العدد  السابع - ربيع 2009م

   
 

شهادات
 

شهادات عن السرد (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

كعادتها تواصل «غيمان» تقديم الرؤى والتجارب الشخصية للمبدعين والمبدعات
من أنحاء الوطن العربي. وفي هذا العدد تقدم شهادات لعدد من أدباء السرد العربي الحديث

 

لكننا نكتب لنكون

 

إلياس فركوح
قاص وروائي من الأردن

(1)

بعد ملايين الكلمات التي كتبنا، وملايين أُخرى أكثر منها قرأنا، نجدُ الواحدَ مِنّا يتساءل:

أيهما الأجملُ: واقعُ التراب وحكاياته، أم عالَمُ اللغةِ على الورق ورواياته؟

غيرَ أنَّ هذا الواحدُ سرعانَ ما يؤنِّبُ نفسَهُ على سؤالٍ مُتْرَفٍ يستخِفُّ بحيواتٍ يُهْدَرُ دَمُها ويُسْفَحُ يوميّاً وبالمئات، من غير ذنبٍ، أو بذنبٍ لا يعلمهُ سوى الله، وهي؛ يؤنِّبُ نفسه الأمّارةُ بالأسئلةِ وأشواكها، لكنه ينسى. نَسَّاءٌ هذا الواحدُ بطبعهِ، لذا نراهُ ينتقلُ إلى أرَقِ سؤاله اللاحق، في محاولةٍ جديدة لإطفاء القلَق اللاسع وطمأنَةِ الروح:

أيهما الأكثرُ التحاماً بالحقيقةِ: نشرةُ الأخبار المُصورة المُعَوْلَمة، أم أشرطةُ الكتابة الروائيّة المطارِدة، كعَين المسبار الواغل تحت الطبقات، للحياة بكلماتٍ تعملُ على تجليةِ ملامحَ وجوهٍ تحياها، وقد أثقلتها أقنعتُها؟

هذا الواحدُ يتساءلُ ويسألُ. وهو خلال تجوالهِ المحموم (أو البارد المتأني المتمهِّل) بين الاحتمالات، والفرضيات، والظنون، وسراب اليقين؛ يكونُ يكتبُ روايةً. هذا الواحدُ يراكمُ المزيدَ من الكلمات كلّما اشتدَّ أوارُ التنقيبِ في داخله، ثم لا تلبثُ ذاكرتُهُ أن تُسعِفُهُ بجُملةٍ تطفرُ على الورق، هكذا: إنما الحياةُ في مكانٍ آخر!

إذَن هي ليست هنا. الحياةُ تَفرُّ مِنّا في الخارج، حيث تتعرضُ للموتِ قَتْلاً، أو ترهُّلاً، أو نَخْراً بفسادِ العُمْر (لِمَ لا نقولُ: هي الحياةُ تَفنى بأعمارٍ أُفْسِدَت معانيها؟). والحياةُ، كذلك، تتربصُ بنا بين هذه السطور، وعندما نوشكُ على التقاطِ طَرَفٍ منها، نجدنا سقطنا في شَرَكٍ نَصَبَهُ وهْمُنا لنا، فترنّحنا في خَيبةِ القبض على الريح!

أين هي الحياةُ الحَقّة إذَن؟ وأين نحنُ، كُتّابُ الروايةِ، من أسياد الحقائق السائرينَ على المياه ولا تَبْتلُّ أقدامهم، كأنها طيوفُ أحلامنا.. أو أحلامهمُ؟

كنتُ كتبتُ:

لم يكن سيّداً على مائهِ

ينتظر.

لكنهُ

لمّا دقَّت الساعةُ

منتصفَ ليلنا

وصاحَ الديكُ للمرّة الثالثة،

ظَلَّ باسماً في نومتهِ – هكذا:

كأنما لا ولادةٌ بَعدُ

كأنما لا خطايا بَعدُ

كأنما لا جحيمٌ بَعدُ

إلاّ أحلاماً نراودهُ ثم نطفو

فوقَ جَبينه

تُرنّحنا أثقالُنا

مثل ظِلالِ سَرْوَةٍ هزّتها ريحٌ

وراء النافذة([i]).

*   *   *

وبعد: هل نحنُ مجرد أفكارٍ تحبَلُ بها/ بنا مخيلةُ السيّد؟

      هل نحنُ مجرد الرواية التي تحبلُ بنا مخيلةُ الكاتبِ فينا؟

 

 (2)

أنَقبِضُ على الريحِ حين نكتبُ الروايةَ، فنَشهَدُ: هي الكلماتُ مَصائدٌ خَرِبَةٌ لغزلان المعاني المراوغة؟

وماذا عن الصُّوَر، عن التخيلات المخبولة إذ نبتغي أسْرها وترويضها داخل المرابض والأسيجة؟ ماذا عن الذكريات لمّا تتكدّس ذكرى فوق ذكرى فوق... وفوق... إلى أن نحتشدَ بها حَدَّ الاحتلال الكامل، فنصيرُ نحنُ هي، نصيرُ الذكرى الكبرى، إذ تخبو الـ"نحنُ" المطمورةُ، أو تكاد، في راهنٍ لا يُعَوّلُ عليه؟

عندها، وعندها فقط، نلجأُ إلى الكلمةِ عَلّها ملاذُنا ووجودُنا المتحقق لحظةَ أن نسطرها على الورق، فنسطرنا، فنُعايَن في أعيننا! نقترفُ الكلمات تِباعاً لتكونَ الكتابةُ استعادةُ الواحدُ مِنّا لأناهُ التائهة وسط جيش الموتى، أو القتلى، المؤجَّلين!

كنتُ كتبتُ:

"الكتابةُ مرآتي، وأنا الذي فوق وجهها المتعرّق المُضَبَب أخطُّ حروفي باصبعي، سريعاً وملهوفاً، قبلَ أن يتبدّد الندى، فأمّحي أنا إذ تتوهُ الذاكرةُ وتسيح، إذ تتغبشُ الذاكرةُ وتَشيخ"([ii]).

*   *   *

وبعد: هل تشيخُ الذاكرةُ حقاً وتتهدّل؟ أم أنها تتجددُ بوتيرة الكتابة اليقظة وأوتارها المشدودة، لتنضفرَ وتنجَدلَ على نحوٍ يولَدُ العالَمُ أثناءها، فتبدأُ الخليقةُ دورتها من جديد؟

 

(3)

لا شيء يولدُ من العدم، ولا وجودَ ينبثقُ من لا شيء. هذه، كما يُقال، إحدى حقائق الحياة، وواحدة من أبجديات كتابها المسطور. ولستُ بمخالِفٍ لذلك. غير أنَّ الواحدَ/ الكاتبَ، حين يتصدّى لمهمته التي يراها جليلةً، والمتمثلة بالكشف عن (حقيقة) ما رآه ويراه، بفحص ماهيّة ما عاشهُ ويعايشه، بمعاينة طبيعة الوقائع التي تعَرَّضَ لها ولا يزال، بفهم العلاقة القائمة، لكنها المهزوزة والمتراخية أحياناً أو غالباً، بينه وبين وجوهٍ وأسماء، بالعثور على أسباب قَطيعةٍ ما، أو ما يشبهها، تنحفرُ مثلَ هاويةٍ تَحْولُ دون أن يَبْرَأَ من مناطق الغموض الآخذة بالاتساع من حوله؛ إذ ابتلعت ما تبقّى له من صِلَةٍ بالحميم والدافىء، وها هي تُجْهزُ على حِكمةٍ لم يكُن العُمرُ كريماً في إغداقها عليه!

