نصوص سردية
ذاكرة غائبة
()
Absent
Memory
باقر جاسم محمد
كلية
الآداب/
جامعة
بابل
-
العراق
جلست إلى الطاولة وأنا أحاول أن أخمن سبب استدعائه لي للقاء خارج بيتينا. كان
صوته مكتوماً عندما اتصل بي بالمحمول قائلاً: "أرجو أن نلتقي اليوم في كازينو
الجنائن؛ الأمر ضروري جدا!". وحين طلبت منه أن يبين لي السبب، ازداد صوته
خفوتاً وهو يقول: "عندما نلتقي ستفهم"، ثم ودعني بسرعة. طلبت شايا ً من النادل،
نظرت إلى ساعتي، سيحضر بعد عدة دقائق. كانت الطاولة التي جلست إليها في الجانب
الخلفي من الكازينو، وهي قريبة من حافة نهر الحلة، الذي كان يجري صامتاً كدأبه
منذ القدم؛ لكنه غدا نهراً حزيناً في شيخوخته. تتبعت فكرة أن الشيخوخة تؤذن
بالموت؛ فهل سيموت النهر؟! أثارت فكرة موت النهر الوشيك شيئاً من الهلع في
داخلي، فارتعبت وحولت نظري إلى الأعلى، حيث العصافير والنسيم اللطيف يعزفان في
أعلى أشجار الكالبتوس العملاقة موسيقى اعتدتها منذ الصغر هي خليط من الوشوشة
وغناء العصافير. أخذت رشفة من الشاي، لكنني سرعان ما أقلعت عن شربه. كان شاياً
ثقيلاً ومريراً لم تنجح كمية السكر في جعله أقل مرارة. و في هذه اللحظة حضر
كاظم. ألقى التحية و جلس. رددت تحيته، وطلبت له عصيراً طبيعياً دون أن أسأله،
فأنا أعرف ما يشرب. قلت:
-
لقد أقلقلتني! كنا قبل يومين مع بعض، ولم يكن هناك ما تشكو منه؛ فما الأمر؟
-
الحقيقة يا أخي... (ثم صمت لفترة، مما أتاح لي الفرصة أن أحاول تخمين سبب هذه
الدعوة المفاجئة للقاء سريع، ولكن دون جدوى) في الواقع...
نظرت في عينيه السوداوين اللتين انعكست فيهما شمس الغروب، كانت موجة قلق وحيرة
تشتت نظراته. قلت:
-
نعم، أنا أنصت، تفضل، أكمل!
-
الحقيقة هي أنني أعيش فترة متعبة من علاقتي بليلى.
-
ماذا؟! هل انطفأت نار الحب بينكما بهذه السرعة يا رجل؟
-
كلا، كلا، أرجوك لا تفهم الأمر خطأً! (ثم بعد صمت قصير) جلال! أنت صديقي منذ
الطفولة، وأنت من كان له فضل زواجي من ابنة عمك ليلى(1)؛ ولكن...
ولكن...
توقف عن الكلام، فازداد قلقي. قلت وأنا أشعر بأني لم أعد أملك السيطرة على
صوتي:
-
ماذا هناك؟! تكلم!
نظر في عيني مباشرة للمرة الأولى وقال:
-
لا شيء مما يمكن أن يثير قلقك أنت.
-
إذاً، ما الأمر؟ أرجوك!
غامت نظرته مرة أخرى وهو يقول:
-
الحقيقة أن الأمر يتعلق بزوجها السابق.
-
المرحوم محمود؟! كيف يتعلق الأمر به؟!
-
كيف أوضح لك المسألة؟!
-
تكلم مباشرة! كاظم، نحن أكثر من أصدقاء، فلم هذا الحرج؟!
-
أنت رجل وتتفهم مثل هذه الأمور.
-
نعم، نعم، ثم ماذا؟
-
الحقيقة هي أنني أجد حرجاً كبيراً...
-
تكلم ولا تشعر بالحرج، فنحن اعتدنا أن نطلع بعضنا على مشكلاتنا وأسرارنا.
-
الحقيقة هي أنني أشعر بالحرج حين تتحدث ليلى عن زوجها السابق.
-
لم أفهم! كيف؟
-
أنت تعلم أننا عائلة مكونة من أربعة إخوة وزوجاتنا ووالدتي.
