العدد  الثامن - صيف 2009م

   
 

شهادات
 

على هامش الإحتفاء بالشعر الشعبي  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

عبد الله البار

ليس غريباً علينا ولا مستنكراً منّا -نحن اليمانيّين- الاحتفاء بالشعر والشعراء، ما دامت اليمن أمّةً شاعرةً يصوغ الشعراء فيها بدائعه بالعربيّة الفصحى وبالأخرى الملحونة. بل لعلّ ما ينبغي أن يكون من هذا الاحتفاء  ما يزال في مدارج صعوده الأولى ولمّا يبلغ أقصى مداه منها، وهيهات!

وكيف لا يتعاظم الاحتفاء بهم وهم صنّاع البهاء فينا، ورادتنا نحو قيم الحقّ والجمال، ومفزعنا من كلّ خطبٍ محدق وخطر يحيط بنا؟ فهم مكلأ الأمّة من التوابع والزّوابع، وعواصمها من القواصم، وموئلها من التّردّي في المهالك. وإن لم يكن الاحتفاء بهم فبمن تراه يكون؟

بشاعِرها فلتفتخر كل أمّةٍ

يُهددها بالموتِ والعار طغيانُ

إذا طويت أعلامُها فهو بيرقٌ

وإن أُخمِدتْ أنفاسُها فهو بركانُ.

 

وقديماً كان للشّعر والشّعراء في عصرهم الجاهليّ أسواقٌ مخصوصةٌ تُنشد فيها الأشعار، وتخلّد فيها الأمجاد، ويحفظ في ثناياها تاريخٌ ما كان له أن يُحفظ ويصان لولاها.

واليوم -كما في الأمس القريب- تعيد وزارة الثّقافة سيرتها الأولى في إقامة مثل هذه المهرجانات الشّعريّة، لتتجدّد علاقة المبدعين من الشّعراء بقرّائهم، وتذكّر الغافلين منّا -في زحمة الانشغال بالفاني من مجريات الحياة- بالخالد الدّائم منها، والأصيل السّامي فيها، وهو ما يمثّله الشّعرُ خاصّةً، والإبداعُ عامّةً، في تاريخ الأمم والشّعوب

  وإذا كان الشّعر -بكلّ ما في أداة التّعريف من استغراقٍ في الجنس- وليدَ التّفاعل الحميم مع الحياة والانفعال الخصب بها، من حيث هي وجودٌ متعدّد المرايا والصور؛ فإنّ الشّعر الشّعبيّ -أو قل الحمينيّ- أشدُّ علوقاً بها من حيث المنشأ والمصدر والغاية والاتّجاه. فلغته منبثقةٌ من وجدان اللغة التي يتكلّم بها الناس، بكلّ ما فيها من اتّحادٍ بين الدّالّ والمدلول، بين الإحساس بالفكرة والإحاطة بصفتها في آن. وليس للشّاعر الشّعبيّ من مصدر يخصب به إبداعه غير هذا الشّعب، وما تخلّق عبر السّنين من ثقافات شتّى تمثّل وعيه بالأحياء والأشياء، و"الشّعب ما أعظمه مصدر!".

والشّاعر الشّعبي يحصّل فيه مطلوبه وأكثر

ومن خلاف الشّعر يقدر يجمع الحَبّ المطيّر

ويفتح الأبواب بالإقليد لي ما له حناديد.

فكما قرّر الشّاعر حسين بن أبي بكر المحضار في واحدةٍ من بدائع أشعاره.

ولعلّه لهذا لقيَ الشّعر الشّعبيّ قبولاً في أفئدة المتلقّين، وبدأ الشّاعر الشعبيّ وجهة شداة الشّعر ومحبيّه في كثيرٍ من أدوار الزّمان.

الليش حبّوا النّاس شعره ليه قالوا إنّه أشعر

ممّن سبق قبله لأنّه ما تبجّح ما تقعّر

جاب الكلام السّهل حطّ وسط الكلام السّهل سكّر

وبعد ما رق وانطعم وزّعه في كلّ البراريد.

وإذا كان القول السّابق قد جرى في حال واحدٍ بعينه من شعراء العاميّة في اليمن، فإنّ استخدامه شاهداً في هذا المقام يندرج في مقولة: "عموم اللفظ لا خصوص السّبب". ففي كلّ المبدعين من شعراء العاميّة في اليمن ما في شعر الباحسن من خلالٍ وسمات. "واللول هو والماس ظاهر ما تخالطه الصّهاديد".

والشّعر الشعبيّ، وإن بدا -من جهة الغاية والاتجاه- نتاج وعيٍ فرديٍّ تفرزه ذاتٌ مفردةٌ، لا ينأى بنفسه عن مواجع الأمّة ولا أفراحها؛ فهو يقول ما في أفئدة النّاس بلغته، التي تبين وتغمض في آن، ويجسّد بالقصيد مجهول ما يعلمه عنهم، في صورٍ منتظمةٍ وطرائق بناء منسوجةٍ بإحكام.

نا من النّاس شوفونا وشو النّاس منّي

لعْن بوها حياة لي ما لها عز ومقدار

نفسي إلاّ تزم شفنا على عيال مقدي

الدويلة معي والقبس بايطلّع النّار

اكبروا كلّكم عا ذا الجراد المعلّي

بو فرج يقبض المطرب ونا بفقع الطّار.

 

هكذا يتّحد الفرد في الجماعة، وتحتشد الجماعة في وجدان الفرد، فيغدو لسانها المبين عن حقّها في الحياة ورؤاها لها ومواقفها منها.

مفتي الأربعة.. نحنا معك با نصلّي

لا تيمّمت با نتبعك من اكْبار وصغار

في الفتن فايدة.. والموت من عند ربّي

با نحن عالوطن والله يقدّر ويختار.