هذا الواحدُ: الشَواشُ والفوضى، الاحتشادُ والاضطرام، الجِراحُ والرضوض، الانقطاعُ والعُزلة، العُريُ في العَراء، الخُلو من حِكمةٍ تكفي أو تَقي؛ كيف لهذا الواحدُ، بكُّلِ ما يتضمن من نَقْصٍ، رغمَ الكَثرةِ والازدحام، أن يتصدّى لـجَلال مَهمةٍ يسطرُ كلماتها لتكونَ كَشْـفاً؟! هل يستطيع؟ من أين يبدأ؟

يبدأ الواحدُ من الغَمْر الأوّل، كأنما هي الخليقةُ تستعيدُ نفسها من خلاله، وعلى نحوه، فتكونُ الكلمةُ. يجاهدُ لمّا يستخرجها من داخله، كجزءٍ من مجاهدةٍ أكبر يخوضها، ليفتتَ طبقات العَتمة. أم هو سديمٌ يوغِلُ فيه تحديقاً وبحثاً عن استواء معنى الاستهلال الممكن، ذاك الكامن في صورةٍ قيد التشكُّل؟    

فالروايةُ، كما عشتُها وما زلتُ أكتبها، لا تنمو من دون مادةٍ خام، وهي موجودةُ بالقوةِ، وهي في الداخل من هذا الواحد، كُلُّها، حتّى وإن اسْتُخْرِجَت من المناجم خارجه، غير أنَّ الالتباس يلفّها ويضمّها كحضن الصَدَفَة المغلَقَة، ولذلك ينبغي على هذا الواحدُ أن يفتحَ المُغلَقَ ويَفُضَّ الانسدادَ، ليشهدَ أنَّ المادةَ موجودةٌ بالفعل، ليشْرَعَ في الروايةِ الكامنةِ هناك، يستنطقها.

وها نحنُ، بدورنا، نستنطقُ المعنى لكي نفهم:

* أين هي الروايةُ، إذَن؟

- في غياهب المُغْلَق.

* أين المُغْلَق؟

- في أعماق الواحد.

* هل تقصد أنَّ الكنزَ المُسْتَهْدَف في البعيدِ، إنما يقبعُ داخل الساعي إليه في القريب؟

- أجَل. أو قُلْ: بمعنىً ما، وعلى نحوٍ ما.

* لم أفهم!

- كتبَ النِّفَّري في مواقفه يقول:

"القُربُ الذي تعرفهُ مسافةٌ، والبُعدُ الذي تعرفهُ مسافةٌ، وأنا القريبُ البعيدُ بلا مسافة".

*   *   *

وبعد: هل ثمّة التشبيهُ أو التطابُقُ الصادقُ الموثوق بين ألـ"أنا" السامية المتسامية، ضميرُ المتكلّمِ عند النِّفَّري، وتلك "الرواية" الكامنة، من غير مسافة، بينها وبين هذا الواحدُ؟

 

(4)

كأنما جانباً موارَباً، ليس مُشْرَعَاً وليس مغلقاً، يَنتظرُ من الواحدِ أن يستجليه ليقرأ في اللوح المسطور، بعد أن يمسحَ عنه الغبار: الروايةُ في كاتبها يتهجّاها على الورق، يستكملُها صفحةً صفحةً، فلا تكتمل! الروايةُ ليست خارجه، تنطقُ عن التُرابِ وتنوبُ عنه في حَكْي حكاياتٍ انتهت صلاحيتها؛ إذ هي اكتملَت منذ النظرة الأُولى!

إذا كان ذلك كذلك، فما الذي يكتبه الروائيُّ إذَن؟ أيكتبُ ذاتَهُ من داخلها، أم يكتبُ العالمَ كما هو؟

أزعمُ، وفقاً لتجربتي في رواياتٍ ثلاث، أنَّ الروائيَّ إنما يكتبُ العالمَ وقد تَصَفّى من زوائده في داخله. يكتبُ العالمَ من خلال الذات غير المعزولة عنه؛ بل المجبولةُ بعناصره، وبذلك: يكتبُ الروائيُّ ذاتَهُ كأنما هي شريحةٌ من العالم، ويكتبُ العالمَ كأنما هو طبقةٌ من طبقات الذات الكاتبة. ليست هنالك من مسافةٍ تفصِلُ بين الإثنين، إذ هُما الناظرُ والموضوعُ معاً وفي آنٍ واحد. فإذا كان العالمُ مَحَّلَ ريبةٍ، وتساؤلٍ، وعدم تسليمٍ بوثوقيّة ما يكشفُ عنه؛ فإنَّ الذات الكاتبة/ المكتوبة ليست بمنجىً من هذا أيضاً. الذاتُ تخضعُ للمساءلةِ، ابتغاء معرفة حقيقتها، تماماً مثلما العالمُ يقعُ في قلب هذه المُساءلة.

وهكذا تمورُ الحياةُ، بما تتضمنه من عالميَن مشتبكيَن، وتصطخبُ في لُجّة تقليبها على شتّى وجوهها. الحياةُ هناك، وليست في مكانٍ آخر. أي: الحياةُ هنـا تحت الكلمات بمعانيها المخاتلة، وليست على سطوحها المفضوحة للعيون العابرة سريعاً، فـ"الحَرْفُ حِجابٌ" بحسب النِّفَّري. تكمنُ الحياةُ في مستويات الكتابة، بما تعنيه من كلماتٍ تملكُ تاريخها الخاص وتاريخ مَن يكتبها، ثم تستوي كما يراها الرائي إليها وإليه في الوقت نفسه.

إنَّ إفادة ميلان كونديرا المُعْلَنَة عنواناً لإحدى رواياته، والقائلة بأنَّ الحياةَ في مكانٍ آخر، لا تعني لي سوى أنها في الداخل مِنّا، وليست أبداً في الخارج عَنّا. الحياةُ، في عالم الأدب، خارج المواعيد المُتَّفَق على أزمنتها وأمكنتها. هي ليست هناك. إنها خارج التوقعات، لأنها تكمنُ في كلماتنا، مثلما يكمنُ الجوابُ في تلافيف السؤال.

كنتُ كتبتُ: "كلّما حاولتُ ذاكرةً تسترجعُ ما فاتَ؛ انكسرتُ على شيفرة الغياب.

قلتُ: لعلَّ الكلمات هي القادرة. لكنَّ شيئاً، في الخارج، لم يحدث"([i]).  

*   *   *

وبعد: هل أكتبُ سيرةَ الذات، حين أكتبُ الروايةَ بحسبي؟ أم أكتبُ العالمَ بِبُعْدَيه وبتركيبٍ جديد في داخلي، على هيئة أسئلةٍ برسم إجاباتٍ لا تُجيب؟

عَلّها أضغاثٌ وأشباه؛ لكني أكتبها لأكون.

                 عمّـان
                           22 تموز 2008


([i]) إلياس فركوح: ميراث الأخير، 2002.