-
نعم أعرف ذلك، فما الجديد؟
-
و نحن غالباً ما نلتقي ونتحدث عن أمور كثيرة، وبعضها قد يكون من الذاكرة. مرة
كان أخي سالم وزوجته يزوراننا، وتحدث سالم عن زوجته السابقة هدى، فأسهمت ليلى
في الحديث وسردت شيئاً عن أيامها مع المرحوم محمود.
-
وماذا في ذلك؟ أعني هل تحدثت في خصوصيات زواجها السابق؟
-
كلا، كلا. ولكن... أنت تعرفني جيداً، أنا لا أهتم لمثل هذه الأمور. أنت تعرفني،
ولكنني أحسست بعد حديثها أن نظرة أخي سالم لي قد اختلفت، وكان فيها... فيها شيء
من الرثاء أو... أو العتاب، أو
ربما الاستصغار! لا شك أنك تقدر حالتي هذه، أليس كذلك؟
-
لعلك تبالغ قليلاً!
-
كلا، كلا؛ ففي جلسة أخرى تحدثت بحضور أخواتي أيضاً عن رحلة ربيعية قضياها في
أحد المصايف. وكيف تسلقا، منفردين، مرتفعاً، وقضيا وقتاً طيباً في أعلاه.
-
كاظم، أنت رجل مهندس ومثقف، وتعلم جيداً أن ليلى كانت تحب زوجها السابق المرحوم
محمود؛ فأنت زميل لهما في العمل، وتعرف كم كانا يحبان بعضهما، ولولا أن
استشهاده في الرمي العشوائي لإحدى شركات الأمريكان الأمنية قبل ثلاثة أعوام قد
جعل منها أرملة حزينة طول الوقت لكانا أسعد زوجين. وحين تقدمت أنت بعد أكثر من
عام من استشهاد زوجها محمود لطلب يدها امتنعتْ عن القبول بشدة، ولم توافق إلا
بعد مرور فترة طويلة، وبعد عدد من المحاولات المتكررة مني أنا ابن عمها وزوج
أختها سالمة. أنت إذاً على بينة من كل هذا، ومن حبها لزوجها السابق، فلمَ تنساق
وراء بعض الأوهام؟
-
لكنه قد مات!
-
فما المشكلة إذاً؟!
-
المشكلة أنها لا تني تتحدث عنه.
-
قل لي بصراحة، أتعاني من برود في علاقتك بها؟
-
ماذا؟! كلا بالطبع، لا شيء من ذلك، فعلاقتنا طبيعية، ولدينا، كما تعلم، طفل
سيأتي إلى هذا العالم بعد بضعة أشهر.
-
فما المشكلة إذاً؟!
-
كيف أشرح لك؟! أنا... أنا... كيف أقول؟!
-
تحدث بصراحة يا صاحبي!
-
هناك ما هو أخطر!
-
ما هو؟!
-
إنها تحتفظ بألبوم من الصور مع... مع زوجها السابق. ومادمت، أنت، قد طلبت مني
أن أتحدث بصراحة، فإنني أقول لك إنني لا... لا أطيق أن أشاهدها أحياناً وهي
تنظر... تنظر ألبوم الصور هذا، ولا
أستطيع أن أمنع نفسي من تصور حالة من التجارب الذاتية بينهما. أنت تفهم ما
أعنيه، أليس كذلك؟
أدركت من اضطراب كلامه أن صاحبي قد أوشك على الانهيار. قلت:
-
اهدأ يا كاظم! لم تشرب العصير.
-
دعك من العصير الآن!
-
أرجوك أن تشرب العصير حتى أستطيع أن أستوعب ما تقول.
-
حسناً!
حين رفع كاس العصير ليشربه لاحظت أنه أوشك أن يدلقه على ملابسه. بدأ يشرب
العصير بسرعة، ثم تباطأ وأخذ يشرب بتمهل، وحين انتهى من ذلك كان قد استعاد
شيئاً من هدوئه. فكرت في هذه الطبيعة البشرية التي يمكن لكأس من العصير أن يؤثر
فيها. قلت:
-
أتتذكر صديقنا ماجد حسين؟
-
نعم أتذكره، وما علاقته بما نتحدث فيه الآن؟
-
ستعرف في الحال. أتتذكر حين زرناه لنبارك له زواجه مرة ثانية بعد وفاة زوجته
الأولى؟
-
نعم أتذكر ذلك. لمَ تصر على الكلام عنه؟
-
ألا تتذكر أننا شاهدنا صورة زوجته الأولى وقد وشحت بالأسود في الصالون، وحين
سألناه عن الصورة وتأثيرها على العروس الجديدة قال: "لقد اشترطت عليها ذلك؛
فأنا لا أتنكر للماضي، وخصوصاً إذا كان جميلاً"؟
-
نعم أتذكر ذلك. ما الذي ترمي إليه؟
-
لا ريب أنك تتذكر الحديث الذي دار بيننا بعد أن خرجنا من بيت ماجد؛ فقد
كنت أنت معجباً بما صنع ماجد. ليس هذا
فقط، بل أذكر تماماً أنك امتدحت ما قاله ماجد أيضاً، أليس كذلك؟
-
الوضع مختلف الآن!