على أنّ هذا الاتحاد بين وجدان الشّاعر الشّعبيّ وبين متقلّبات الأحوال في حياة الجماعة لا يعني بحالٍ أن يصير الشّاعر بوقاً يردّد ما ترومه وتهواه، كلا؛ ولكنّه توكيدٌ على صفاء قيثارته التي تصدح بالألحان جميعها، وتضع لكلّ مقالٍ صفته وتنزله منزلته التي هي له؛ وذاك لأنّ الشّاعر رائدٌ.. والرّائد لا يكذب أهله.

كل من حموله ميل قولوا له تريّض يا حسن

شف من شبع نرشخه لمّا يطرح إيده في عشاه.

ولأنّ "العسودة ما هي كما ذاك الدفن"، فليس سوى الشّاعر من يستطيع الدّفاع عن حقوق الأمّة والمنافحة دونها. "ومن أكل لحم الناس ني يخرجه ناجح من شواه"، كما قال شاعرٌ لم يصبر على ضيمٍ ولم يقبل باضطهاد. وتلك منزلة ساميةٌ لا يرقاها غير شاعرٍ تجرّد من الشّهوات كلّها، وآثر الصلابة في الموقف على كلّ شيءٍ زائل.

الرزق يدخل من سبب والموت يدخل من سبب

والسوس يوكل قال شاعر في القواسم والقبال

لا تفرقع الضّارب وجات العافية شل الذّهب

ما بي مهمة لا صفي لي رمح بو زيد الهلال.

وإنّ من متمّمات القول في اتّحاد وجدان الشّاعر الشّعبي بالجماعة موقف الشّعراء الشّعبيّين من الوحدة اليمنيّة مذ كانت حلماً يتوق إليه اليمنيّون حتّى غدت منجزاً يتباهون به بين الأمم والشّعوب. ويستطيع النّاظر في تلك الأشعار التي أبدعها شعراء العاميّة في اليمن في القرن العشرين أن يتبيّن مدى تفاعلهم مع هذا المشروع الوطنيّ العظيم، وانفعالهم به حلماً يشتهى، وحدثاً منجزاً في واقع الوجود.

فإذا قال أحدهم متشكّكاً:

القرص عاده ما نجح والشّهر عاده ما ثبت

في المال يا مبارك ولا في الحال والعمر الطّويل

والشوف مبعد والعلايم عادها ما تفنّدت

ما با نسمّي الزّقر لمّا قده يدحق عا الرّجيل.

 

ردّ عليه الآخر مبشّراً ومستشرفاً الآتي من رحم الغيب:

الناس عالشّطرنج قد لعبوا وعا لعب الثّبت

وذرعوا الشّيدر وقد شافوا القصيّر والطّويل

والمبعدة حسبوا لها إن شرّقت أو غرّبت

بتجي على طول المدى خلّ الثّقالة يا ثقيل.

وقد جاءت على طول المدى، وغدت واقعاً يشهده الجميع. وإنّ تجلّيها في الواقع المشهود لن ينسينا فرحة الشّعراء بها وقد بدت بشائرها تلوح في الأفق.

الحبايب سقى الباري ديار الحبايب

بين سيئون والحوطة وصنعا ومأرب

قد جمع بالهنا والسعد شمل الحبايب

خِلّ بالخل يتهنّى وصاحب لصاحب

والأمور سابرة والخير من كل جانب

العسل دوعني والبُر من قاع جهران

دان يا دان بانسمر على نغمة الدّان.

 

ولأنّ الوحدة كيان أمّةٍ ووجود شعبٍ وهويّة وطن، فإن الفرحة بإنجازها عظيمةٌ، لا تقاس بمقياسٍ ولا تحدّ بحدٍّ. وإنّ الحرص عليها من أيّ خطرٍ يحدق بها قائمٌ في الأنفس ويجلوه القصيد:

واليوم وحدنا اليمن والقصد يالشبّان تم

نحنا ذرينا ذري في البلدة وفي نجم البطين

جنوبها وشمالها نحنا خوة وعيال عم

لا قفّلينا الباب.. الشّيطان با يعبر منين

لا عانقت صنعا عدن با يزول من جسمي الألم

وباحفظ فلك قد له وقت بين المايتين

يا فرحة الخاطر إذا رفرف على القصبة العلم

القرش با نصرفه باللازم بزايد عانتين.

تلك أمانيّهم، ولكن:

اللحم يا سالم شوي والنّاس يبغوا اللحم جم

وابليس قاعد في التّفال مفتون ما يسدّ الثنين.

ومن هنا وجب الفداء ووجب الإصرار على حمايته من كلّ خطب:

قل لكل حاقد وكل طامع ذهن

الوطن ذا ما نبيعه بالثمن

أو نسيبه للزمن أو للحروب

الوطن غالي على كل القلوب.

وهذا غيضٌ من فيضٍ، يدلّ قليله على كثيرٍ من أمثاله هجست به أشعار الشّعراء الشّعبيّين من زمنٍ قديمٍ، وما زالت تهجس به في هذا الزّمان. وإنّ فيما سنسمعه من هؤلاء الشعراء المشاركين في هذا المهرجان لدليلاً يؤكّد ما خبرناه في أشعار الشّعراء الشعبيّين من تفاعل مع مشكلات الوطن وهمومه وقضاياه.

 فشكراً لهم حين يبدعون وحين ينشدون!

وشكراً لوزارة الثّقافة إذ هيّأت لنا هذا الابتهاج الدّافئ بالشعر والشّعراء في زمانٍ غدا فيه وجود الشعر على حاشية الحياة!