([ii]) المصدر نفسه.


دهشة تقاطعات وروافد جوهرية أسَّستْ تجربتي الكتابية

حبيب عبد الرب سروري
قاص ومترجم من اليمن

سأحاول عرضَ أهم منعطفات ومكونات تجربة أدبية متواضعة قد تهم أو لا تهم الناقد أو المستمع.

الهدف العام بالطبع هو التفاعل. أحبُّ شخصياً سماع تجارب الآخرين والتفاعل معها. أفضِّل سماع التجارب على سردها. للسامع بالتأكيد دورٌ أرقى من السارد، من وجهة نظر تراتبية. هو باحثٌ يراقب الكلمات بالميكروسكوب، يُنظِّر، يَدْرس، يُحب، لا يُحِب، يُحلّل تجربة السارد، يقارنها بتجربته الخاصة التي يمكن أن تكون أكثر ثراءً وأهمية وعمقاً... فيما الساردُ ليس أكثر من مادةٍ للبحث، خليةٍ للدراسة، جزيءٍ كيماوي، جناحِ فراشة أو شيءٍ من هذا القبيل. دَوْري اليوم هو أن أكون في الجانب الأسفل من عدسة الميكروسكوب... سأبدأ إذن بتقديم بعض المراحل الهامة لتجربتي الأدبية:

 1) مرحلة الطفولة حتى سن الرابعة عشرة، عام 1970 (أوَّد أن أسميها: مرحلة الشغف الجذري!):

المسرح العام لهذه السنوات: عدن، عاصمة جنوب اليمن آنذاك، مدينة كوسموبوليتية جذّابة، مركز إشعاع مدنيّ في المنطقة، مستعمرة إنجليزية، ثورة مسلحة، استقلال، تلتهُ حربان أهليتان، وصول «اليسار الاشتراكي العلمي» للسلطة في 1969...

ثمة إنسان (بكل إشراقاته و«قتامته») ملأ حياتي الثقافية خلال هذه المرحلة: أبي!

اشراقاته أولاً: هو شغوفٌ بالأدب والشعر خاصة، فقيهٌ صوفي متفانٍ في عشقه للذات الإلهية. يقضي نهاره وليله يقرأ الكتب الفقهية والأدبية، يتهجَّد، يكتب شعراً صوفياً، يرتِّل قصائد من يعشقهم... أتذكَّرُهُ وهو ينشد قصيدة ابن الفارض («نشيده الوطني»، كما أسميها) غيباً، على الدوام، بصوت غنائيٍّ صوفيٍّ عاشق:

حادي الأظعان يطوي البيد طي

مُنعِماً عرِّجْ على كثبان طي.

لا يملّ ترديد قصائد الحلاج، أحمد ابن علوان، وكبار الصوفيّة... فكرةُ السفرِ والذوبانِ والعشقِ الصوفيِّ تملأ كلَّ مختاراته.

يهوى بشغف (بنوعٍ من الهوس، ربما) جمع أقلام الحبر، رائحة الحبر، أقلام الرصاص، جودة ونقاء الورق الأبيض...

لن أطيل الحديث عنه، لأني سرَّبتُ بعض تفاصيل علاقتي به في «الملكة المغدورة» التي لم تخلُ من عناصر سيرة ذاتية، رسمتُ فيها بعض معالم شخصيته المعقّدة، نزوعي «الجيني» للابتعاد عن أجواء مسلماته الثقافية شيئاً فشيئاً والتمرد عليها، لاسيما ابتداءً من الرابعة عشرة. كلُّ ذلك في جوٍّ من التعايش السلمي الصعب جدا، الناجح والودّي عموماً.

ما يهمني هنا عند ذكر أبي هو الإشارة لعلاقته بتجربتي الأدبية، كونه غرس فيّ شغفَهُ بالشعر والأدب عبر وسائل عدّة:

- كان يخصص لي ساعة تدريس يومية «إجباريّة» في الخامسة عصراً (أجمل وألطف ساعات اليوم العدني القائظ) التي أضحتْ حينها أكأَبَ ساعات اليوم؛ الأصدقاء في الشارع يلعبون الكرة في الخلاء الرملي المحيط بحي الشيخ عثمان في عدَن، يتنقّلون من شارع إلى شارع، من غزَل إلى غزَل... وأنا أتنقّل من كتب الفقه إلى النحو، من البلاغة إلى الفرائض، من الحديث إلى السيرة... أتصارع مع مجلّدات عتيقة، صغيرة الأحرف، لها رائحة الكافور والأوراق القديمة: كتب الصاوي، الكافوري، الأجرومية... غير أني اليوم أدين لتلك الساعة كثيراً!

- نجح أن ينقل إليّ عدوى الرغبة في حفظ الشعر وحُبِّه. تحوَّلَت إلى رغبةٍ ذاتية مستقلّة عن اختياراته الشعرية (شجّعها بالتأكيد). اخترتُ من دواوين مكتبتهِ، الغنيّةِ بكثيرٍ من الكتب الدينية والأدبية وبعض المخطوطات الأدبية، قصائد كثيرة أحببتُ حفظَها وترديدَها.

- مباريات «السجال» الشعريّ العائلي الليلي مساء كل خميس بين فريقين: أخي الصغير (رضوان) من جهة، وبقية العائلة من جهة أخرى! رضوان (مفضَّلُ الوالد، لاسيما بعد أن خسر إلى الأبد تربيتي الثقافية كما يريد) كان ينجح في مباريات السجال العائلي ويهزم بقية العائلة مجتمعةً ضدّه، بفضل مقدرته الخارقة على الحفظ وسرعة بديهته. تحدَّثتُ عنه في «الملكة المغدورة» بمزيج من الإعجاب والغيرة والاستياء.

- ضعفه أمام الكلمة الجميلة، وإمكانية «شرائه» بحرفٍ جيّدِ الاستخدام، بتعبيرٍ بلاغيٍّ طريف، باستشهاد يروق له...

- استشهاداته الأدبية الدائمة، وطرائفهِ وألغازه اللغوية التي ظلّتْ في ذاكرتي إلى اليوم، وارتبطتُ مع بعضها بعلاقات حميمة (مثل لغز «لي عمَّةٌ وأنا عمُّها!...»، التي ستكون لي لحظة «تصفية حساب» معه بعد حوالي أربعين سنة من سماعه!...).

باختصار شديد: بفضل والدي تجذَّرَتْ علاقتي باللغة العربية وبالأدب العربي بشكل مبكّر، تحوَّلَتْ إلى ميسمٍ في الأحشاء... أتذكَّر من محاولات كتاباتي الشعرية في المدرسة الابتدائية، أشعاراً طفولية مثل:

فلعلّ وعسى                               رغم أنياب الأسى

يعانقُ الصباحْ                                عالم الجراحْ

فيحوِّلُ الألمْ                                 بسمةً ونَغَمْ...