-
كيف؟
-
يا أخي أنا رجل!
-
وإن يكن!
-
يا أخي أرجوك أن تقدر تأثير مثل هذا السلوك عليَّ!
-
إذاً، فأنت ترى أن المسألة خطيرة!
-
أليست هي كذلك؟
-
وماذا تريد مني أن أفعل؟
-
حسناً! لقد فكرت بالأمر طويلاً، ولم أهتد لحل, لذلك فإن لدي اقتراحاً... أعني
أنت ابن عمها، وبمثابة أخيها الكبير، هل... هل يمكن أن تبذل شيئاً من الجهد
لإقناعها أن تقلع عن ذلك؟
-
أن تقلع عماذا؟! ما تعني بقولك هذا؟!
-
أعني الحديث عن المرحوم، والصور وما إلى ذلك.
-
وكيف أفعل ذلك وأنا قد اتفقت معك ومعها ألاَّ أتدخل بأيٍّ من شؤونكما بعد
الزواج؟!
-
يا أخي، أنا أحلك من التزامك هذا، وبقي عليك أن تقنعها بلباقتك المعهودة بذلك،
وأنت تعلم أنها تعدك أخاها الكبير. أعني، غداً هو يوم الجمعة وسنزوركم بعد
الظهر، سأخرج لقضاء بعض الأمور لكي تستطيع أن تتحدث إليها بعدئذٍ.
فجأة صمتت العصافير، فانتبهت إلى حلول عتمة المساء، ولم يبق سوى صوت وشوشة
الريح وهي تتخلل أغصان الكالبتوس العالية، وتختلط معه أصوات حركة سير المركبات
وأبواقها التي تطلق بين الفينة والفينة، فيتكون خليط من موسيقى الريح والأشجار
وضوضاء التكنولوجيا، وهذا الخليط الهجين والمتعب نفسياً قد أمسى مسموعاً بوضوح
أكبر الآن.
*
*
*
منذ أن خرج كاظم متعللاً بأن عليه أن يلتقي صديقاً طلبه على المحمول تواً، وأنا
مرتبك ولا أدري كيف أجد مسوغاً للانفراد بليلى حتى أكلمها بما اتفقنا عليه. لم
أرد أن أطلع أختها سلمى على طبيعة المشكلة بين ليلى وزوجها كاظم(2).
وحين قالت زوجتي لليلى: "آسفة يا ليلى! أريد أن أحمم الصغير أحمد"، أدركت أن
الفرصة قد حانت. وحين بقينا معاً
في غرفة الاستقبال تناهى إلينا صوت زوجتي وهي تبسمل قبل أن تبدأ بتحميم أحمد.
قلت:
-
ليلى! كيف حالك مع زوجك؟
-
بخير والحمد لله.
-
عسى ألاَّ تكون هناك مشكلات!
-
في كلامك نبرة من الشك!
-
ليس شكاً، ولكن... ولكن...
-
أنت مرتبك، وهناك كلام تجد صعوبة في قوله، أليس كذلك؟
-
الحقيقة، نعم. الأمر كما قلت.
-
وأنا لدي ما أقوله،
ولولا أنك بمثابة أخي الكبير، ولولا أنني أخمن ما تريد قوله لما بحت لك به.
-
شكراً لأنك سهلت عليَّ الأمر. حدثني زوجك عن مسألة... حساسة تؤرقه.
-
ماذا قال؟
-
أنك... أنك تسببين له الحرج. تعرفين يا ليلى أن المرأة حين تتزوج ينبغي أن
تراعي أموراً كثيرة.
-
مثل ماذا؟
-
لا أدري كيف أقول لك! يعني أنها أمور...
-
لماذا تتردد؟ هل خرقت جانبا ً أخلاقياً؟
-
كلا، كلا. أرجوك لا تسارعي إلى استنتاج غير صحيح.
