يقول- ذات تأثير سلبي للغاية على نفسيتي،
وفي انتقاص مجهودي وسهري وتعبي ومعاناتي التي قصدت بها الوصول إلى مرحلة شبه
كاملة.
لذلك
يدهشك ألاَّ يستقبل بحفاوة صديق لك إبداعك الذي يعرف أكثر من غيره تعبك
ومعاناتك فيه... وبالقدر نفسه من الدهشة، تستقبل ما يرد إليك من حفاوة واستقبال
لنصك ممن لا تعرفهم، قراء، على اختلافهم، لا يربطك بهم أكثر من نص عملت أكثر من
استطاعتك ليكون لهم خالصاً تاماً كما أردت، محرضاً ومؤثراً لتغيير ولو بسيط،
إرضاء لغرورك وإخلاصك لهدف تنشده من كتاباتك، تجد صدقهم في الإطراء، تفاعلهم،
تأثرهم، حبهم لعملك، وامتنانهم لساعات من متعة الذكريات التي تأججت نار لذتها
في أعماقهم وهي تتوازى وربما تتقاطع مع كل ما مروا به.
(6)
بالتأكيد
لم أنْجُ من القراءة التلصصية، ولم أنْجُ من أسئلة كثيرة إن أجبتَ عليها قد تقع
فريسة صدقك، وإن لم تجب فأنت فريسة شك الآخرين بك؛ لذلك يلزمك أن تراوغ، أن
تجيب بنوع من الذكاء، أن تتعلم كيف تجعل السؤال يتحول إلى إجابة وأنت تستنطق
الذي أمامك ليقول هو، ويجيب هو على ما سألك عنه؛ هل «نادية» هي «فرح»؟ هل هذه
سيرة ذاتية لتشابه أحداث البطلة مع «نادية»؟ من هي «سلى»؟ وهل «هشام» هو...؟
وهل...؟ وهل...؟
(7)
ماذا
بعد؟ لم يكن كل شيء سهلاً بالنسبة لي. لم تكن الكتابة طريقاً مفروشاً بالزهور،
أو حتى معبداً وصالحاً للسير فيه منذ البداية... حتى لو بدا لكثيرين كذلك، فقد
لسع ذلك الطريق باطن قدمي وآدت شرارته كامل جسدي؛ لذلك أجاهد لئلا تصل حلكة
سواده إلى عقلي حتى لا يدمر جمال عالمي.
كل
هذا الحصار لن يثنيني عن الكتابة، لأنني -باختصار- أتنفسها، أعلم أنها جملة
تقليدية؛ لكني -وباختصار أيضاً- أتنفس الكتابة وبدونها أموت!
الكتابة... مشروع حياة آخر
زينب حفني
روائية من السعودية
كان فلوبير يقول:
"الكتابة هي طريقي في الحياة"، بمعنى أن المبدع لا يكتب ليعيش، بل يعيش ليكتب.
وقد أعجبني تعبير قرأته بأن من يدخل الأدب، كمن يتحمّس لاعتناق دين جديد يُكرّس
له وقته وطاقته وجهده. فهل دخلتُ عالم الإبداع لأجرّب دنيا جديدة أجهلها،
وأجاهر بمعتقدات مُخالفة عمّا نشأتُ عليها؟!
كثيرا ما أسأل نفسي
في لحظات المصالحة معها: لماذا قررتُ أن أكتب؟! هل لحرصي على اقتحام دنيا تحترم
كينونتي كأنثى؟! هل لأفجّر ثورة الغضب الكامنة في أعماقي، تجاه كل ما يرفضه
عقلي وينفر منه قلبي؟! هل الغضب الذي يُسيطر على المبدع يجعله يُخرج أدبا ركيكا
مضطرباً؟!
ترى الأديبة فرجينيا
وولف أن الغضب مرتبط دوما بالمرأة الموهوبة، كونها تُصارع بين ما هي عليه، وبين
ما يُفترض أن تكون عليه. لكنها تُحذّر من أن الفن الذي ينتج تحت ضغط الغضب،
سيؤدي إلى خلق فن غير سوي، كالطفل المشوه الذي يُولد قبل أوانه.
إن مواقف وقعت لي في
طفولتي هي التي كانت الشرارة الأولى التي حفّزتني لأكون كاتبة، وأكتب عن المرأة
المقهورة، التي لا تستطيع أن تقف أمام عادات مجتمعها، ولا تملك القدرة على
اختيار مصيرها الذي تريده، لا الذي يرسمه الآخرون لها.
من أين تستقي الأديبة
موضوعات قصصها ورواياتها؟! من يختار الآخر؟! هل الأديب يختار موضوعات، أم
موضوعاته التي تختاره؟! يُقال إن كل رواية خدعة تحاول التظاهر بأنها حقيقة، وأن
المبدع يتخفّى في رداء ساحر مستخدما تقنيات إيهامية مشابهة لشعوذات السحرة.