 2) مرحلة السبعينيات اليمنية، من سن الرابعة عشرة، عام 1970، حتى السفر للدراسة في فرنسا عام 1976 (مرحلة التمرّد الهادئ والكامل على ثقافة الطفولة):

الظروف العامة: سنوات غريبة، مثيرة، عاصفة: «مدّ ثوري» في بلد متخلفٍ يوجّهه في الغالب ريفيّون ذوو ثقافة قبلية، كثيرٌ منهم أنصاف أميين... الجو الثقافي مملوء بشعارات وممارسات لا عهد لأحد بها:

العبارة/ المفتاح التي كانت تحدِّد مسار الحياة في جنوب اليمن: «الاشتراكية العلمية» (صيغة «سوفت» مختارة بعناية كبديل للعبارات الصادمة: الماركسية اللينينة، الشيوعية...).

لتلك العبارة تبعات واختيارات سياسية وثقافية حاسمة، منها: تسمية المرحلة السياسية بـ«مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية» واعتبارها جسراً نحو الاشتراكية، يقودها حزب ثوري، حزب العمال والفلاحيّن، يرسي «ثقافة جديدة» (عبارةٌ كثيفةٌ هي الأخرى، تحمل نتائج وتبعات كثيرة...).

بدأتُ بقراءة أحد أمهات كتب هذه الثقافة الجديدة الذي كان شديد الانتشار آنذاك: كتاب بوليتزر: «أصول الفلسفة الماركسية». اكتشفت بإعجاب: قوانين الديالكتيك، لاسيما «التحولات الكميّة التي تؤدي إلى تحوّلات كيفية». أربَكني «برهان» هذا القانون عبر حكاية الدرجة المائة التي يتحوّل بعدها الماء المغلي إلى بخار! أسرَني جدّاً وصفُ عصر الشيوعية: «من كلٍّ حسب قدراته، ولكلٍّ حسب حاجته»، والوعد بزمنٍ تتحقّق فيه للإنسان كل رغباته المادية والروحية في عالمٍ خالٍ من القهر والقمع والاستبداد والاستغلال، عالمٍ تغمرُه الحرية والمساواة والرخاء...

(بلغة اكتشافات اليوم: أحلام طوباوية! نظرية جميلة، لكنها لا تنسجم تماماً مع «الطبيعة الإنسانية» التي تتجذّر فيها جينيَّاً -إلى هذا الحدّ أو ذاك- خصال حب الذات، الأنانية، رغبة الامتلاك والسيطرة...

بلغة السبعينيات: ليست أحلاماً طوباوية! لأن «سمة العصر هي انتصار الاشتراكية وهزيمة الرأسمالية!» كما كان يُكرَّر كلّ يوم! ولأن «الطبيعة الإنسانية» انعكاس للعلاقات والواقع الاجتماعي ويمكن تغييرها بتغيير تلك العلاقات، من وجهة نظر ماركس).

جذبني كتاب بوليتزر بقوة. آمنت بحتمية انتصار الاشتراكية والشيوعية. كنتُ أعتقد أيضاً أني سعيد الحظّ بالذهاب للدراسة إلى فرنسا، لأنني (أنا الذي أحب منظر الغروب) سأشاهد بأم عينيّ «أفول الرأسمالية»، أما انتصار الاشتراكية فسأعيشه بعد ذلك ما تبقّى من حياتي، في عقر داره الأثير: عدَن! لكن، كما يردِّد دوماً أحد أصدقائي:

«تجري الرياح بما لا يشتهي     حبيب عبدالرب سروري».

لن أدخل في جدل حول تجربة «المد الثوري اليمني» بكل إيجابياتها وسلبياتها. هي في كلِّ الأحوال هامة جداً، لأنها جعلتني أعيش جدلاً داخليّاً في سنوات الدراسة الثانوية: أفكار جديدة تتصارع مع ثوابت أفكار الطفولة (المأساة تكمن عندما لا يعيش الإنسان في واقعٍ ثقافيٍّ تعدُّدي، ولا تصلهُ إلا رؤية أحادية للكون والحياة؛ يتحجّر الدماغ حينها، يتقوقع في قضبان الثقافة المكتسبة، ثقافة «القبيلةِ» الأحاديّةِ الجانب، بالضرورة...)

على الصعيد الثقافي، والأدبي خاصّةً، تركَتْ هذه السنوات آثاراً رئيسة في تكويني:

- الكتب التقدمية كانت سهلة الاقتناء. بفضل ذلك قرأتُ بإعجاب كتبَ محمود أمين العالم، غالي شكري... تابعتُ بعضَ المجلات، مثل: "الآداب"، و"الطريق" (اللبنانية). بعضُ الشعر الحديث الذي أطلّ من هذه المجلات كان يأسرني بين الحين والحين. أحببتُ أيضاً كثيرا من الشعراء اليمنيين: عبدالله سلام ناجي، عبدالرحمن فخري، البردوني، المقالح، لطفي جعفر أمان...

- وجدتُ بشكلٍ مبكِّر بعضَ الترجمات الغربية الآتية من لبنان، خاصة أشعار: بودلير، رامبو، فرلين... اكتشفتها وأحببتها سريعا، مثل اكتشاف شعر أدونيس أيضاً في تلك الفترة نفسها. عمَّمتُ حولي هذه الاكتشافات التي أثَّرت على البعض. قرأتُ بإعجاب أيضاً ترجمات بعض الأعمال الروائية الروسية والفرنسية والإنجليزية الكبرى التي تركت عليّ بصماتها بقوة.

- أعترفُ هنا أن الرواية لم تكن -في هذه المرحلة- الشغفَ المسيطر على قراءاتي. طمَّ الشعرُ معظمَ الشغف. هو وبعض الدراسات الثقافية والفلسفية أيضاً. أثارتني وأنا طالب صغير قصص أرسين لوبين. ثمّ تلتها في السنوات اللاحقة قراءات لبعض الروايات الكلاسيكية لأسماء كبرى، مثل: شكسبير، ديكنز، هوجو، تولستوي، نجيب محفوظ... تخللتها قراءة معجبة وكاملة لـ«ألف ليلة وليلة»، أو لأعمال لم أعد أذكر أسماء مؤلفيها، مثل رواية مترجمة أسرتني وأدهشتني كثيراً في الطفولة: «ذلك الشتاء الطويل»؛ كلُّ ما أذكره هو أنها تدور في مجتمعٍ قطبيّ يحيا وسط الثلوج معظم أيام السنة. ارتجفتُ (وما زلتُ أرتجفُ إلى الآن) من البرد طوال قراءتها وإن كنتُ أعيش حينها في مدينة الصيف الخالد: عدَن... عدا تلك القراءات، لم أكن أُكِنُّ للرواية أكثر من ذلك الاهتمام التقليدي. لم أكن أفكّر أني سأكتب رواية يوماً ما، أو حتى أنوي ذلك...

كخلاصة، أحتفظ لجديد هذه المرحلة (لغويّاً وثقافيّاً وفكريّاً) بامتنان خالص. أتذكّر الآن مثلاً أن «أغاني مهيار الدمشقي» سحرتني تماماً. لعليّ، ولسنواتٍ طويلة، لم أتوقف يوماً عن ترديد بعض مقاطعها (وكأنها «نشيدي الوطني» الداخليّ) مثل:

أين أنت؟ أرني ماذا كتبتَ؟...

لم أجبها، لم أكن أعرف كلمة

فأنا مزّقت أوراقي لأني لم أجد تحت شفاه الحبر نجمة

أين أنت؟ أرني ماذا كتبتَ؟...