-
لعلي أنا أعرف ما تقصد، فقد كانت نظراته وتصرفاته قد اختلفت حين تحدثت عن بعض
ذكرياتي مع المرحوم محمود (صمتت قليلاً ثم أكملت) كما أنني أعتقد بأنه لا يطيق
وجود صور سابقة لي مع محمود، أليس هذا هو ما تريد الخوض فيه؟
-
نعم. لقد شكا لي من أن ذلك التصرف يسبب له حرجاً أمام إخوته، فضلاً عن أنه لا
يرتاح نفسياً لمثل ذلك. وحين ناقشته في الأمر، رأيت أن الحق معه؛ لأن الرجل لا
يرضى أن تنشغل عنه زوجه بأحد آخر.
-
كيف يمكن أن أنشغل برجل رحل عن دنيانا عن رجل حي يملأ وجوده حيزاً في الحياة؟!
قل لي بربك، كيف؟
-
ذلك ممكن. فكما تعلمين أن الماضي قد يكون أكثر تأثيراً من الحاضر.
-
عجباً، أأنت من يقول هذا؟!
-
نعم، أنا من يقول ذلك. ولم العجب؟!
-
أنسيت أنك أول من أنار لي طريق المعرفة وشجعني على القراءة في الموضوعات التي
تمس حقوق المرأة في الصميم، فكانت كتب سيمون دي بوفوار، ونوال السعداوي وأحلام
مستغانمي, وأخريات غيرهن. والآن ترى أن لزوجي حقاً في أن يُغيِّب ذاكرتي! وأية
ذاكرة!؟ أية ذاكرة، يا جليل؟(3) بصراحة أقول لك، إنها ذاكرة لا أخجل
منها، وأحب أن أوضح لك أنها ذاكرة لا تجعلني آنس أنني أعيش مع زوج آخر أو أقصر
في حقه.
أحسست بأنها صارت عدوانية، وأنها ربما تفكر على نحو أناني، دون أن تأخذ بعين
الاعتبار حالة زوجها النفسية، وموقفه من الناحية الاجتماعية. قلت:
-
أرجوك الهدوء! فالمسألة لا تتحمل الحدة في المواقف. أنت على وشك أن ترزقي بطفلك
الأول، ولذا ينبغي أن تفكري جيداً قبل أن تتخذي موقفاً معيناً.
في هذه اللحظة، خرجت زوجتي سالمة من الحمام وهي ما تزال تلف الصغير أحمد
بالمنشفة وتبسمل، نظرت إلى أختها بعين العتب ثم قالت:
-
آسفة ليلى! لقد سمعت أغلب كلامكما حين ارتفعت نبرة صوتيكما، الحق أقول إنك على
خطأ؛ فالله والشرع يعلماننا أن للزوج حقوقاً...
لم تدعها ليلى تكمل كلامها، فردت بالقول:
-
سالمة! حبيبتي! أنا أعرف واجباتي الزوجية
وأؤديها على نحو يرضي الله ويرضيني ويرضي زوجي. لكن المسألة أبعد من ذلك
يا أم أحمد (4).
-
لو كان زوجك راضياً لما اشتكى!
-
على أية حال، لن أعيش إلا صادقة مع نفسي ومع الآخرين.
*
*
*
هنا توقف المؤلف عن الكتابة،
وقرر أن يشرك القراء في مهمة وضع نهاية للقصة. ولكنه وضع عدة سيناريوهات محتملة
للنهاية:
-
السيناريو الأول: يضعه القراء، لذلك فهو سيناريو متعدد الاحتمالات؛ لأن كل
قارئ سيقترح سيناريو مختلفاً عن القارئ الآخر.
-
السيناريو الثاني: أن ترفض ليلى تغيير وجهة نظرها، وتتمسك بموقفها، على
الرغم من المناشدات من جليل وأختها سالمة، فيزداد الوضع سوءاً مع زوجها
كاظم، وبعد محاولات متعددة فاشلة من جليل للتوفيق بين وجهتي نظريهما، ينتهي
الأمر بالطلاق.
-
السيناريو الثالث: إزاء إصرار ليلى على عدم تغيير سلوكها التلقائي،
يسمو كاظم على الحالة النفسية التي مر بها، ويتغلب حبه لليلى على
الوساوس التي تراوده، ويواصل حياته معها، وبعد مدة من الزمن يبدأ هو
نفسه بتذكيرها بأمور كانت قد حدثت وكان لزوجها السابق الشهيد محمود دور
فيها. ونتيجة لذلك، يواجه كاظم عاصفة عاتية من اللوم والتقريع من إخوته
وأخواته ومعارفه؛ لكنه يصمد بوجهها ليبقى بيت الزوجية عامراً، وينشأ
ابنهما نشأة سليمة و طبيعية.