فالمبدع تُلاحقه صور مدفونة في أغوار طفولته، ويستفزه وجه عابر، ويتفاعل مع
تجاربه الحياتية، وتُلهمه المشاهد الساخنة التي تمر يوميّا أمام عينيه. وأنا
كغيري من الأديبات، تظلُّ هذه الأشباح تُلاحقني في يقظتي ومنامي، وتندسُّ في
فراشي محاولة اختراق جلدي إلى أن أستسلم لها في نهاية الأمر وأقوم بتخليدها على
الورق.
علمتني الكتابة
الانضباط. تعوّدتُ أن أجلس يوميُا لأكتب في ساعات مُحددة، فأصبحتُ مثل الجندي
الذي يجب أن يستيقظ مبكرا ليقوم بتمريناته الصباحيّة حتّى لا يسمن وتثقل حركته.
كما علمتني الكتابة الصدق والشجاعة، فعندما شببتُ عن الطوق وتعلّمتُ كيف أمسك
بقلمي جيدا بين أصابعي، وبدأت أعي ماهية الأشياء وأفهم وجوه الناس من حولي، كان
أمامي خياران: إما أن أقتل المرأة في أعماقي حتّى أنفي عن إبداعي صفة الدونية
المرتبطة بعالم النساء، وإما أن أراهن على أنوثتي وأضع فيها ثقتي، وأجعلها في
حالة التحام دائم مع نصي، حتّى وإن أحدث صداما مُدوّيا داخل مجتمعي!! اخترتُ
بلا تردد فضح عالم النساء والابتعاد عن رقابة المجتمع.
يقول الأديب هرمان
هسه: إن الأديب لا يملك في غمرة يأسه ملاذا آخر سوى الأدب الذي يتمتّع بأكبر
قدر من الصدق الممكن. فاليأس والإحباط يدفعان الأديبة إلى سلك طرق غير مألوفة،
وهو ما يجعل أدب المرأة انعكاساً لأحوال مجتمعها، لتميزه بالصدق الأدبي ومواجهة
الحقائق عارية في إطار مغامرات محفوفة بالمخاطر. كما أنه في مجمله أدب ثوري،
كونه يهدف إلى تغيير الواقع المعاش. لذا يرى بعض النقاد أن خصوصية الكتابة
النسوية ستتضاءل مع تقدّم الوعي الاجتماعي.
هل قدّمت الأديبة
العربية واقعها في قالب مستحدث؟! هذا السؤال دوما يدور في مخيلتي حين أنتهي من
ولادة قصة أو رواية. أشعر بأنني هربتُ من واقعي بخلق عوالم وهمية كنتُ أحلم بها
ولم تسنح لي الفرصة لتذوّقها، أو التورّط في مغامرات جامحة لم أملك الشجاعة على
تجربتها وأنا في كامل وعيي، مما يُحفزني لا شعوريّا على دفع غيري إلى طرقات
أردتُ يوما اقتحامها، أطلق بعدها زفيرا طويلا، شاعرة بفرحة غامرة تتملكني وأنا
أرى بطلاتي اللواتي كتبت بحبر قلمي أقدارهن، يتحررن من القيود المفروضة عليهن
من مجتمعاتهن، فأفرح لفرحهن، وأحزن لحزنهن، وأسعد لسعادتهن. وكم من شخصيات
صنعتها وأصابتني الغيرة منها، متمنية لو كنتُ في مكانها! وبكيتُ مع ذلك وأنا
أودعهن الوداع الأخير مع وضع كلمة النهاية. نعم أحلامي حققتُ بعضها بين دفتي
رواية أو قصة، وبعضها ما زالت حبيسة خاطري تُلحُّ عليَّ أن أحلَّ قيودها هي
الأخرى لتنعم بحريتها.
أنا ابنة بيئتي، لم
تزل التحذيرات التي لقّنتها لي أمي في صغري راسخة في فكري، بحتميّة إسدال
أهدابي، حين أتعرّض لموقف يتنافى مع طبيعتي الأنثوية، لذا ما إن أسمع كلمة
إطراء تُلهب مشاعري حتّى تتخضّب وجنتاي خجلاً!! لكنني أتملّص من تحفظي، وأحسر
الخمار عن رأسي، حين أكون في حالة حميميّة مع إبداعي، فأمرح وأرقص مع بطلات
قصصي ورواياتي، أمارس ساديتي عليهن حينا، ومازوشيتي حينا آخر، وأخرج لساني
لموروثاتي الاجتماعية، وأقول لها: انظري! لقد خلقتُ نساء قادرات على الوقوف في
وجهك ومحاربتك، دون أن تملكي القدرة على مقاضاتهن أو توقيفهن في مخفر شرطة أو
تشويه سمعتهن بين الناس أو حتّى منعهن من أن يعشن قصص حب حقيقية في وضح النهار.
أن تكتب المرأة فهذا
يعني أنها انفصلت عن قبيلة النساء الخاضعات المستسلمات لأقدارهن المرسومة،
ونجحت في أن تكتب شهادة عشق خالدة مع ذاتها، فليس هناك أجمل من أن تكون المرأة
مخلوقا استثنائيّا.
|