لم أجبها،

كانت الليلة كوخاً بدوياً، والمصابيح قبيلة

وأنا شمسٌ نحيلة

تحتها مزّقت الأرض رباها

والتقى التائه بالدرب الطويلة...

أتذكَّر أيضاً الأثر المدهش لبعض النغمات اللغوية الجديدة لشعراء قرأتهم في مجلة "الطريق" اللبنانية، مثل محمد علي شمس الدين:

صوتكِ الرعدُ وقرآني غناء المطرِ

يا نبيّ الرملة العطشى، إلهَ الحجر

فأفيقي آية الرعدِ أفيقي، واغسلي

ألم الدهرِ، أفيقي، وانصرينا...

صدقَ اللهُ العظيم...

(أرجو أن أكون قد تذكَّرتُ كلمات النص واسم الشاعر دون أخطاء).

 

كتاباتي في هذه المرحلة

نشرتُ أوّل قصيدة في مجلة «الحكمة» اليمنية وأنا في الرابعة عشرة من العمر. لجأتُ، مثل موضة تلك الأيام، إلى التشبّث بالرمز والانجراف نحو نوعٍ من الغموض. ثمّ مللتُ القصائدَ صعبةَ الفهم قرب السابعة عشرة، لأن الجميع صار يكتب شعراً غير مفهوم، يلجأ لذلك من هبّ ودب، ولم تعد هناك إمكانية لتمييز قصائد هذا عن ذاك.

بعد ذلك حاولتُ كتابةَ شعرٍ لا يلهثُ وراء صناعة الصيغ اللغوية المعقّدة والرمز المكثّف وغموض المعنى. وجدتُ صعوبةً في كتابة نصٍّ بهذه المواصفة! قَلَّ بشكلٍ مخيف عدد القصائد التي صرتُ قادراً على كتابتها! أتذكَّرُ منها قصيدة في الثامنة عشرة بعنوان: «لأمي وهي تمحو أميتها» من وحي تجربتي في تعليم أمّي القراءة والكتابة في المنزل في خضمِّ حملة محو الأميّة في منتصف سبعينيات جنوب اليمن.

يصعبُ المرور على ذكريات كهذه دون الإشارة إلى أن يمَن اليوم ينعمُ بأعلى أرقام الأمية في العالم العربي: حوالي 70 في المائة (نفسه عدد المُصوِّتين للرئيس الحالي تقريباً، كما لاحظ كثيرون قبلي!). استغربتُ منذ سنوات عندما لم أعُد أسمع شعار محو الأمية، حتى من باب النفاق الإعلامي (مثل شعارات: محاربة الفقر والفساد...). أما الآن، منذ الانتخابات الأخيرة، فأنا متأكدٌ أن النظام لا يخفي إصراره، حتّى في بداية القرن الحادي والعشرين، على المحافظة على هذا الرقم القياسيّ من الأميين.

3) مرحلة فرنسا، منذ 1976 حتى 1992 (مرحلة الدهشة والولادة الجديدة):

عندما تصل من الشيخ عثمان إلى فرنسا، (لأوّل مرة في 1976) تصابُ بصدمةٍ حضارية. التاكسي يعبر معالم باريس صوب «محطة قطارات ليون» باتجاه فيشي: مدينة أرستقراطية هادئة. تدرس اللغة الفرنسية في معهد لغة راق: الكافيلام. ضمن برامج دراسته زيارات ترفيهية وثقافية أسبوعية لذيذة لمدنٍ ومعالم باهرةٍ شيِّقة. يتجدد طلابه الآتون من كل أنحاء العالم يوميا. تعيش صداقات غنيّة ممتعة متجدِّدة... تعتقد أنك في حلم.

تكتشف لغةً وثقافةً جديدة. تندهش. الصحف (بما فيها "اللومانيتيه") تستخدم لغة حرّة بدون صيغ سياسية خشبية أو دينية عتيقة. الجو مترع بالحرية الفردية. تسكن في غرف مستقلة في فيشي، أو جامعية مستقلة في روان (بعد سنة من فيشي) دون رقيب أو حسيب. الحياة الطلابية غنيّةٌ بالنقاشات الفكرية والسياسية والثقافية العامرة. لا تتوقف عن الاكتشافات والدهشة... تتساءل: في أي كوكبٍ أعيش؟...

بعض تجارب الحياة اليومية تعبرك كتيّار كهربائي، تُغيِّر نظرتك للحياة. الاندهاش والصدمات لا تتوقف. ليست أقلّها الصدمة الدراسية: أنت تعشقُ الرياضيات لكنك لم تدرس (مثل الطلبة المغاربة) الرياضيات الحديثة في منهجك الدراسي اليمني الذي عفى عليه الزمن. عليك أن تتعلّم أشياء كثيرة إذن لتواكب هذا العالم الجديد.

تدرس، تناقش، تتفاعل مع الجميع... ثمّ تبدأ في التمكن من اللغة الفرنسية. تدغدغك حينها الرغبة في القراءة الأدبية. تبحث عن الشعر! تكاد لا تجده! تستغربُ؛ لا ترى دواوين الشعر إلا في المكتبات الكبرى فقط، وفي أماكن غير بارزة منها، لا تجد غير دواوين شعراء ولدوا في قرون سابقة! تتساءل: إذن لم يكن آراجون آخر شاعرٍ حيّ!؟...

تبحث عن القصة القصيرة. لا تجدها! صنفٌ أدبيٌّ شبه غير معروف. تستغرب كثيراً! تسائلُ أصدقاءك: «لماذا لا يقرأ الناس هنا الشعر أو القصة القصيرة!؟». يأتيك الرد من أحد الأصدقاء: «لعلها سندويتشات ضامرة لم تعد تسمن أو تغني من جوع! مزاجُ الإنسان المعاصر يشتهي المآدب الباذخة التي يتناولها ويتذوقها وقتاً طويلاً!». تضيف: «ماذا يقرأ الناس إذن!؟». يأتيك الردّ من كل مكان: «الرواية، لا شيء غير الرواية تقريباً، وحدها تتصدّر واجهات كل المكاتب دون استثناء، من مكاتب محطات القطارات إلى أصغر وأكبر المكاتب... كل الملحقات الثقافية للصحف، كل البرامج التلفزيونية والإذاعية الأدبية، كل الجوائز، كل الحياة الأدبية شديدة الغنى والتوهج... تتركّز حول الرواية!». يضيف صديقك (وهو يراك ترثي بحزن نهاية الشعر والقصة القصيرة): «يمكنُ بسهولة تسريب الشعر أو القصة القصيرة داخل الرواية! لكن العكس غير ممكن!».

تكتشف من قراءاتك الأولى أن الرواية أضحت -فعلاً- لغةَ العصر، بئراً تطمُّ كل المواضيع: الحياة اليومية المعاشة أو التخيلية أو التي تمزج بينهما، التاريخ، العلم، العشق، المتعة، النقد والمواجهة والرفض والرغبة في التحرّر من كل عبودية، القلق، تصفية الحساب مع الكون، خفايا النفس وكل المشاعر والتجارب الإنسانية... بئراً تطمّ كل الأساليب اللغوية أيضاً: اللغات التقليدية الرصينة أو الجديدة الحرة، لغات الشعر والصور السينمائية، اللغة الموسيقية أو لغة الحياة اليومية الساخطة، اللغات الشخصية المتنوِّعة التي يلزم أن تتميّز من كائنٍ لآخر... تلاحظ أن التميّز ضرورة: يلزم أن يكون الكاتب نموذجَ نفسهِ الأوحد!...