-
السيناريو الرابع: بعد نقاش مطول مع جليل، توافق ليلى على أن تتلف
الصور وألاَّ تذكر زوجها السابق أبداً، سواء بحضور الآخرين أم بغيابهم؛
كونها تدرك أن لزواجها الثاني ولداً سيأتي بعد مدة. فتعيش مع زوجها
كاظم بشخصية تعاني من الازدواجية؛ لأنها منقسمة على نفسها، فهي تتظاهر
بغير ما تشعر أو تفكر به، وتتسلل الظنون إلى تفاصيل الحياة اليومية في
البيت، فينشأ ابنهما نشأة قلقة ومضطربة، بسبب غياب الحب الحقيقي
والصراحة والصدق عن البيت.
هوامش النص التي ستأتي
لاحقاً هي نوافذه وأبعاده المتفرعة عنه. وأنصح القارئ بأن يتعامل معها على أنها
أجزاء أصيلة من النص، وليست مجرد إضافات.
1. بعض الأوراق من
مذكرات ليلى:
أ.
الأحد 24/ 6/ 2007، الساعة العاشرة وعشر دقائق مساءً: اليوم كان عادياً، روتين
العمل نفسه. وفي البيت لم يحدث شيء جديد. عصراً زارنا سالم وزوجته. إنني أحترم
زوجة سالم لذوقها الرفيع في اختيار ألوان ملابسها، ولم يكن زوجها سالم يهتم
كثيراً بذلك، فكانت ألوان ملابسه متنافرة، وكان هذا الموضوع مثار جدال دائم
بينهما. أما اليوم فقد تحدث كاظم وسهير وأم كاظم وأنا عما يحصل في بلادنا من
تخريب وقتل وكيف تحول الحلم إلى كابوس. ولكن سالم حاول أن يغير الموضوع؛ قال
إنه يتذكر نقاشاته مع زوجته السابقة حول أفضل أسلوب لزراعة الحديقة المنزلية،
وأنه كان يريد منها أن تنفذ لا أن تقترح. وردت في خاطري بعض ذكرياتي مع زوجي
السابق. ولا أدري لمَ تغيَّر وجه كاظم وصار معتماً حين بدأت الحديث عن المرحوم
محمود. فجأة لاذ الجميع بالصمت، وسكنت حركتهم وهم ينظرون نحوي. و(كلمة
"رأيت" مشطوبة) شعرت أن
هذا الوضع لم يكن عن اهتمام بما أروي، وإنما... ماذا أقول؟ ربما عن (كلمة "استنكار"
مشطوبة) استغراب؛ لأنني ذكرت شيئاً عن المرحوم محمود وتحدثت عن كيف كنا نناقش
كل صغيرة وكبيرة معاً. ترى هل ارتكبت خطأ ما؟ على أية حال، ليس محمود بالرجل
العادي الذي يستحق أن ننساه، فقد كان يذوب رقة وحناناً. كم كان حريصاً على أن
يمتعني بكل لحظة نكون فيها معاً. وحين أحس بالضيق أعود لألبوم الصور الخاص بي
لأستذكر لحظاتي الطيبة.
ب.