باختصار شديد: الرواية عالمٌ كليٌّ لانهائي التجدّد، تلتقي فيه كلّ الأمزجة، كلّ التيارات القديمة والحديثة، دون قوانين أو ترسيمات وحدود.

تلاحظ أن الجنس الروائي الأنبل والأكثر أهمية هو دون شك: «جنس التخيّل»! هو الأصعب بالضرورة، لاسيما لِشخصٍ صنَعَتْهُ ثقافةُ طفولتك التي تفضّل المحاكاة والتقليد على الاختراع والحرية... يبدو لك -بعد تفكيرٍ طويل- أن مشروع كتابة روايةٍ تَخترعُ من الجذر تجاربَ إنسانية وعوالم تخيلية جديدة تُشبِهُ تجاربَ بشرِ الواقع وعوالمه، مغامرةٌ فكريّة رهيبة، عملٌ إبداعيٌّ شديدُ الصعوبة والإعجاز...

يتأكد لك مع تقدُّم قراءاتك أن الرواية الحديثة معملٌ كونيٌّ للخيال قبل كل شيء، فضاءٌ لِتفجُّرِ الذات، لإعادة خلق وصياغة التجربة الإنسانية؛ شيءٌ ما مثل «اللوح المحفوظ» (بكل اتساعه وإبداعه التخيلي ولانهائيته) يكتبه الإنسان هذه المرة!...

تقرأ الرواية الفرنسية بنوع من الانتظام. ثمَّة أسماءٌ اخترتَها بمزاجية، صرتَ تحبُّها، تحاول شراء أي عملٍ جديد لها يومَ صدوره. أنماط مختلفة ومتباعدة جداً مع ذلك: باتريك بيسون (تتعلّم بفضله القراءة المجرّدة، تتابعه أولا فأول، تقرأ بعض أعماله أكثر من ثلاث مرات!)، دورميسون (يذهلك جمالُ تجدّدِ رتابةِ مواضيعه، سيلُ أسلوبِهِ الدافق)، سوليرس (ثمّة جديدٌ مربكٌ في لغته، في رواياته الاستاتيكية أو الفلسفية...)، ماكس جالو (تتابع باهتمام رواياته الواقعية)... تقرأ روايات الجوائز الأدبية الشهيرة... تتابع كلَّ جديد روائيين أجانب بالفرنسية مثل سلمان رشدي (تثريك «أطفال منتصف الليل» و«الآيات الشيطانية»...)، فلاديمير ماكانين... تقرأ بالفرنسية، «ألف ليلة وليلة»، مقتطفات من «أغاني الأصفهاني»... تتابع الملحقات الأدبية الأسبوعية...

كل ما تقرؤه في هذه المرحلة هو بالفرنسية فقط. يتبخَّرُ كثيرٌ من كلمات اللغة العربية. تشتاق للكتابة بين الحين والحين. تكتب أنصاف قصائد، قصائد كاملة أحياناً، مثل قصيدة «البحَّار»...

الدراسة العلمية تلتهم وقتك خلال هذه السنوات. تبدأ دراساتك الجامعية في الرياضيات التي تعشقها عشقاً منذ الطفولة، وتنتقل منها إلى علوم الكمبيوتر...

السنوات العشر، من 1983 حتى 1992، تُشكِّلُ أهمَّ سنوات حياتك العلمية وأكثرها كثافةً وتنوّعاً ودهشة. بدأتَ فيها بدراسة الماجستير في جامعة باريس 6، بعد بحثٍ دقيقٍ في ما ينسجم مع رغباتك العلمية. ثمّ الدكتوراه في 1987 وأطروحة التأهيل لِقيادة الأبحاث في 1992 التي تسمحُ بالتحوُّلِ إلى بروفيسورٍ جامعيّ. سنوات كثيفة جدّاً عشتَ فيها اللحظات التكوينية لثورة الكمبيوتر والانترنت، تمتّعتَ خلالها بظروف رغدة وإمكانيات كبيرة وهبها لأبحاثكَ مختبرُ علوم الكمبيوتر النظرية والتطبيقية (في جامعة باريس 6 و7، الذي يضمُّ فريق جامعة روان)، أكبر وأهم مختبرات أبحاث فرنسا في علوم الكمبيوتر، حينذاك...

سافرتَ خلال هذه السنوات دون توقّف. عملتَ فيها مهندس أبحاث، ثمّ محاضراً، ثمّ بروفيسوراً جامعياً بعد مرور أطروحة التأهيل لقيادة الأبحاث في 1992.

خلال هذه السنوات العشر نفسها صارت قراءة الرواية جزءاً جوهريّاً من سيمفونية حياتك! اشتدّ تفاعلك مع الروايات واحتياجك لها. اكتظّت وتزاحمَتْ في رأسك أشياء كثيرة: ذكريات وانطباعات ورموز قديمة أو حديثة، نسَّقْتَها ذهنيّاً وأعدتَ صياغتها أو تأليفها من العدم في مخيلتك، بشكلٍ سردِيٍّ روائي... استعدْتَها مراراً في ذاكرتك وفي أحاديثك مع الآخرين خوفاً من نسيانها. لم تكن تدركُ أنها موادٌ خامة تختمرُ، تنتظر أن تسيل على الورق يوماً ما.

لم يكن لديك الوقت إلا لكتابة الأطروحات والمقالات والكتب العلميّة فقط. لاحظتَ حينها كم يستهويك، عند كتابة أي نص علمي، حياكةُ الكلمات والتعبير عن الأفكار بشكلٍ رائق يخرج عن الصيغة العلمية الجافة التقليدية. لاحظت قبل هذا وذاك أن ما يستهويك كثيراً جدّا في بعض الأبحاث العلمية أو في المواد التي تُدرِّسُها هو درجةُ تعبيريةِ بعضِ لغات الكمبيوتر (لاسيما لغات علوم «الذكاء الاصطناعي» مثل «ليسب» و«برولوج»)، درجةُ جمالِ نصِّ برنامج الكمبيوتر المكتوب بهذه اللغات التي لم تنفك تجرِّبُها، تقارنُها، تدرِّسُها، وتتلاعب بمفرداتها وأساليب صياغتها، وكأنك تتلاعبُ بلغات أدبية!... كنتَ تتخيّلُ برامجَ الكمبيوتر الكبيرة، التي تكتبُها بعنايةٍ جماليّة شديدة، أشبهَ بروايات! راودتك كثيراً كهاجس كلمة «رواية»، وأنت تتنقَّل بين فصول تلك البرامج المكتوبة غالباً بلغتي «ليسب» أو «برولوج»... ثمة رغباتٌ سجينة في لا وعيك تتضرَّع إليك كي يُفرجَ عنها. ثمّة رغباتٌ دفينةٌ ضاغطة تنتظر يومَها القدريَّ الموعود... يومها الذي سيكون -تحديداً- غداة يوم مناقشة أطروحة التأهيل لقيادة الأبحاث، في «عطلة نهاية أسبوعٍ» اكتنفَتْها الحيرةُ والأشجانُ والإرهاقُ اللذيذ، ورغبةٌ انشطاريّةٌ حادّة أيضاً...