الخميس 19/ 10/ 2006، الساعة التاسعة ليلاً: (أنا الآن أعاود الكتابة بعد
انقطاع أكثر من شهر بسبب الزفاف وما تبعه من ملازمة كاظم للبيت مساءً، فلم أجد
فرصة للكتابة) كان هذا يوماً خريفياً جميلاً. خرج كاظم لزيارة بعض أصدقائه
للمرة الأولى منذ زواجنا. وها أنا أجلس لوحدي بعد ما ذهبت أم كاظم إلى غرفة
نومها. مضى علينا شهر منذ أن تزوجنا. كاظم هو (كلمة "الرجل "
مشطوبة) الزوج الثاني في حياتي. ها أنا أستعيد ليلة الزفاف حين لم أكن
أدري إن كنت في قمة السعادة أم أنني مازلت مجروحة لفقد محمود، ذلك الإنسان
الرائع. في الفراش، كان محمود يجعلني أذوب وأفقد صوابي. تسعة أشهر من الزواج،
كان فيها يبدأ كل ليلة لحظات الفراش (هل كانت لحظات أم حلم؟) بأن يفتح المسجلة
فنسمع أغاني لأم كلثوم أو فيروز أو ربما أغنية "ليل البنفسج" لمظفر النواب
وغناء ياس خضر التي كان يحبها بشكل خاص. وفي الأثناء، وبعد أن ننتشي روحياً
يكون محمود قد تفنن بمغازلتي. كنت أنظر إليه وأنا أكاد (كلمة " أجن"
مشطوبة، أغني فرحاً واندماجاً بهذه اللحظات التي لست أدري ما هي.... فأنا أنظر
إليه بعينين مفتوحين وأحاول أن أمتص وجوده الماثل برسوخ أمامي... وكان هو يتأوه
ويقبل كل بقعة في جسدي، فأكاد أشعر بالكون ينحصر بيننا، فالغابات والأنهار
والجبال تهتز وتنبثق وتختفي ثم تنبثق وتختفي... وأنا أحاول أن أكون فيه، وهو
يندفع بقوة مماثلة لكي يكون في داخلي... (ملاحظة: لقد انقطعت الكهرباء لنصف
ساعة تقريباً). قد يعود كاظم في أية لحظة. كاظم زوجي الحالي رجل (كلمة "
متخلف" مشطوبة) مختلف تماماً. هو أكثر سمرة وأضخم من محمود. وحين
تزوجنا، لاحظت منذ ليلة الدخول أنه كان متوتراً بشكل عجيب، ولم أكن أقل منه
توتراً، كأنه كان يريد أن يقرأ ما في عقلي. أنا لا أنكر أنني تذكرت محمود للحظة
وقارنته بكاظم في تلك اللحظة الحميمة. لكن لكاظم مزاياه؛ إنه أكثر فحولة، ولكنه
لا يهتم كثيراً بما يسبق لحظة الذروة في الفراش ولا بما يتبعها. لا بد لي أن
أعترف بحقيقة مهمة، هي أنه رجل حقيقي يرضي أنوثتي تماماً.
ت. الأربعاء 11/ 5/ 2005،
الساعة الثامنة والنصف مساءً: مر أكثر من عام منذ استشهاد زوجي محمود في حادث
إجرامي لشركة أمنية أمريكية. حينها شعرت أن الكون قد انهار. ولولا أختي وزوجها
جليل والآخرون لكان وضعي النفسي قد انهار. لكن ها هو الزمن يفعل فعله شيئاً
فشيئاً. كنت أقاوم النسيان، لكنه كان مثل فطر وحشي ينتشر في خلايا دماغي
ويجعلني أشعر بالذنب. ومنذ فترة ليست بالقليلة، بدأت أعيد صلتي بالعالم
والأشياء. ومازلت أذكر خجلي من نفسي لأن جسدي بدأ يستيقظ ثانية. كنت بالكاد قد
خرجت للعالم وعدت للعمل حين لاحظت أن طبقات الصراخ المكتوم في داخلي نهاراً
تتحول إلى أنين فاجع في الليل. وما زلت أذكر تلك العبارة (ترى هل يلاحظ الآخرون
ما يجري في داخلي؟) وها أنا أكتبها مرة
ثانية في مذكراتي. وقبل أيام أحييت ذكرى استشهاد محمود، وبكيت، وبكيت وبكيت،
حتى أوشكت أن أمرض من البكاء. لامتني أختي سالمة. ولكن ماذا أفعل؟ هناك ما
يتحرك في داخلي؛ فأنا امرأة، ولست بقادرة على تجاهل علامات الحياة، ولست بغافلة
عن الدمدمة التي بدأ صوتها يرتفع في داخلي. أنا أعرف مساحة ما يخجل، وأعرف
أيضاً أنني لم أخط خطوة واحدة في داخلها، ولكنني أعلم أن ما أمرُّ به لا يعني
مطلقاً أنني سأنسى محمود. لن يكون هناك رجل آخر في حياتي. إذاً، لتصمت أيها
الجسد! وحتى أسكت هذا الجسد المضطرم بالحياة وأسيطر على دمدمته، بدأت أصوم
لفترات طويلة (علقت سالمة على صومي لفترات طويلة قائلة: "احمدي الله على
الهداية! أنت لم تكوني تكملين صوم رمضان. فابتسمت ولم أرد على ما قالت". وكنت
أجهد نفسي في العمل الذي أخذت فيه على عاتقي مسؤوليات كبيرة لا تنتهي في
المكتب، فكنت أجلب معي بعض الخرائط والتصميمات لإكمالها في البيت. البيت الذي
كنت أيضا ً أنجز الأعمال فيهً وحدي. كل ذلك من أجل أن يهدني التعب حد الإعياء
فآوي إلى النوم دون أن أصحو على (كلمة " صراخ" مشطوبة) نداءات الجسد.