4) فرنسا، منذ 1992:

قضَّيتَ يومَيْ تلك العطلة خاملاً مُمدّداً على الفراش، كأنك لم تنم منذ 35 عاماً وبضعة أشهر! سؤالٌ وحيدٌ كان يملأ دماغك: «ماذا أريدُ عملهُ الآن؟». علميّاً: لا جديدَ، غير مواصلة مشاريع الأبحاث وقيادة أطروحات الدكتوراه في المختبر واستمرار التدريس الجامعيّ. أدبياً: كل شيء تقريباً! ثمّة مواضيع سجينة ترنو لِلتحرّر من قمقمها والرقص على الورق. لا حلَّ إذن إلا الحياة المزدوجة، التسكُّع في بُعدين مُتعامِدين، إنشطار الكينونة: ممارسة شغفَين، زمنٌ لهذا وزمنٌ لذاك.

بدأتَ، بعد شهرين من ذلك اليومِ الموعود وتساؤلاته الوجوديّة الانشطاريّة، بكتابة أوّل رواياتك: «الملكة المغدورة» بالفرنسية، التي كانت لغة قراءتك الوحيدة خلال سنوات. ما إن أكملتها وقرأتَ ترجمتَها بالعربية، التي كتبها الأستاذ الروائي البديع المبدع علي محمد زيد، حتى استيقظ شغفُ القراءة والكتابة بالعربية، لغة ثقافتك الأولى، بجانب الفرنسية، وعادت مئات الكلمات العربية المنسيَّةِ دفعةً واحدة... كتبتَ بعدها بالعربية: ديوان «شيءٌ ما يشبه الحبّ»، المجموعة القصصية: «همسات حرّى من مملكة الموتى». شعرتَ بعد ذلك بإمكانية الدخول في مغامرة كتابةِ رواية بالعربيةِ التي عادت الآن كلماتها الضائعة. كتبتَ ثلاثيتك الروائية الأولى بالعربية: «دملان». تلاها كتابٌ يضمُّ مجموعة مقالات حديثة، بعنوان «عن اليمن، ما ظهرَ منها وما بطَن"، ثمّ رواية «طائر الخراب»، وأخيراً الجزء الأول من رواية «عرَق الآلهة»...

لم تتوقَّف طوال هذه السنوات عن الانصهار بهموم الحياة في اليمن، عن التواصل اليوميّ مع أهلها، عن الشوق والسفر إليها وإلى كثير من الدول العربية...

ثقافتُك العربية الأولى تسكنكَ حيث ما كنت، تشدُّكَ للتأثُّر بها والتأثير في سيرورتها التي أمستْ تراوحُ في دوَّامةٍ من الجمود وإعادة صنعِ التخلف والعجز عن مواكبة العصر...

لذلك تمتلكُكَ الرغبة الحادّة بالتفاعل المباشر مع القارئ العربي. ولذلك أنت الآن في أوج الامتنان والسعادة وقد أنهيتَ كتابة شهادتك هذه.


"الأخدام"… كوجهة سردية

علي المقري
شاعر وروائي من اليمن
والمقالة شهادة قدمها إلى مهرجان العجيلي للرواية في سورية.

"الخادم عندنا يعني الحُرّ، وعليهم هم تغيير معنى الخادم في لغتهم لا نحن". يقول سرور في "طعم أسود.. رائحة سوداء"، وهو يسمع الشعار الحزبي الاشتراكي اليمني مستعاداً بصوت بهجة: "سالمين قُدّام قُدّام/ سالمين ما احناش اخدام".

فمن هو الخادم؟ ومن هم الأخدام؟ لماذا صفة الخادم تعني الحر عند (نا) سرور، فيما هي مرفوضة عند (هم) مرددي الشعار الشهير، في سبعينيات القرن العشرين، أثناء فترة المذكور في الشعار سالم رُبَيِّعْ علي (سالمين) رئيس اليمن الجنوبي؟

يبدو لي أن من الصعب تقديم تعريف واحد للأخدام في اليمن، كالقول أنهم الخدم الفقراء الذين يقومون بتنظيف القاذورات والأوساخ خدمة للميسورين والأغنياء، أو أنهم (إذْ يعيشون في هامش القرى والمدن ويمتازون بلون جلودهم السوداء) منبوذون ينحدرون من بقايا الزنوج العبيد، أو أنّهم وجه آخر للغجر لمماثلتهم لهم، في سلوكهم المتمرد على القيم الأيديولوجية السائدة، الدينية والسياسية والاجتماعية، ورفضهم الخضوع والاندماج في المجتمع. مع هذا، يمكن القول إن هذه التعريفات تكاد تكون جميعها مُقارِِبة لوصف عالمهم الخاص، وبالتالي فإن صفة الأخدام، التي عُرف بها هؤلاء خلال مئات السنين في تاريخ اليمن، هي الصفة الأكثر قُرباً لهم، ليس لحمولة معناها الدال، بل لتاريخيتها الهائلة، التي صاروا معها وكأنّهم غير عابئين بمعنى الصفة نفسها، بل، ربّما، بأي معنى. كأنهم، إذْ يعيشون كيفما اتّفق، ليسوا ملزمين أو معنيّين بإيجاد معنى ما لحياتهم.

من هنا سأكتفي بإيراد إشارات إلى خصوصية الأخدام في واقعهم ومقاربته كنصٍّ سردي؛ فهؤلاء الأخدام يواجهون ممارسات عنصرية من غالبية المجتمع اليمني، فيعيشون في تجمّعات منبوذة ومعزولة لا يتمتعون فيها بأدنى حقوق، حتى تلك التي حصل عليها أسلافهم العبيد، في كثير من البلدان، والذين يشبهونهم بالسمة السوداء، وهي سمة تظهر، في حال الأخدام، كمبرر عنصري لنفي أصحابها من الوطنية وحق المواطنة والمساواة، بل تتحوّل إلى شبه يقين معرفي ينحو في اتجاه الأسطورة والخرافة، كالقول إنهم ليسوا من البشر، أو انهم عصيّون على النظافة، وأن الدود يعقبهم في أي وعاء يأكلون فيه. أمّا تمرد الأخدام وسلوكهم الغجري المميّز، فإنه يصاحب القول عن كسرهم للقيود الأخلاقية، وتحررهم الجنسي.

هل يمكن، والحال هكذا، تأليف كتاب عن الأخدام، يكون أكثر قرباً وحميمية من عالمهم الخاص والمتميّز في محيط مجتمع تمييزي عنصري؟ أي شكل من الكتابة يمكن له أن يقترب من هذا العالم، فنجد فيه ملمحه المتمرّد والبهي في جماليات عيشه العصيّة على الاحتواء والدمج القهري؟ أفي قصيدة مغناة أو منثورة؟ أم في أغنية أو حكاية؟ هل في سيرة أم وثيقة؟ في رواية أم في كتاب مفتوح الأبواب وبدون فصول؟ لم أهتم بشكل الكتاب وتوصيفه، حين بدأت أكتب سطوره الأولى. أردته كعالم الأخدام، يتناسل من سرديات شتى، تاريخية واجتماعية وواقعية ومتخيّلة، ليكوّن إيقاعه الخاص.

هكذا قرأت الكثير من الأبحاث والمقالات المنشورة عن الأخدام، تتبعت لسنوات طويلة تاريخ الزنوج وفنونهم المختلفة: رواية، أساطير، سينما، موسيقى، تشكيل... وقاربتها مع تاريخ وفنون الأخدام.

سألت نفسي قبل وأثناء وبعد كتابة "طعم أسود... رائحة سوداء": ما الذي يمكن أن أضيفه إلى هذا المنجز الهائل من الآداب والفنون الزنجية؟! إذ افترضت أن أي كتابة عن الأخدام، لن تكون بمعزل عن هذا المنجز الزنجي؛ بل ماذا سأضيف إلى المنجز السردي في مختلف اتجاهاته؟!

أمام هذا السؤال الحاد، وجدتني أعيد صياغة الكتاب أكثر من مرّة، أحذف بعض الصفحات والفقرات والجمل، ثم أعيد بعضها، لأحذف أخرى.

كنت شديد التدقيق في الكتب النقدية التي تنظِّر لكتابة الرواية، أو تلك التي تدرس البناء السردي في حكاياته وخطابه وأحداثه وشخوصه وزمنه. كنت أعتقد أن الكتابة تُعلم من خلال دروس في نماذج مكرّسة ومعروفة. لهذا بقيت ألعب بشخوص الرواية وأحداثها وزمنها، محاولاً مشابهة النماذج الروائية المتداولة، والتي لم تماثل البناء السردي الذي كنت قد مضيت فيه وأنا أكتب كتابي هذا.

كان من الصعب عليّ الانصياع وراء مفاهيم سردية مضى على بعضها أكثر من قرن، وبعضها صارت نمطيّة في تكرار نماذجها المستهلكة.

هنا استذكرت صفة الشاعر فيّ، التي كنت أظنّها أكثر خبرة من صفة السارد، مع أنّني بدأت حياتي الأدبية في كتابة القصّة، فهذه الصفة التي لازمتني قرابة ربع قرن، ذكّرتني بالمنجز الهائل المصاحب للتمرد الذي قام به الشعراء ضد عمود الشعر وقوانينه الإيقاعية المتوارثة، وهو ما انحزت إليه في كل كتاباتي. بهذا الاستذكار شعرت أن إشكالية عمود الشعر وأوزانه، التي ما زالت راهنة في الثقافة العربيّة، اتخذت شكلاً آخر مع كتابي الجديد، يمكن تسميته بعمود الرواية، الذي صار مكرساً في السرديات العالمية.  فبعد أن سمحت لمرجعيات النظم السردية التعليمية أن تتدخل في تحديد مسار الكتابة، وجدت أن الكتاب لم يعد يشبهني، كما أنه لم يعد يقترب من عالم الأخدام المتمرد، وكان عليّ أن أعيد صياغة الرواية إلى دفقها السردي الأوّل، مع التنقيح والتدقيق، طبعاً. ولم أعد أعبأ بمماثلة ما كتبت بأي منجز سابق، مهما كانت أهميته.

في هذه الصياغة، لم تعد هناك من تفاصيل مشهدية يظنّها النقّاد ضرورية، وأعتبرها زائدة. وإذْ صرت أقرب إلى عالم الأخدام، معاينة ومعايشة، فإننّي رأيت أن الشخصيات المسرودة لا يمكن لها أن تتطور أو تنمو في أحداث متتالية، وإلاّ لكانت بعيدة عن هذا العالم الذي يعيش فيه الأخدام كـ"محوّيين" مؤقتين، وليسوا سكّاناً مستقرين. ولهذا تبدو الشخصيّات المسرودة عابرة، تظهر فجأة حيناً، وتختفي وتغيب فجأة، أيضاً، في أحايين كثيرة، بل إن "المحوى" نفسه في عششه وتاريخيته الهامشية يواجه في النهاية سؤال الاختفاء المفاجئ، بل والانقراض، حيث مضت الجرّافات تزحف نحوه، مخلّفة لا شيء.

هكذا، اكتشفت، وأنا أمضي مع التدفق السردي غير المحدود، في جمل وصفية خاطفة وتقريرية تستدعي التوثيق والتاريخ، من دون أن تؤكدهما، أنني أتكئ على مرجعيتين في السرد يشكلان أبرز قراءتي: طريقة أو أسلوب كتابة الحوليّات في التاريخ العربي، بحيث يبدأ الحديث عن الشخوص وحياتهم، انطلاقاً من خبر وفاتهم في السنة المؤطِّرة للأحداث وأخبار الوفيّات، وهو ما يمكن ملاحظته في تحديد السنوات المسرودة (1975-1982) مع عدم تراتبية الزمن الممل. مع تداخل أزمنة أخرى، في الزمان المحدد، بعضها قديمه، وبعضها معاش. أمّا المرجعية الثانية، التي أظن أنني قد استفدت منها كثيراً، فهي أسلوب السرد الحديث، بما يتيحه من لعب في بناء الفقرة وتركيب الجملة، بل وفي منطوق المفردة اللغوية وموقعها وشكل كتابتها. إلى جانب المشهدية الرابطة لسياق الأحداث والشخوص في حركة مفتوحة غير مقيّدة في إطار نصّي مغلق، حيث يصير من الممكن استدعاء التاريخي والتوثيقي السياسي وإدراجهما داخل النص المتخيّل، لا لتوكيد مصداقيتهما، وإنّما لتفكيك مرجعيتهما؛ فبدا الأشخاص متشابهين حيناً، ومختلفين حيناً آخر؛ بل تتعدد ذواتهم نفسها، حتى يصير من الصعب القول بمحمول أيديولوجي ما. فزمن السرد المستذكر في صفحات قليلة منه لزمن الحراك السياسي الذي حاول الالتفات إلى الأخدام، يعطي لعباراتهم شبه الفكرية مبرراً  في السرد، لكنها عبارات تبقى متمرّدة وغير محددة أيديولوجياً، فالأيديولوجية ترد كمتناول سردي، وليس منطلقاً وغاية، إذ إن أي هدف أيديولوجي لبناء سردي لن يتوافق مع عالم الأخدام اللايقيني غير المحدود ثقافة وحياة.

فمع هذا العالم، لا يمكن اتّباع مسارات السرد ومفاهيمه المكرّسة، في كل الجوانب، فالحب مثلاً لم يعد محرّكاً أو دافعاً للفعل المتمرد، وإنما الجسد، خيط رائحته هي التي تقود إلى التضاد، وبالتالي المضي في الحرية، بل يصبح الجسد هو الحرية وبوابتها، وليس الحب.

في هذا المنحى من الحساسية، كان التعامل مع مختلف مقتضيات السرد الأخرى.

هل استطعت فعلاً تحقيق ما أردت، أن أقدم نصّاً غير مغلق، في إطار مرجعية مختلفة، وإن بدت تستذكر في إطارها الماضي؟ هل استطعت الكتابة بلا إطار كعالم الأخدام؟ لا أستطيع الإجابة؛ لكنني أعرف أنني حاولت ذلك.