بدا عليَّ الهزال. خسرت أكثر من خمسة عشر كيلو جراماً من وزني. لم يعجب ذلك
أختي سالمة، وطلبت مني الانقطاع عن الصوم.
ث.
الجمعة 24/ 6/ 2005، الساعة الحادية
عشرة صباحاً: بدأ ابن عمي جليل بمحاولة الغوص في ما أعانيه، متجاوزاً المحاذير
النفسية، وحواجز الخجل الذي غالباً ما يكون قائماً بين الرجال وأقاربهم من
النساء، ولم يكن ذلك ممكناً لولا
أنه يعرفني عن قرب، ويعرف كم أنا صلبة في الشدائد. بدا عليه كأنه يريد أن
يعيدني إلى التناغم مع إيقاع الحياة. دعاني لإعادة قراءة قصائد الشابي وأدونيس
ومحمود درويش وإيليا أبي ماضي وبلند الحيدري والسياب وصلاح عبد الصبور. قلت له
إنهم تركيبة عجيبة من الشعراء. فقال: "أنت بحاجة إلى مثل هذه الخلطة حتى تتمكني
من الخروج على ما أنت فيه". بعد مدة سألني إن كنت قرأت لهؤلاء الشعراء، فأخبرته
بأنني قد بدأت أتصفح بعض الدواوين وأقرأ فيها، ولكن بدأت أشعر كأنني أقرأ
لهؤلاء للمرة الأولى. وقبل أيام قال لي: "ما رأيك لو أعدت قراءة رواية "زوربا
اليوناني"؟. ابتسمت حينئذٍ ولم أقل شيئاً. وبعد أيام كنت قد انتهيت من قراءة
الرواية فعلمت كم كان اقتراحه هذا ذكياً ومذهلاً في أثره فيَّ. كانت الرواية قد
غسلتني من أدران الخطيئة بحق النفس، دون أن أنسى ضرورة ألاَّ أخطئ بحق الآخرين.
ليس ممكناً أن تكون الحياة حزناً قائماً على الدوام. فلعل محمود سيفرح لو أنني
عدت إلى الحياة. أنا مسرورة لأنني أكتب بسلاسة افتقدتها طويلاً.
ج. الجمعة 15/ 7/ 2005،
الساعة الثامنة مساءً: أمس فقط، وبعد مرور ثلاثة أسابيع، بدأت مقاصد جليل من
مناقشاته معي حول ضرورة العودة للحياة تصبح واضحة بالنسبة لي. أثناء زيارتي
لهم، وبحضور أختي سالمة، بدأ يتحدث عن ضرورة المرأة للرجل وضرورة الرجل للمرأة.
كنت أنصت بصمت. لعله وجد في صمتي ما يشجع على الصراحة، فقال: "الحقيقة يا ليلى
أن أحد الأصدقاء من زملاء العمل، وهو المهندس كاظم، قد كلمني منذ فترة طويلة.
قال إنه يتشرف بالتقدم لطلب يدك، وسألني أن أستطلع رأيك بخصوص قبول الزواج به.
فما رأيك؟". ذهلت، ثم قلت: "ماذا؟ أبعد محمود؟! كلا، كلا.
ح. الاثنين 21/ 11/ 2005،
الساعة السابعة وأربعين دقيقة مساءً: اليوم حاول جليل مرة أخرى، ربما هي
السابعة في غضون بضعة أشهر، بحث موضوع الزواج من كاظم. يبدو أنه لا يتعب.
ولكنني في داخلي كنت مسرورة، لصبر وإصرار كاظم على الزواج مني أنا، دون أية
فتاة أخرى، رغم ما في داخلي من ماضٍ حي وما يظهر على وجهي من حزن عميق. عاد
جليل لطرق الموضوع مباشر، قائلاً إنه يجد ذلك حلاً طيباً لفتاة جميلة ترملت ولم
تبلغ الثامنة والعشرين بعد. لم أرد على كلامه. رفعت رأسي ونظرت في وجهة مباشرة
وقلت: لا شك أن كاظم رجل لطيف ولا غبار على سلوكه اليومي في العمل... وقبل أن
أسترسل في الكلام قال جليل: "أفهم من هذا أنك لم تعودي رافضة لفكرة الزواج؟".
لم أستطع أن أجيب في الحال، ثم قلت: نعم، ولكن... قال: "ماذا؟ هل لديك اعتراض
على شخصية كاظم؟". قلت: "كلا, ولكن لدي بعض الشروط. قال: "لقد خولني كاظم أن
أخبرك بموافقته على كل ما تطلبين". كم كان حديث اليوم مهماً في تحديد مستقبلي.
ترى هل سأستطيع أن أحصل على فرصة العيش بسعادة مرة أخرى؟ لست أدري! ملاحظة: لو
كنت كاتبة لنشرت هذه الصفحات.
خ. الجمعة 12/ 10/ 2007،
الساعة العاشرة مساءً: اليوم كنت في زيارة لبيت أختي سالمة. وفاجأني جليل بطرح
مسألة الشكوك التي يشعر بها كاظم. كنت صريحة معه. أخبرته بأنني لن أمحو ذاكرتي
عمداً، وسأترك للأيام أن تفعل فعلها بالنسبة لكاظم وشكوكه. لست أدري لِم َ كلما
اقتربت منه بمسافة معينة يبتعد هو بمسافة مضاعفة.
2. بعض الصفحات من
ذاكرة غير مدونة لكاظم:
أ. أحببتها ولم أحب سواها.
بالنسبة لي كانت ليلى المرأة الكاملة. وحين تزوجت من محمود أيقنت أن فرصتي في
الزواج قد انتهت. لم أكن اعتقد أنني يمكن أن أحب بهذه الدرجة. وحين فقدنا محمود
في الحادث الإجرامي، أحسست بالخجل من إدراكي أنني كنت أتقلب بين أمرين، فلست
أدري إن كنت حزيناً لفقد محمود أم فرحاً، لأن فرصتي في الزواج لم تنته تماماً؛
على أن أنتظر حتى تمر مرحلة الحزن ثم أتقدم لها.
ب. بصعوبة بالغة استطعت أن
أحدث جليل، ابن عم ليلى وزوج أختها، بمفاتحتها حول رغبتي بالزواج منها. طلب مني
التريث لكنه وعدني خيراً. فأدركت أنني سأحظى بليلى ولو بعد فترة قد تطول.
ت. غداً سيكون يوم زفافي
على ليلى. ها أنا الآن أحاول أن أنام بعد تجاوزت الساعة منتصف الليل. ترى كيف
ستكون ليلتنا الأولى معاً؟! ربما سأرتبك! كيف سأتعامل معها؟! وهي كيف سيكون
وضعها؟! وهل...؟! هل...؟! أعوذ بالله!
3. صفحة من ذاكرة
جليل:
كلما تحدثت إلى ليلى ازددت
خوفاً منها. منذ أيام الثانوية وهي تملك عقلاً متمرداً. كنت بالنسبة لها مثالاً
نموذجياً للمثقف التقدمي. أما سالمة فهي أكثر وداعة وتسليماً بالأمور كما هي.
سالمة أكثر جمالاً، لكنها لا تحب
أن تقرأ شيئاً خارج حدود الفروض المدرسية. إنها مطواعة أكثر. وحين قررت أن
أتزوج من إحدى بنات عمي، تمنيت لو أن شيئاً من جموح ليلى موجود في شخصية سالمة؛
لكن هذا مستحيل. وبعد مقارنة مطولة، فضلت سالمة.
-
صفحة من ذاكرة سالمة:
أختي ليلى تقلقني كثيراً،
لأنها قلقة على الدوام. إنها لا تدرك نعمة الإيمان والتسليم لله. أنا أعرف أن
زوجي جليل يميل إلى الحديث معها؛ لكن على المرأة أن ترضى بالقسمة والنصيب.
وربما يعتقد جليل أنها مثقفة، فهو يقول إنها تلتهم الكتب التهاماً؛ لكن ما
تحتاجه المرأة من التعليم لا ينبغي أن ينسيها طبيعتها الخاصة. وإذا كان استشهاد
زوجها محمود قد ترك في نفسها جرحاً عميقاً فإنه قد منحني الفرصة لأن أقترب منها
أكثر وأن أسمع منها أدق مشكلاتها. وحين أخبرني جليل أن المهندس كاظم يرغب في
الزواج منها فرحت لذلك وشجعته على المضي في جهوده عسى أن تقنع. ومنذ أن تزوجت
للمرة الثانية وأنا أشعر بأنها قد ابتعدت عني مرة أخرى، والله أعلم بالسبب. عسى
أن يهديها الله!
الحلة/ 10- 27 كانون الثاني 2008
|